رحلات بين النجوم مع جاك لُندن
بمناسبة ذكرى مرور 100 عام منذ وفاة الكاتب الأمريكي جاك لُندن، يأخذنا بينجامين برين في رحلة إلى آخر كتاب نشره لُندن في حياته وهو “طوّاف النجوم” The Star Rover والذي يغوص بالقارئ إلى خفايا الحبس الانفرادي وفكرة تناسخ الأرواح، عاكسًا رُؤى لُندن وشقائه.
عشرون مرةً في اليوم، يُبحر القارب الشراعي بالسُيّاح من بلدة لاركسبر بكاليفورنيا الشمالية، شاقًا عباب الأمواج برشاقة نحو مبنى العبّارات بسان فرانسيسكو، مرورًا بتموجات الصخور الحمراء والسهول الذهبية وبيوت القوارب المتناثرة على الضفة. ولا يكاد يمر الكثير من الوقت حتى يترائى لك أفق سماء سان فرانسيسكو بأبراجه الفضية واللؤلؤية المنبثقة من الضباب الدائم الذي يغطي مضيق غولدن غيت. وكثيرًا ما تغفل أحشاد السُيّاح التي تواجه دائمًا ميمنة القارب للتمتّع بالمنظر المُهيب – تغفل عن معلم آخر يقف شامخًا في الخلف، وهو سجن سان كوينتِن.
يقع سجن سان كوينيتِن في ضاحية بغاية الجمال. وبالرغم من أن مبنى السجن المنيع المُحصّن بأقصى درجات الحماية، يبدو كئيبًا بجدرانه المُلطخة ودعاماته الكاثوليكية، إلا أن المناظر التي يطّل عليها بها من السحر والجلال ما يسرّ العين. وفي الليل، تتعالى أصوات صراصير الليل في السهول وتلمع النجوم وسط الضباب في سماء سان فرانسيسكو، مُلقيةً سحرًا على المكان بكل تناقضاته، كأنه منبثق من حلم أو هلوسة. وهنا، في هذا السجن والفردوس، تدور أحداث قصة جاك لُندن “طوّاف النجوم”.
إن محاولة لُندن لغزو عالم الخيال العلمي والفانتازيا جاءت على شكل حوار ذاتي قاسٍ ومختصر حول الحياة في المعزل، هذا الحوار الذي يفتح لنا أبواب الكون المستفيض.
ينتقل صاحب الحكاية، داريل ستاندنج، من عذاباته في السجن الانفرادي وارتداء سترة المجانيين المقيِّدة إلى رحلات وسط النجوم، مُتسلحًا بعصا زجاجية تسمح له بأن يعيش عددا لا نهائيا من الحيوات السابقة، كأن يكون ناسكًا في القرن الرابع، وصيّاد فقمات بسفينة مُتحطمة، وسيّافا من العصور الوسطى، والمُؤتَمن على أسرار بيلاطس النبطي. إنها رواية حول الحرمان الحسّي في واقع مُشترك، والفيض الحسّي في واقعٍ خاص.
إنه كتاب انتقائي بعمق؛ فهو مزيج مُستعار من أصناف الفانتازيا المختلفة: القصص الخرافية والأساطير الإسكندنافية واليونانية، ولكنه بشكلٍ أو بآخر استطاع أن يدمج بين طيّاته مواضيع من قبيل العداء بين عُلماء يو سي بيركيلي والإدمان على المخدرات، والصيادين وجامعي الثمار في العصر الحجري الحديث، والكيمتشي، وكشفا صحفيا لنظام السجون الحديث. ويمكن القول بأن هذه التعدديّة الغريبة هي الفكرة الأساسية من الرواية. ويتطرّق لُندن في سرده إلى العديد من المواضيع، ولكنه دائمًا ما يحوم حول تساؤل مُعيّن، وهو “كيف تتداخل العوالم التي تعيش في عقل مستقل بالواقع المُشترك في المجتمع الحديث؟”
واليوم، في سعينا المحموم نحو مُستقبل مغمور بالواقع الافتراضي والاتصال الرقمي، لدى “طوّاف النجوم” الكثير ليخبرنا به.
إن استحضار الرواية لمفهوم الحبس يتأتى من تجربة أليمة مُباشِرة. فقد نشأ لُندن مُعدمًا وبدون أب، وعاش حياةً قاسية أثناء مُراهقته. في شتاء عام 1894، قضى لُندن 30 يومًا في سجن مقاطعة إيري في بافلو، بتهمة جريمة الصعلكة عندما كان يبلغ من العمر 18 سنة، وهي تجربة حفرت مخالبها آثارًا دائمة في روح لُندن. كتب لُندن في كتاب مذكراته “الطريق” عام 1907: “إن المعاملة الجسدية الرعنة فقط كانت مثالا واحدا على الفظائع غير القابلة للنشر التي كانت تُقترف في سجن مقاطعة إيري.”
“وأقول أن من الفضائع ما هو غير قابل للنشر ولأكون منصفًا أكثر عليّ أن أقول بأنها أيضًا غير قابلة للوصف. لم تخطر الطرق التعذيب تلك ببالي يومًا ولم تكن قابلة للتخيّل أو للتصديق إلى أن رأيتها- أنا الذي عشت عُمرًا في جحيم البشر. إن الوصول إلى قاع سجن مقاطعة إيري يتطلب هبوطًا معنويًا حادًا، وأنا هنا أصوّر القشور فقط كما رأيتها، دون الغوص إلى أبعد من ذلك.”
إن تجارب لُندن في السجن وموجات الهلع التي انتابته في 1893 جعلت منه إنسانًا متطرّفا، إذ انضم في عام 1896 إلى حزب العمل الاشتراكي وبدأ في إلقاء الخطب الحارقة في حدائق أوكلاند. وبحلول الوقت الذي كتب فيه رواية “طوّاف النجوم”- والتي كانت في الأصل عبارة عن سلسلة نُشرت في إحدى المجلات في فبراير 1914- كان لُندن قد ابتعد عن عالم السياسة الاشتراكية. ومع ذلك، فإن الرواية احتفظت بخط رفيع يتمثّل في الواقعية الشُجاعة التي تسترعي إلى الذهن أعمال صديق لُندن،الكاتب أبتون سنكلير. استلهم لُندن فكرة حبس الشخصية الرئيسية داريل ستاندنج في “السترة” من مقابلة لُندن مع إيد موريل، وهو سجين سابق من الغرب القديم عانى من فترة وحشية من الحبس الانفرادي في سجن سان كوينتِن. يجد داريل ستاندينغ رحلاته النجمية وقتا للتأمّل في شرور الحرب الفليبينية الأميركية. “لقد كان من المُضحك رؤية العِلم وهو يُمارس دعارته بكل ما أوتي من إنجازات ومُخترعين أذكياء لإدخال مواد غريبة في أجساد السود بعنف.”
كان لُندن على مشارف إنهاء “طوّاف النجوم” في الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى. وبالرغم من عدم قدرته على توقّع الحتم الكارثي الذي ينتظره في أغسطس من عام 1914، كانت حياة لُندن الشخصية تسودها الفوضى العارمة منذ الصيف الذي سبق . في شهر أغسطس ذاك، احترق منزله “وولف هاوس” في الريف في ظروف غامضة. وفي العام نفسه، كتب رواية “جاك بارليكورن” وهي سيرة ذاتية حول ما يُسميه لُندن بـ”الضوء الأبيض الواضح للكحول”- كونه مُدمن كحوليات بذاته.
في كتابها الرائع “رحلة إلى إيكو سبرنغ: حول الكُتّاب وشرب الكحوليات”، تتفطّن أوليفيا لينغ إلى أن أغلب الكُتّاب من مُدمني الحكوليات، يحومون حول هذا المرض في كتاباتهم، دون الاعتراف بحقيقة إنكارهم لواقعهم الشخصي. في مذكراته الكحولية كما يُطلق عليها لُندن، يتمكّن بشكل أو بآخر من الرقص حول الموضوع ولكن دون الاعتراف أبدًا بضراوة هذه المادة التي كانت سببًا في لقاء حتفه وهو في سن الأربعين. قال أحد معارف لُندن: “اقرأ جون بارليكورن وستعرف ما يُمرضه. إن تراجيدية الموضوع تكمن في أنه غافل عن المدى الخطير الذي وصل إليه.”
ومع ذلك، وفي نقطةٍ ما، أدرك لُندن ذلك، وهو ما تعكسه كتاباته حينها فتكشف عن رجل غاية في الذكاء يحاول قصارى جهده لأن يجد طريقه بين ميتافيزيقيات إدمانه. ونرى ذلك في تجسيد جون بارليكورن للتسمم الكحولي كحوار مع قوة غامضة يُسميها لُندن “المنطق الأبيض”. ونراها في الكتاب نفسه في الإشارة إلى “أرض الحشيش.. أرض الامتدادات الهائلة للوقت والمكان”، ونراها في “طوّاف النجوم” في استخدام داريل ستاندنج للإبر للهروب من خلية السجن (في الوقت الذي أصبح فيه لُندن مُتعاطٍ للمورفين). ونراها كذلك في الدافع الأساسي لطوّاف النجوم والتي لا تنبع من المخدرات أو الكحوليات بل من الوعي- الهلوسات التي يُحدثها الحرمان الحسي.
وباختصار، تدور فكرة الكتاب حول مفهوم جاء به كاتب آخر مُغامر ومتعاطٍ للمخدرات وهو آرثر ريمبود ويصفه بقوله: “التشويش المنهجي لكافة الحواس”.
يحاول الكتاب أيضًا أن يتلمّس التيارات الخفيّة في الدوائر البوهيمية في منطقة الخليج بسان فرانسيسكو في 1910 والتي استوحى منها لُندن الإلهام. كانت تلك فترة زمنية بالإمكان أن يلتقي فيها معتنقي ديانة “أوردو تمبلي” مع أول موجة من الأميركان البوذيين، أو أن يلتقي جيرترود ستاين الشاب بجون موير. مما لاشك فيه بأن رواية “طوّاف النجوم” تربط بين خيوط الكوسموبوليتية في منطقة خليج سان فرانسيسكو ما قبل الحرب.
إن منظور ستاندنج النجمي يستعير من مُلحدي ومُشعوذي فترة ما بعد الفيكتورية، تمامًا كما تعكس رحلاته النجمية افتتان لُندن ببلدان ما خلف المحيط الهادئ. في واحدة من أحداث الرواية، يحاول ستاندنج بطريقته الغريبة في الوصف أن يستعرض لرفيقي سجنه معرفته بالكيمتشي وبأن ألذ كيمشي قد ذاقه تصنعه امرأة من بلدة ووسان ، ليقنعهما بأنه قد عاش حياة سابقة كبحّار تحطمت سفينته في كوريا “والذي عبر ميتات وحيوات مختلفة، أورثني تجربته” كما يقول ستاندنج.
ونستشف هنا روح لُندن ذات الثمانية عشر عامًا التي تصبو لأن يكون “تاجر أدمغة”. كان لُندن يقضي حوالي 19 ساعة يوميًا في القراءة (كما يقول)، وقد درس بجد واجتهاد لامتحان دخول جامعة يو سي بيركلي ، متماهيًا في الحيوات التي كان يقرأها في الكتب، طامسًا روحه في هذه التجربة. وفي رحلاته النجمية هذه، يخطو لُندن خطوةً أبعد ليعيش هذه الحيوات بالفعل، ويتبعه القارئ.
هذه الرغبة في الولوج لعوالم أبعد انبثقت من هوس لُندن بتعليمه الذاتي ومن ثم تحوّلت إلى إدمانه للكحول. وكما كتب لُندن في عام 1913، هنالك نوعان من مُدمني الكحول: الأول من يشرب ليخمد وعيه، مُفضّلًا “الأفيال الوردية” عن الواقع الذي يعيشه، والثاني من يصبو إلى دماغ مخمور عوضًا عن جسد مخمور- أي الهروب إلى الإبداع عوضًا عن النسيان. وصنف لُندن نفسه من النوع الثاني، ويمكننا أن نقرأ “طوّاف النجوم” كمحاولات لُندن ليشذّب منهجيته الفوضوية ويربطها بحبال الإبداع.
ويُشبّه لُندن رُؤاه الهلوسية بالرحلات النجمية لما يُسميّه “أحلام المخدرات والهذيان”، ما يشكّل نوعًا آخرًا للهروب يعرفه لُندن جيّدًا. ويصف آخر كاتب لسيرة لُندن، ألكس كيرشاو، درج مخدرات لُندن بأنه مملوء ب”الإستركنين، والسترونشيوم، والكبريتات، والبيش، والبلادونا، والمورفين وأخيرًا الأفيون- أهم مادة في حياته.”
ومع ذلك، وبالرغم من المواضيع المأساوية التي يتعرض لها الكتاب من الأسر والإدمان والجريمة، تحتفي “طوّاف النجوم” بقوة الحكاية المرويّة لتخطي البؤس الشخصي. إن خيالات ستاندنج وحكاياته هي طريقته في الهروب من الواقع، ويُصّر لُندن بأنه “هروب صحّي”. فيروي ستاندنج: “إن الذاكرة اللامنقطعة تعني الهوس والجنون، لهذا كانت المشكلة التي أواجهها في الحبس الانفرادي مع ذاكرتي اللامنقطعة حول كل شيء، هي مشكلة النسيان.” أن تسجّل كل شيء وألا تنسّى أي شيء- إن معضلة ستاندنج مألوفة لنا، لأننا كذلك جُبلنا عليها ، وقد يكون الحل في الحلّة الإبداعية التي يقترحها “طوّاف النجوم”.
بقلم: بنيامين برين | ترجمة: منال الندابية | تدقيق: سحر عثماني | المصدر