صوت كلمة

عيون لا ترى | قصة قصيرة لـ بدر الشيدي

 

كانا يتلمسانِ الطريقَ يصطدمانِ بالمسافرينَ وعندما وصلاَ عندَ البابِ الزجاجي للمقصورة وقفا أمامَهُ يحاولانِ أن يفتَحَا البابَ. وبعدَ عِدَّةِ محاولاتٍ، دفَعَا البَابَ بقوةٍ ودخَلَا. كانَا يحملانِ كومةَ ملابسَ في كيسٍ بلاستيكيٍ، وضعاهُ أرضاٍ. وظَلَا واقفَينِ يحرّكَانِ يديَّهِمَا في كلِ الاتجاهاتِ. يبدو أنهَمَا يبحثانِ عن مكانٍ شاغرٍ يجلسانِ فيهِ. قال أحدُهُمَا:

-سنجلسُ هُنا، الكرسيُ فارغٌ، لا أحدَ يجلسُ عليهِ. ثم أضافَ:

-اُنظر هناكَ.. انظر. يتكلمُ وهو يشيرُ بالعصا نحو المكانِ.

تحركتُ في مكاني، مُتعمِدًا أن أُحدِث جلبةً. أردتُ أن أُشْعِرَهُمَا بأنني هُنا. تراجعَا إلى الخلفِ. وضعَ أحدُهُمَا عصاهُ على سطحِ الكرسيِّ ليتأكدَ من خٌلوِهِ. جَلسَ وجَلسَ الآخرُ، مُتقابلينِ، وكانت بينهما طاولةٌ صغيرةٌ. أطلقَ الأولُ تنهيدةٍ واسترخى على الكرسيِّ، بينما قال الثاني:

-يبدو أن أحداً في المكانِ. رد عليه الثاني:

-دَعْكَ من هذا ولا تنسَ أن تنتبهَ إلى المحطةِ التي سننزلُ فيها.

لم ينتظِرْ جواباً. سادَ صمتٌ في المكانِ. حركَ الأولُ يدهُ أمامَهُ، كأنهُ يريدُ أن يقبِضَ على شيءٍ. وَجَدَ شيئًا صُلباً. تحسسَهُ بيدِهِ فأدركَ أنهُ طاولةٌ صغيرةٌ. وضَعَ رأسهُ عليها ونام، بينما كان الثاني مُنشغِلًا بتشذيبِ شعرِ لحيتهِ. دخلَ رجلٌ ربما يكون قد أَلِفَ السفرَ. كان يرتدي بَذلةً وكان يضعُ على رأسهِ قبعةً مصنوعةً من القشِ. وقفَ مُنتصِبًا، دون أن يُسلمَ هو أيضًا؛ كأنهُ يبحثُ عن شخصٍ ما. رُبما يبحثُ عن صديقهِ أو عن حبيبتهِ. أخذ يجولُ بنظراتهِ في المكانِ. بالقُربِ من طاولةٍ فارغةٍ أودعَ حقيبتهُ التي كان يحملُها. ودون اكتراثٍ، وَجدَ حَيِّزاً ودسَّ جسدَهُ فيهِ. كانتَ نظراتُهُ مضطربةً تَنُمُّ عن استغرابٍ شديدٍ. كان يحملُ حقيبةً أخرى فوقَ ظهرهِ، أمسكها ووضعَها على الأرضِ بجانبِ قدميهِ، ثم نزعَ الجاكيتَ الرماديَّ وعلّقَهُ في المِشْجَبِ. نزعَ القبعةَ ووضعَها على الطاولةِ الصغيرةِ، كاشفًا عن شُعيراتٍ في مؤخرةِ رأسهِ. كان لونُ بشرتهِ يميلُ إلى الاحمرارِ وفي لحيتهِ الكثةِ اختلطتْ كلُّ الألوانِ الأسودُ والأبيضُ وغِيرُها. جلسَ وضربهُ تيارُ المكيفِ. أطلقَ زفرةً طويلةً وتراخى جسدُهُ على المقعدِ. وضعَ نظارتَهُ على الطاولةِ، ثم دسَّ يدَهُ في جوفِ الحقيبةِ وأخرجَ كتاباً وبعضَ الصحفِ ووضعَها على الطاولةِ. قَرَعَ بابَ المقصورةِ شخصٌ تتدلى من كتِفِهِ حقيبةٌ جلديةٌ فيها أوراقٌ كثيرةٌ. طلبَ مِنا تذاكرَ السفرِ. نظر إلى الشخصينِ الجالسينِ وطلبَ منهما أن يُخرجَا التذكرتينِ، لم يتحركَا. نظر نحوَهُما وأشارَ لهما بأنه يريدُ التذكرةَ. خرج الشخصُ الثالثُ الذي كان يرتدي القبعةَ. غاَب برهةً وعاد يجرُ خلفَهُ حقيبةً كبيرةً، دون أن ينظرَ إلى أحدٍ؛ كأن شعورًا راودَهُ بأن المكانَ فارغٌ لا أحدَ فيهِ إلا هو. لا أعرفُ إن كان قد رآنا.

كُنتُ أراقبُهُ وهو يسحبُ زِرَّ الحقيبةِ دسَّ رأسَهُ في جوفِها وشَرَعَ يُخرِجُ من أحشائِها ما بداخِلِهَا. أخرجَ ملابسَهُ الداخليةَ وألقاهَا فوقَ الكرسيِّ. أخرجَ ماكينةَ الحلاقةِ ووضعها بجانبِ الملابسِ. دسَّ يدَهُ وأخرجَ زجاجةَ عطرٍ. رجَّها بقوةٍ، ثم بخَّ في المكانِ بختينِ.

في هذه الأثناءِ اهتزَّ القطارُ وبدأتْ أوصالُهُ تتجمعُ. أسندتُ رأسي إلى الخلفِ ورُحتُ أنظرُ من النافذةِ الزجاجيةِ. انطلقَ القطارُ بطيئَا. أخذتُ أرقبُ الأشجارَ والبيوتَ، وهي تسيرُ إلى الخلفِ. وصلتْ رسالةٌ نصيةٌ على المحمولِ. نظرتُ في شاشتهِ، لكني لم أتبيّنْ رقمَ المتصلِ. وضعتُ نظارتي فلمَِع اسمُهَا على شاشةِ الهاتفِ. انتهى الشخصُ الثالثُ من إخراجِ كلِ ما بداخلِ الحقيبةِ وفَرشَها على المقعدِ. انتبهَ إلى وجودي. نظرَ نحوي وابتسمَ. لوحَ لي بيدهِ. رُبما يراني بعيدًا عنهُ. ربما يعاني من مرضٍ في عينهِ، يرى القريبَ بعيدًا عنهُ. نظرَ إليَّ مرةً أخرىَ وقفَ ومدَ يدَهُ نحوي، ربما نسِيَّ. ثُمَّ أدخلَ رأسَهُ في الحقيبةِ مرةً أخرى، كأنهُ أغفلَ أن يَُخرج مِنَها شيئاً آخرَ. أخرجَ الهاتفَ المحمولَ.

من خلفِ الجريدةِ التي تظاهرتُ بِقِراءتِها، رُحْتُ أراقبُهُ. كان يضغَطُ على أرقامِ هاتفِهِ بقوةٍ. ينظرُ إلى شاشتِهِ، وبسرعةٍ يضعُهُ على أذُنِهِ. صرخَ بقوةٍ ثم أطلقَ ضِحَكاتٍ مُدَوَّيَةً. نظرتُ من النافذةِ الزجاجيةِ المطلَّةُ على ممرِ القطارِ. كان خاليًا من المسافرينَ. عادَ الرجلُ يتكلمُ بصوتٍ مرتفعٍ، قبل أن يضعَ الهاتفَ على الطاولةِ الصغيرةِ وينشغلَ، مجددًا، بالحقيبةِ.ِ تحركَ الشخصُ الأولُ ومدَ رجلَهُ إلى الأمامِ. لمَسَتْ رجلْهُ الشخصَ الثاني فقفزَ مذعُوراً. بحركةٍ سريعةٍ وقفَ الثلاثةُ معاً، ثم جلسوا دون أن يتكلموا. تنحنحَ الأولُ وهزَ الثاني رأسهُ. قال الثالثُ:

-عندما أسافرُ أحملُ كلَّ شيءً معي في الحقيبةِ.

أسندَ الثاني رأسَهُ إلى الكرسيِّ وأطلقَ ضحكةً مُدَوِّيَةً. أخذَ الثالثُ ينظرُ إليهِ باستغرابٍ. سادَ صمتٌ في المقطورةِ.ِ مرَّرَ الأولُ يدَهُ على سطحِ الطاولةِ الخشبيةِ ثم تراجعَ إلى الخلفِ. قَرعَ بَابُ المقطورةِ شخصٌ يدفعُ عربةً محمّلةً بالشايِِ والقهوةِ والعصائرِ والسندويشاتِ.

نادىَ عليهِ الشخصُ الذي يرتدي البِذْلَةَ وطلبَ منهُ أن يأتِيْهِ بقهوةٍ. ثم صاحَ عليهِ أن يأتِيَ بدلّةِ القهوةِ بأكملِها ويطرَحُها على الطاولةِ أمامَهُ. قرّبَ المحمولَ مرةً أخرى من عينيهِ ورفعَ نظارتَهُ السميكةَ إلى أعلى، ثم غرسَ إبهامَهُ في لوحةِ المحمولِ، التي لمَ يتبقَ مِنها إلا خطوطٌ ضعيفةٌ بالكادِ يُستدَلُّ على أرقامِهَا. ودونَ أن ينظرَ إلى من حولهِ ضغطَ على أحدِ أزرارِ المحمولِ وصرخَ بأعلىَ صوتٍ «ألو.. ألووو».. لكنَّ أحدًا لم يَرُدَّ عليهِ. التفتَ نحوَهُم فشاهدَ الرجلينِ جالسينِ متقابلينِ. قال بصوتٍٍ مسموعٍ «كيف لم أرهَُما من قبِلُ؟!».. تململَ في مِقعدِهِ. ثم رفعَ يدَهَ ولوَّحَ لهَُما محيّياً. لم يردَا عليهِ. انغمسَ هو في الشرابِ الذي أمامَهُ. ورفعَ لهم يدَهُ مرةً أخرىَ. نظرَ في ساعتهِ. أسندَ رأسَهُ وأخذَ ينظُرُ إلى السقفِ.

قام الأولُ من الكرسيِّ وأخذَ يبحثُ عن العصا التي وضعَها بالقربِ منهُ، وجدَها. أخذَها وضربَ بها خشبةَ الطاولةِ. انتبهَ صاحبُهُ وقام َأيضًا. وضعَ كلٌّ منهُما نظارَتَهُ على عينَيهِ وأخذَ يتلمَّسُ المكانَ؛ كأنهما يريدانِ أن يَخُرجَا. كان سمعُ الأولِ والثاني ضعيفاً جداً وكانا لا يبصرانِ. أما الشخصُ الثالثِ فيبدو أنهُ يعاني من مرضٍ نفسيٍ. كانوا مسافرينَ كلُّهُم ، كلٌ إلى وُجْهَتِهِ. تَركْتُهُمْ. الأولُ والثاني يُصْغِيانِ السمعَ ليعرفا المحطةَ التي سينزلانِ فيها. أما الشخصُ الثالثُ فكانَ، كما قال لي، يحملُ كلَّ متاعِهِ في الحقيبةِ.

عندما نزلتُ إلى المحطةِ. لوَّحْتُ لهُم بيدي، اهتزَّ القطارُ ومضى في السِّكةِ .. من بعيدٍ أرقِبُ صُوَرَهُمُ التي ابْتَلَعَها الشارعُ.

محمود البوصافي

الرئيس التنفيذي لشركة سلطانة؛ نائب أمين السر لفريق صقر الجزيرة، عضو في فرقة شباب عمان، معلق صوتي في نادي كلمة، متطوع في مؤسسة إنجاز عمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى