صوت كلمة

أن تعيش لتكتب | نص لـ وحيد الطويلة

من مجلة الدوحة

 

 

لَنْ تَكْتُبَ.

قَالَهَا، قَاطِعَةٌ، ثم صَمْتٌ.

كَانَتْ النَّظَّارَةُ تُغّطِّي عَيْنَيهِ بِشَكْلٍ مُتَوَاطِئٍ، كَأَنُهْمَا اِتَّحَدَتَا مَعَّا، ونَظْرَةُ غِلٍّ خَفِيفَةٍ تَكَادُ تَنْطِقُ، رُبَّمَا، سُخْريَةً.. رُبما بَعْضُ الغَيْظِ لِأَنَّنِي أَنِيقٌ، وأَمْلِكُ كُلَّ تِلْكَ المَسَّاحَاتِ الشَّاسِعَةِ مِنْ الكَلَامِ.

ظَلَّتْ مَلَامِحُ وَجْهِهِ مُصِرَّةً عَلَى جُمْلَتِهِ. كُنْتُ أَحْكِي وَسْطَ مَجْمُوعَةٍ مُتَنَافِرَةٍ مِنْ الأَصْدِقَاءِ، كُلُّ وَاحِدٍ أَتَى بِرَفِيقٍ مَعَهُ.. كُنْتُ أَحْكِي- بِتَدَفُّقٍ – حِكَايَاتٍ عَجِيبَةٍ وغَرِيبَةٍ، دَخَلَ جِلُّهَا – فِيمَا بَعْدُ- إلى رِوَايَتِي الأُولَى «ألعَابُ الهَوىَ». لا تَعْرف؛ هل الحِكَايَةُ أَمْ طَرِيقَتِي في الحَكْيِ، هي من رَمَتَ السِّحْرَ بينهم! ما أَتَذَكَّرُهُ أنهم كانوا مَأَخُوذِينَ.

قَالَ أَكْثَرُ مِن وَاحِدٍ؛ لِمَاذَا لا تَكْتُبُ؟

قُلتُ؛ أَخْشَى أَنَّنِي أُفْرِغُ طَاقَتِي في الحَكْيِ، والحَكْيِ المُسْتَمِرِّ .

لَكِنَّ صَاحِبَنَا رَدّ قَائِلاً: لا، هذا لَيْسَ صَحِيحًا، لَنْ تَكْتُبْ.

حِينَ كَتَبْتُ مَجْمُوعَتِي الَقَصَصِيةَّ الأولَى «خَلْفَ النِهَايَةِ بِقَلِيلٍ»، حَرَثْتُ الأرَضَ بَحَثًا عَنْهُ.. بَحَثْتُ عَنْهُ أَكْثَرَ حِينَ خَرَجْتَ «ألعَابُ الهَوى»، كَأنَنِي أُرِيدُ أَنْ أَرْمِي أَمَامَهُ الفَرقَ بَيْنَ الحِكَايْةِ والسَّرْدِ (الشَفَويِّ والمُدَوَّنِ). ها أنا ذَا أَكْتُبُ، لَمْ أَعْثُرْ عَلَيهِ. قِيلَ إِنَهُ هَاجَرَ، وأَنْ أَبَاهُ مَات.

كَاَنْ شَاعراً بِقَصَائِدَ مَحْدُودَةٍ، يَكْتُبُ سَرْداً طِوَالَ النَصِ، ثَمَّ يُنْهِي الَقصِيَدَةَ بِمُفَارقَةٍ، بِصْوتٍ عَالٍ يَسْتَجْلِبُ

التِّصْفِيقَ .

تَعَلَّمْتُ مِنهُ أَنْ أَتَبَعَ رُوحِي، وأَلاَ أَغْرَقَ فِي هَذه الخِفَّةِ، مَهْمَا كَانَ صَدَاهَا عَاِليًا، فِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا.

كُنْتُ مَشْغُولاً بريتسوس، بِالجُمْلَةِ الَّتِي يَكْتُبُهَا غسان شربل، تَحْدِيدًا.

حِينَ أَتَذكَّرُ مَتَى كُتِبَتْ، يَخْطُرُ فِي بَالِي بِلِند الحيدري بِأَنَاقَتِهِ؛ شَكلاً ورُوحاً.كَانَ يَحْكِي لِي عَنْ لَحْظَةِ الهَذَيَانِ المُروِّعِ، التي تَدْهَمُهُ لَحْظَةَ وِلادَةِ القَصِيدَةِ.

كُنْتُ (ومَا زُلْتُ) أَسْتَشْعِرُ تِلْكَ اللَحْظَةِ، أو أُوهِمُ نَفْسِي بِحُضُورِهَا عِنْدَ الكِتَابَةِ. أعْرُفُ- تَمَامًا- أَنَّ الحَفْرَ فِي الكِتَابَةِ السَرْدِيةِ سَوفَ يَرْكُلُ هذه الجُمَلةَ، لَكِنْ لا بَأْسَ. كُنْتُ أَسُوقُ سِيَّارَتِي أَو أَمَشِي فِى شَوارِعِ القَاهِرَةِ على قَدَمٍ ونِصْف.. القِصَّةُ تَتَقَافَزُ فِي رَأسِي، أُوقِفُ سِيارَتِي كَيفَمَا اَتَّفَقَ، وأَعَرُجُ على أَقْرَبَ مَقْهَى لِأُلْقِي بِصَيْدِي، وأَتَلَقَّى العَطَايَا.

حَدَثَ ذلك- بِالضَبْطَ – عِنْدَ أَوَّلِ قِصَّةٍ. كُنْتُ أَمْشِي وأَمْشِي. حتى اِخْتَمَرَتْ، أو ظَنَنَتُ أَنَهَا كَذلك.. دَخَلتُ إلى أَقْرَبِ مَقْهَى، والقَلَمُ فِي جَيْبِي، وعلى أَوَّلِ ورَقَةٍ يَابِسَةٍ لَدَى الَنادِلِ كَتَبْتُهَا.

كَتَبْتُهَا.

ورُحْتُ أُغَنِي كَالمَجْنُونِ، فِي الشَارِعِ.

وكَرَّتِ الحِكَايَةِ.

كَانَ البِسَاطِي رَقِيقَ الحَاشَيةِ، رُغْمَ صَرَاحَتِهِ الشَدِيدةِ.. بَحَثَ عَن هَاتِفِي، اِتَّصَلَ بِي وقَالَ: حِيْنَ قَرَأْتُ قِصَةَ «المَدِينةِ» قَفْزتُ مِنَّ الكُرْسيِّ.

كَانَ المَشْهَدُ مُزْدَحِمًا، وإدوارد الخراط، المُبَشِّرُ بِالحَسَّاسِيَّةِ الجَدِيدَةِ، يُلْقِي بَيَانَاتِ ثَوْرَتِهِ قَبْلَ سُطُوعِ ثَورَةِ الخُمَيْنِيِّ، مِن عَبرَ النَوعِيةِ إلى القِصَةِ القَصِيدَةِ، وغَيْرِهِمَا. كَانَ زَعِيماً بمُرِيدِينَ وغَوَانٍ، وكَانَ تَعْبِيرُهُ الأَثِيرُ، فِي صَدارَةِ كُلِّ نَدْوَةٍ، هو عَلامَةُ الاِحْتِشَادِ. لَمْ أَجْدَ لِي بينهم مُوطِئَ قَدَمٍ، ومَا ذَهَبْتُ. كُنْتُ خَائِفاً مِن تِلكَ الحُشُودِ التِي تَمنحُ صَكَّ الاِعْتِرَافِ، ولا قِبَلَ لِي بِالحُشُودِ التِي تَزأرُ تَحْتَ رَايةِ زَعِيمٍ، إِمَا أَنْ أَكُونَ زَعِيمًا أَو مُغَنِّيًا. لاَ أَمْلِكُ شَجَاعَةَ الجُلُوسِ بَيْنَ مُرِيدِي زَعِيمٍ، لَكِنَّ النُصُوصَ التِي بَاضَهَا المُصْطَلَحُ لَمْ تُوفِ الفِكْرَةَ حَقَّهَا، هُنَا، ظَهَرَتْ قِصَصِي القّصِيرةُ جِداً أو (القِصَصُ القَصَائِدُ) كَما قَالَ إدوار خلف تورجنيف «وإِن لَمْ يَعْتَرِفْ بِهَذَا».

قَرَأَ إِدوار قِصَصِي وَحْدَهُ، وكَتَبَ عَنْهَا (وَحْدَهَا) كِتَابَةَ مَحَبَةٍ، حَتَّى ولو شَابَهَا التَّقْتِيرُ، ومَلأَنِي الزَهُوُ مِنْ اِسْتِقْبَالِ الَنُصُوصِ، ورُحْتُ أَتَخَيَلُ أَنَّنِي مِثلُ «يوزيبيو» لاعِبِ «بنفيكا» والبُرتُغال، الشَهِيرُ. رُحْتُ أَتَخَيَلُ عُنْوانًا مِثلَ العُنْوانِ الذَّي كُتِبَ فِي «البابيس» الإِسْبَانِيَّةِ يَومَ سَحقَ «بنفيكا» «ريال مدريد» في عِزَهٍ، بِتَشْكِيلَةٍ عِمَادُهَا بوشكاش، وديستيفانو، وهيديكوتي، وخنتو: إيوزيبيو: أَنْتَ وَحْشٌ، ورُحْتُ أَتَخَيَلُ العِنْوَانَ: وَحِيدُ الطَوِيلة، أَنْتَ وَحْشٌ.

كَانَ مَوْعِدَ مَعْرِضِ الكِتَابِ قَدْ اِقْتَرَبَ. وحِينَ نُوقِشَتْ المَجْمُوعَةُ، كَانَ هُنَاكَ إلياس لحود، وعبد المنعم رمضان. أَذْكُرُ أَنَّ إلياس قَالَ، وَقْتَهَا، إِنَّ «خَلْفَ النِهَايةِ بِقَليلٍ» تُولِّدُ بِدَايةً جَدِيدَةً، وقَالَ رَفَعَتَ سَلّام أَنَّ نِهَاياتِ القَصَصِ تَشْبَهُ نِهَايَاتِ ريتسوس، وَصَدَرَتْ نَشْرَةُ مَعْرِضِ الكِتَابِ بِعِنْوانٍ يَغِيظُ «يوزيبيو»، و«إدوار» نَفْسُهُ:

وَحِيدُ الطَوِيلةُ يُحَقِقُ إِبْدَاعَ القِصَّةِ القَصِيدَةَ.

فَرِحْتُ لِدَقِيقَةٍ، لَكِنَّ الرُعْبَ ضَرَبَ مَفَاصِلَ الكِتَابَةَ عِندِي، بِقِيَةَ الوَقْتِ، وَرُحْتُ أَبْحَثُ عَن عُرَامةَ الاِحْتِشَادِ.

ودَخَلتُ زَهْرَةَ البُسْتَانِ.

هُنَاكَ أَمَاكِنُ، فِي القَاهِرَةَ، يَصْعُبُ عَلَيْكَ أَنْ تّدخُلَهَا وَحْدَكَ، رُغْمَ أَنْ أَبْوَابَهَا مَفْتَوحَةٌ مِثلَ «الجريون»: سَتَسْمَعُ مِنْ أَحْدِهِمَ أَنَّ العُيُونَ تَكْادُ تَخْتَرِقُكَ، وَأَنْتَ دَاخلٌ، وأَنْتَ فِي الدَاخِلِ. لا تَعْرِفُ لِمَاذَا! عُيُونٌ مُتَلصِصَةٌ تَشْكُو مِنْ عُمَلاَءِ الأَمْنِ، طَوَالَ الوَقْتِ؛ لِذَا تُمَارَسُ الفِعْلَ نَفْسَهُ، عُيُونٌ مٌقْتَحِمَةٌ، و رُبَّمَا- خَائِفَةٌ.

لَكِنَّ مَقْهَى «زَهْرَةَ البُسْتَانَ» مَفْتُوحُ الأَبَوابِ، وإِنْ كَانتَ مُقْفَلةُ القُلُوبِ . كُتَّابٌ يَأَكُلُ بَعْضَهُمْ بَعْضَا، ويَأْكُلُونَ البَعِيدِ، هُنَالِكَ نَظَرِيةٌ غَيرُ مَكْتُوبَةٍ تَقَو لُ إِنَّ الكَاتِبَ الَّذِي يَذْهَبُ إِلى دُولِ الخَلِيجِ يَجِبُ شَطْبُهُ، فَوراً، مِنْ اللاَئِحَةِ المُبَجَّلَةِ للمُبْدِعِينَ، لَكِنَهُ لَو ذَهَبَ إِلَى كَنَدَا أَو فرنسا فهو مُبْدِعٌ وثَائِرٌ.

مَا عَلَيْنَا.. دَخَلْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ بَعْضِ القِصَصِ، وكَانَ لاَ بُدَّ مِنْ مَرَاسِمِ التَعْمِيدِ. قَالَ لِي وفيقُ الفَرماوي، وهو قَاصٌ حَاذِقٌ وشَخْصٌ مَاكِرٌ، يَرى نَفْسَهُ أَفْضَلَ مِنْ «تشيخوف»: حِيْنَ سَأَلْتُ عَنْكَ قَالوا: «وَاحِدْ عَاوِز يِبْقَى كَاتِبْ».

لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ كَرَاسٍ خَالِيةٌ جَنْبَ المُبْدِعِينَ إِلاَ للمُبْدِعِينَ أَو أَتْبَاعِهِمْ، وبَعْدَ القِصَةِ القَصِيدَةِ وَجَدْتُ مِقْعَداً خَالِيًا لِي.

كُنْتُ أَخْرُجُ مِنْ الجَامِعَةِ العَرَبيةِ القَرِيبةِ، حَيْثُ أَعْمَلُ، إلى المَقْهَى، وسِيمًا أَنِيقًا، مُفْرِطًا فِيهَا (لاحظ نَرَجِسيَّتِي)، بِلُغَةٍ أَنِيقَةٍ، أَنَاقَتُهَا لا تَجْرَحُ وحْشِيتَهَا ولا بَعْضَ الشَّرِّ الضَروريِّ جِداً للكِتَابِةِ. قال آدم فتحي الشاعرُ والُمثَقَفُ التونسيُّ والمُهَذَبُ، دَومًا، وهو يُمْسِكُ بِ «خَلَفِ النِهَايَةِ بِقَلِيلٍ»: لِمَاذَا لا تَعْتَرِفُ أَنَكْ تَكْتُبُ قَصِيدَةَ النَثَرِ.

قُلْتُ، وأَنَا أَبْتَسِمُ: أَعْتَرِفُ.. أَعْتَرِفُ تَمَامًا.

لَمْ أَعْرُف، سَاعَتَهَا، إِنْ كَانَ مَدْحًا أَمْ ذَمًا.. قُلْتُ لِنَفْسِي: هَذِه القَصَصُ حَالَةٌ أَعِيشُهَا، أَتَنَفَسُهَا، وهِي حَظِي مِنَ الكِتَابَةِ، حَظٌّ طَيبٌّ.. لاَ تَترُكْهَا، يا ابنَ الطَويلةِ؛ لِأَنَكَ لَو فَعَلْتَ فَلن تَعُودَ إِليهَا، ولَنْ تَعُودَ إليكَ.

هَذِهِ القَصَصُ تُشْبِهُنِي، هِي أَكْثَرُ مَا يُشْبِهُنِي

الآن، لَمْ أَعْدَ أَكْتُبُهَا إِلاَ فِي الأَحْلامِ، ولاَ أَعْرِفُ إِنْ كُنْتُ أَقْنَعْتُ، أو أَوهَمتُ نَفْسِي بِذَلك، أو أَنَنِي طَرَدتُ الحُبَّ الطَاهِرَ الصَافِي، فَاسْتَعْصَى عَليَّ، لَكْنَّ القِصَصَ تَبْدُو لِي، دَومًا، طِفَلاً بِكْرًا مُشَاكِسًا وشُجَاعًا. رُبَّمَا، عَلَمتنِي الجَرَأةَ عَلى الَلُغَةُ.

«اُكْتُبْ وأَنتَ واقفٌ».

جُملةٌ أُعْلِقُهَا على كَتِفَيَّ، مُنْذُ كَتَبْتُ المَجْمُوعَةَ الأُولَى، أَكْتُبُ جُمْلَةً قَصِيرَةً كَيّ أَلَحَقَ بِالوحْي، كي لا تَؤْلِمَنِي قَدَمَاي، أو لِأَنَنِي – وهَذَا هو الأَرَجَحْ – أَرَى العَالمَ والجَمَالَ على تِلكَ الشَاكِلةِ. أَكْتُبُ، أَحْيَانًا، بِعَجْلَةٍ، كَأَنَهُ يُمَلَى عَليّ. صَادَفَ هَذَا العَامَ أَنَّ هيمنجواي قَالَهَا، يَوماً. نعم، أَكْتُبُ وأَنَا وَاقِفٌ. مِنْ يَومِهَا، لَيْسَت لَدَيّ جُمْلَةٌ طَوِيلَةٌ حَسْبَمَا أَتَذَكَرُ، حتى في «بَابُ اللِيلِ»، رِوايتِي الأَخِيرَةُ، كُنْتُ أَسْتَشْعِرُ أَنَّ «خَلَفَ النِهَايَةِ بِقَلِيلٍ» حَاضِرَةٌ لأَولِ مَرةٍ، مُنْذُ زَمَنٍ أَمَامِي .. كُنْتُ قَدْ نَسِيتُهَا، تَمامًا، لَكِنَّنِي بَعْدَ فَتْرَةٍ، اِكْتَشَفْتُ أَنَّ الجُمْلَةَ حَاضِرَةٌ، بِقوةٍ.

سَأَدْعِي – وهذه نرجسيةٌ أُخَرَى – أَنَنِي أَكْتُبُ كُلَّ كِتَابٍ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عما هي في سَابِقِهِ، وأَنَّ مَجْدِي هو شَجَاعَتِي فِي رَميِ مَا بَزَغْتُ فِيهِ، لَكن جُمْلَةَ تَلْكَ القِصَصِ كَانتَ حَاضِرَةً فِي رِوايَتِي «بَابُ الليلِ»، وإِنْ بِطَرِيقَةً أُخْرَى. كَانَ سُؤَالِي: كَيْفَ تَصْنَعُ نَصًا سَرْدِياً بِنَفَسٍ شِعْرِيِِّ، دُونَ أَنْ تُعَطِّلَ السَرْدَ؟

الشَاعِرُ محمد عيد إبراهيم الذَّي أَحَبَّ «بابُ الليلِ»، يَقُولُ دَائِمًا: «إِنَنِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْتَخْرِجَ لَكَ مَقَاطِعَ كَامِلَةً، مِنْ الرِوايَةِ، كَقَصِيدَةِ نَثْرٍ».

رُبَمَا، لاَ ظِلَّ نِهائِيًا لِلمَجْمُوعَةِ، فِي الرِوايَةِ، وإِنَنِي- بِهَذَيَانِي- مَنْ أَدَّعِي هَذَا، لَكِنَنَي كَتَبْتُ وَاقِفًا، فِي الاِثْنَتَينِ وفِي غِيرِهِمَا. الفَارِقُ أَنَنِي بَعْدَ «خَلَفَ النهايةِ بقليلِِ»، وبَعْدَ «بَابُ الليلِ»، كُنْتُ أُغَنِي بِمِزَاجٍ عالِِ.

كَانَ يحيى الطاهر عبد الله يَحْفَظُ قِصَصَهُ ويُغَنِيهَا، وأَنَا أُفْعَلُ مِثْلَهُ وأُغَنِيهَا، بِالإِضَافَةِ إِلى أَنَنِي مُغنٍّ، بِالأَسَاسِ، «وأَنتَ الأَسَاسُ»، كَمَا يَقُولُ زيادٌ وفيروزُ. يَبْدُو أَنَّ جُرعَةُ الحِقْدِ لَمْ تَكُنْ كاَفِيةً لِتَنتَشِر هَذِه المِيزَةُ عَنِي، فِي البِدَايَةِ، لَكِنَنِي حِينَ أَقْرَأُ قِصَصَ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ على جَمْعٍ، فِي نَدْوةٍ، أَتَحَولُ إلى شَاعِرٍ يَصْعَدُ بِقِصَّتِهِ القَصِيدَةِ إلى الأَعَالِي (لاحظ أن النرجسيةَ اِكْتَمَلَتْ).. أَقْرَاُ كَمُصْلِحٍ وشَيطَانٍ وعَازِفٍ، أَقْرأُ وأنا أَسْتَحْضِرُ أَلَعَابَ فيلليني، حِيْنَ كَانَ يَصْعَدُ إِلى المَسْرَحِ فَينَسَى خَجَلَهُ. هَل لِلكِتَابِ الأَولِ طَعْمُ الحبِّ الأَولِ، تَلُوذُ بِذِكْرَاهُ كُلَمَا تَقْلَّبَتْ عَلَيكَ القِصَصُ والكُتُبُ، أَمْ أَنَّ الأَمرَ مُخْتَلِفٌ فِي الكِتَابَةِ، يَتَطَلَّبُ حُبًا أَروعَ مِنْ سَابِقَيهِ، يَسْتَوجِبُ دَفْنَ القِصَصِ القَدِيمَةِ، وإن دَاومْتَ على طُرِقِ الغَزَلِ نَفْسِهًا؟ أُفَكِرُ، أَحْيَانًا، أَنْ أَطْلُبَ مِنْ أَخِي المُغَنِّي أَن يَدْفِنَ مَجْمُوعَتِي وورِوَايَتَيَّ  «ألعابُ الهوى» و«بابُ الليلِ» معِي، لولا خَشْيَتِي أَن يَحْرِقَ المُتَرَبِصُونَ الَّذِينَ زَادَ عَدَدَهُمْ على نِصْفِ تِعدادِ القريةِ، قبري.

اِسْتَعَنْتُ بِأَسْمَاءَ حقيقيةٍ لِبَشَرٍ فِي قَرْيتِي، حتى ولو كَانتْ الحِكَايَةُ بَعِيدَةً عَنهُمْ، وكَتَبْتُ عِنْ شَخْصِيَاتٍ أَخْرَى حَقِيَقِيةٍ، بِأَسْمِاءَ حَقِيقِيةٍ أُخْرَى، كَانَوا كُلُّهُمْ مِن (الغَلاَبَةِ) المُحَمَّلِينَ بِأَشْوَاقٍ أو كَوابِيسَ، بَعْضُهُمْ كَانَ يَحْمِلُ الشَيْطَانَ على ظَهْرِهِ، فِي وَضَحِ النَهَارِ، وبَعْضُهُمْ لا يَنْتَظِرُ مِنْ الدُنْيَا سِوى كِسْرَةِ خُبَزٍ وبَعْضِ حَنَانٍ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْنِهِمْ العُمْدَةُ، ولا سَعَادَةُ وكِيلِ النِيابَةِ، ولا زُوجَةُ المَأمُورِ.

تَقَدَّمَتْ أُمِّي التي كَانت أَولَ اِمَرَأةً، فِي مَنطِقَتِنَا، تُدَوِّنُ اِسْمَهَا فِي قَوائِمِ الاِتِحَادِ الاِشتِراكيِّ، فِي عِزِّ أَيَامِهِ، ولَدَيَهَا صُورَةٌ شَهِيرةٌ مُعَلَقَةٌ فِي غُرفةِ الضُيوفِ، مَعَ رَئِيسِ مَجْلِسِ الشَعْبِ الذي اِتَخَذَ دَائِرتَنَا مَكَانًا لهُ لِيقْفِزَ على الُسلطَةِ ، تَقَدَّمَتْ مِنِّي وأَنَا جَالسٌ وَسَطَ خَمَسِينَ وَاحِدًا، على الأَقلِ، وَوَجَهَتْ الكَلاَمَ إليَّ بِلَهَجَةٍ زَاجِرَةٍ: يَا بُنِّي، اُكْتُبْ عَنْ أُنَاسٍ مَحْتَرَمِينَ.

رانيا فرحات

نبتة على صفحة ماء ، تسير في تيار موجة إنتقتها لذاتها ، تتنسم العبير بشغف فتنثر العبير ليملأ الأنحاء. بكال،ريوس إدارة اعمال من جامعة عين شمس. ماجستير التدريب والإرشاد المهني من جامعة إستانفورد. مدرب تطوير الذات ومستشار تربوي أسري من المعهد الكندي العالمي مقدمة إعلامية ومعلق صوتي في نادي كلمة. مدرب ومستشار الذكاءات المتعددة بالمعهد الأمريكي للتعلم والتنمية البشرية. مدرب ومستشار مهارات الطريق إلى العبقرية بالمعهد الامريكي للتعلم والتنمية البشري ( AIFLAHD). مدرب القيادة بالكاريزما بالمعهد الوطني الامريكي للقيادة والكاريزما (NAIFLAC) لايف كوتش لإدارة إنتاجية الذات بمعهد الإنتاجية بالولايات المتحدة. عضوة بنادي خير جليس للقراءة. هاوية للقراءة والكتابة ولي مقاطع شعرية بالفصحى والعاميَّة. عضوة بنادي تميم توستماسترز للخطابة باللغة العربية. عضوة بمركز الفيصل للمسؤولية المجتمعية. شعاري بالحياة كلما سعيت في طريق الانجاز خطوة بخطوة كلما حصلت على الكثير وأصبحت أكثر شغفا .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى