العلوم الاجتماعيةفكر وفلسفة

العالم مكان رائع، فلماذا لسنا سعيدين بما يكفي؟!

من مشاريع الترجمة لطلاب كلية الدراسات اللغوية بجامعة صحار

يقول عالم النفس ستيفن بينكر  Steven Pinker إن القلق قد يكون الثمن الذي يتعين علينا دفعه مقابل الحصول على الحرية

عندما يتعلق الأمر بالسعادة فإن الكثير من الناس لا يجتهدون لتحقيقها،  حيث فشل الأمريكيون دونا عن كل أقرانهم في دول العالم الأول في الإحساس بالرضا، واكتفوا بما نالوه من سعادة في فترة ما يعرف بالقرن الامريكي American Century. فهؤلاء الذين وُلدوا في زمان الطفرة، رغما عن أنهم قد ترعرعوا في سنوات السلام والازدهار، إلا أنهم جيلٌ مضطربٌ تعجز عن فهمهم عائلاتهم التي عاصرت أزمنة الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية، وكذلك المحرقة التي عايشها الكثيرون منهم. وها هي المرأة الأمريكية لا تشعر بالرضا رغمًا عن تحقيقها مكاسبَ غير مسبوقة في الدخل والتعليم والإنجازات الشخصية والاستقلالية بنفسها، و حتى في المجتمعات المتقدمة الأخرى التي أصبحت أكثر سعادة، عجزت المرأة فيها عن اللحاق بالرجل.  لا أحد سعيدٌ كما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الذي يعيش في عالمنا الرائع اليوم. 

لذا يرى بعض الذين تحدثوا في هذا الموضوع أن عدم الإحساس بالسعادة الذي نعيشه اليوم ما هو إلا هو فرصة للمراجعة تحتم على الناس التوقف وإعادة النظر في الحداثة التي يعيشونها، إذ أن الإحساس بعدم الرضا هو نتيجة لعبادة الناس للفردانية والثروات المادية وانحسار دور العلاقات الأسرية والتقاليد والدين والمجتمع.

لقد نسي  هؤلاء الذين يشعرون بالحنين إلى الماضي وحكاياته الشعبية  الصعوبةَ التي قاتل بها أسلافنا للهروب منها في الماضي

لكي يفهم هؤلاء الذين يحنون إلى نمط الحياة القديمة ما ورثناه من حداثة ، عليهم أن يتذكروا كيف أن الأسلاف قد قاتلوا من اجل الهروب من تلك الحياة . وعلى الرغم من أن لا أحد قد استقصى مدى سعادة الأشخاص الذين عاشوا في بعض المجتمعات المتماسكة التي فككتها الحداثة ، فإن الكثير من الأعمال الأدبية التي أُلّفت خلال  فترة التحول من أنماط العيش القديمة إلى الحداثة قد ألقت الضوء على الجوانب المظلمة لهذه المجتمعات مثل التعصب إلى الثقافات المحلية والتوافق مع الآخر والقَبَلية وفرض الأحكام ( الطالبانية) المقيدة لحرية المرأة .

والكثير من أعمال الروائيين الذي ينتمون إلى الفتره الانتقالية الممتدة من منتصف القرن الثامن عشر الى أوائل القرن العشرين قد تناولت معاناة الناس للتغلب على ما هو سائد من أنظمة خانقة على اختلافها ، سواء كانت أنظمة أرستقراطية أو برجوازية أو ريفية. مثال على هذه الأعمال ما أنتجه بعض الكتاب مثل صمويل ريتشاردسون Samuel Richardson و ويليام ثاكراي William Thackeray و شارلوت برونتي Charlotte Brontë و جورج إليوت George Eliot وثيودور فونتان Theodor Fontane وغوستاف فلوبير Gustave Flaubert و ليو توليستوي Leo Tolstoy ، بالإضافه إلى هنريك إبسن Henrik Ibsen ولويزا ماي الكوت Louisa May Alcott و توماس هاردي Thomas Hardy وأنتون تشيخوف Anton Chekhov وسينكلير لويس Sinclair Lewis

وبعد أن أصبح المجتمع الغربي المتحضر أكثر تسامحًا وميلا إلى العالمية تناولت الأعمال الفنية مرة أخرى مظاهر التوتر في الثقافة الشعبية للحياة الأمريكية في البلدات الصغيرة كالأغاني التي كتبها بول سيمون Paul Simon مثل (“في مدينتي الصغيرة لم أقصد أبدًا أي شيء” / كنت مجرد ابن والدي “) و أغاني لو ريد Lou Reed و جون كال John Cale  (” عندما تكبر في بلدة صغيرة / تعرف أنك ستنمو فيها “) وكذلك بروس سبرينغستين Bruce Springsteen (” بيبي “) ، هذه البلدة تمزق عظام ظهرك / إنها فخ للموت، إنها انتحار”). وكلها أغان تضمنتها الاعمال الأدبية للمهاجرين مثل أعمال إسحاق باشيفيس سينغر Isaac Bashevis Singer وفيليب روث Philip Roth وبرنارد مالامود Bernard Malamud و آمي تان Amy Tan وماكسين هونج كينغستون  axine Hong Kingston وجومبا لاهيري Jhumpa Lahiri وبهاراتي موخيرجي Bharati Mukherjee وتشيترا بانيرجي ديفاكاروني Chitra Banerjee Divakaruni.

نحن نتمتع اليوم بعالم يتصف بالحرية الشخصية ويتيح حرية الخيال، حيث يمكن للناس الزواج والعمل والعيش كما يحلو لهم ، لي أن أتخيل ناقدا من نُقاد اليوم يحذر آنا كارنينا Anna Karenina أو نورا هيلمرNora Helmer ‎ أن وجود مجتمع متسامح ومتعدد الأجناس أمر غير مثالي، أنه من دون الروابط الأسرية  والمجتمعية سيعايش المجتمع القلق والتعاسة، لست في مكانة للحديث بالنيابة عنهن ولكن أحسب أنهن سيرين جدوى ما أقصد.

حين يصبح الناس أفضل تعليماً وأكثر ارتيابا في السلطة يشعرون بعدم الارتياح في عالم غير مبال أخلاقيًّا

عندما نكون غير واثقين من تَمتُّعِنا بالحرية اللازمة فإنه يتوجب علينا أن نشعر بالقلق ، وهو ثمن ندفعه في مثل هذه الظروف التي تحتم علينا أخذ الحيطة والتبصر ومحاسبة النفس، وكلها معان تتطلبها الحرية. وليس من المستغرب أن نسبة السعادة قد تقلصت لدى النساء حينما سَعين لاستقلالهن الذاتي ، وتبعا لذلك تعددت مسؤولياتهن عما يقمن به في  حدود منازلهن. وتتزايد أعداد النساء الشابات اللاتي يطمحن لتحقيق أهداف في المجالات الوظيفية والأسرة والزواج والمال والترفيه والصداقة والتجارب الحياتية وتعديل التفاوتات الاجتماعية وأن يصبحن رائدات ومساهمات في مجتمعاتهن. إنها قائمة طويلة من الأشياء المسببة للقلق والمثيرة للاحباط. إن المرأة تخطط و تأمل ، والربُ يقدِّر.

يتحمل العقل البشري عبئاً ثقيلاً لا يقتصر على الخيارات التي تطرحها الاستقلالية الشخصية بل يتعداها إلى مُعضلة البحث عن أجوبة الوجود الكبرى، فحينما يصبح الناس أفضل تعليما ويتزايد ارتيابهم في السلطة يشعرون حينها بعدم الرضا عن الحقائق الدينية التقليدية وبعدم الارتياح في عالم غير مبال أخلاقيًّا حيث فقد الناس الطمأنينة والإيمان بصلاح مؤسساتهم. 

اختار المؤرخ وليام اونيل William O’Neill عنوان (التزايد الأمريكي وسنوات الثقه 1945-1960 ) لكتابه الذي يرصد السنوات التي ارتفعت فيها معدلات الولادة بعد الحرب العالمية الثانية. ففي تلك الفترة الزمنية كان كل شي في غاية الروعة ، كان الدخان المتصاعد من المداخن علامة على العيش برخاء، وأصبحت القنبلة الذرية دليلا على براعة الأمريكيين أصحاب الأصول الأوروبية المعروفون بإسم (اليانكي) ، وأضحت أمريكا مهتمة بنشر الديمقراطية في أنحاء العالم، وها هن النساء يستمتعن بالنعم المنزلية وأخيرا حصل أصحاب البشرة السمراء على حقوقهم . خلال تلك السنوات كانت الأحوال في أمريكا جيدة في الكثير من النواحي، بما فيها ارتقاع معدلات النمو الاقتصادي وانخفاض معدلات الجريمة وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي أضحت شبه منعدمة، أما الآن فهي جنة للحمقى. وقد لا يكون من قبيل الصدف أن محاولات الأمريكيين الضعيفة للإحساس بالرضا إضافة إلى ارتفاع أعداد المواليد في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية هما مصدر الخيبة خلال فترة الستينات. ولو تفكرنا قليلا في أحداث الماضي لرأينا أن الاهتمام بقضايا البيئة والحرب النووية وقضايا المساواة العرقية والجنسية وأخطاء السياسة الخارجية التي وقعت فيها أمريكا ما كان يمكن تلافيها للأبد حتى لو زاد شعورنا بالقلق فكان من الأفضل أن نكون على درايةٍ تامةٍ بها. 

بإدراكنا لمسؤوليتنا الجماعية يمكننا إضافة جزء من أعباء هذا العالم إلى قائمة القلق. وإنني لأشك إنْ كان هناك أي من المعالجين النفسيين في يومنا هذا يستمعون إلى مرضاهم الذين يتحدثون عن مخاوفهم المتعلقة بالإرهاب ، وعدم المساواة في الدخل وعن مشاكل التغيير المناخي. فالقليل من القلق ليس بالأمر السيء إذا كان من شأنه تحفيز الناس على دعم السياسات التي تساعد في حل المشكلات الكبرى.

ربما كان بمقدور الناس في فترات سابقة التخلص من مخاوفهم برميها إلى السلطةِ الأعلى، وما زال البعض يقوم بذلك. ففي عام 2000 أيّد ستون زعيماً دينياً إعلان كورنوال Cornwall Declaration حول الإشراف البيئي الذي عالج ما يطلق عليه مصطلح ” أزمة المناخ “وغيرها من المشاكل البيئية بالتأكيد على ” أن الرب لم يطرد من رحمته أولئك البشر المذنبين ولم يرفض النظم المستحدثة بل هدى الرجال والنساء على مر التاريخ و أرشدهم إلى العمل سويا لزيادة جمال وخصوبة الأرض” . ولا أتصور أن 1500 شخص و أكثر من الموقعين على هذه الإعلان يزورون أيًّا من المعالجيين النفسيين للتعبير عن قلقهم بشأن مستقبل هذا الكوكب. وكما يقول الكاتب جورج بيرنارد شو George Bernard Shaw “إن الحقيقة القائلة بأن الانسان المؤمن هو أكثر سعادة من المتشكك ليست أكثر صحة من الحقيقة القائلة أن الرجل السكران أكثر سعادة من المتزن”. إن قدراً ضئيلاً من القلق سيدفعنا حتما إلى التفكير في ألغازنا السياسية والوجودية، لكن ليس بالضرورة أن يدفعنا هذا القلق إلى اليأس والمرض . 

ليست كل مشكلة هي أزمة تقودنا للذعر ، فمن بين ما يطرأ من أحداث يجد الناس حلولا للمشاكل التي تواجههم 

تتمثل إحدى تحديات التطور و الحداثة في كيفية التعامل مع مسؤولياتنا المتزايدة دون الحاجة إلى أن نقلق حتى الموت. ومع وجود كل هذه التحديات الجديدة علينا أن نتلمس طريقنا للوصول إلى حل نمزج فيه الطراز القديم مع ما استجد من ممارسات مثل التواصل البشري والفن والتأمل والخضوع للعلاج السلوكي والمعرفي والإدراك الذهني والاستمتاع بالملذات الصغيرة ومعرفة الاستخدامات الحديثة للأدوية وتلقّي الخدمات والتعامل مع المنظمات الاجتماعية وطلب النصح والإرشاد من الحكماء عن كيفية العيش على نحو متوازن .  

وعلى وسائل الإعلام التفكر في ما تقوم به من أدوار تدفع بالبلاد إلى القلق والغليان ، فليس بالضرورة أن كل مشكلة هي أزمة أو طاعون أو وباء تستوجب الهلع أو الذعر، فبمقدور الناس حل مشاكلهم كما هو الحال في كثير من بلاد الدنيا. وفي معرض حديثنا عن الذعر، ما هو برأيك أكبر مهدد للجنس البشري؟ لقد أشار العديد من المفكرين في فترة الستينات إلى قضايا الاكتظاظ السكاني والحروب النووية ومشكلة الإحساس بالملل، فحذر أحد العلماء إلى أنه يمكن حل مشاكل الزيادة السكانية والتسلح النووي إلا أن معضلة الملل لا حل لها!

هل حقا الملل مشكلة؟ الذي نراه الان أن الناس ما عادوا يعملون طوال اليوم و لا يفكرون في كيف يؤمنون وجبتهم التالية ، أنهم الان لا يعرفون كيف يشغلون انفسهم خلال الساعات التي لا ينامون فيها، مما جعلهم يقعون فريسة للفجور والجنون والجنوح إلى الانتحار والوقوع في براثن التعصب الديني و السياسي. وبعد مرور خمسين سنة يبدو لي أننا قد نجحنا في حل أزمة الملل ( ربما يمكننا أن نصفها بالوباء) وبدأنا نجرب لعنة  أبوكريفال apocryphal الصينية في وقت مهم.

لكن عليك ألَّا تأخذ كلامي هذا على محمل الجد، فمنذ عام  1973 تطرح برامج المسح الاجتماعي العام على الأمريكيين أسئلةً ضمن الدراسات الاستقصائية عما إذا كان الناس يجدون حياتهم مثيرة أو روتينية أو مملة . وعلى مر العقود ظلت أعداد قليلة من الأمريكيين تجيب بأنهم “في غاية الرضا” بينما يزيد عدد الذين يجيبون بأنهم “يعيشون حياةً مثيرة”. و لا يشكّل مثل هذا التباين بين الإجابتين فارقاً، فأولئك الذين يعيشون حياة ذات معنى هم الأكثر عرضة للضغوط والقلق، ولا تنسَ أن القلق هو أحد متطلبات مرحلة البلوغ، يرتفع بحدة خلال سنوات الدراسة في المدرسة ويستمر حتى بداية فترة العشرين من العمر، حين يبدأ الناس في تحمل مسؤوليات هذه الفترة العمرية إلى الانخفاض بثبات خلال الفترات التالية من الحياة، يتعلم الإنسان خلالها كيفية التعايش معه.

ربما يكون هذا واحدًا من التحديات المصاحبة للحداثة، فالناس اليوم سعداء، لكن ليس بالقدر المتوقع،  قد يعود السبب في هذا إلى تقديرهم البالغٍ للحياة بكل ما تثيره من قلق وحماسة، وفي النهاية تُعرَّف حركة التنوير بأنها “ظهور البشرية من لدن عدم نضجها الذاتي”.


بقلم: ستيڤن پينكر | ترجمة: فاطمة الردينية | تدقيق الترجمة : د. عصام شلال و روان البداعية | تدقيق لغوي: أفراح السيابية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى