العلوم الاجتماعيةعلم الاجتماع

عن الأمور التي نكنُّ لها التقدير الحقيقي

يُمتَحَن ثباتُنا على قِيَمنا حين نخوض كوارث حقيقية، وقد تكون فرصةً سانحةً لإعادة اتصالنا بهذه القيم، وتجديد التزامنا بها، وكذلك لخَبز الخُبز بين الفينة والأخرى.

لقد أثَّر تفشِّي ڤايروس كورونا في حياة الناس في جميع أنحاء العالم، ليس فقط على الجانب الصحي، بل المادي والعاطفي والاجتماعي كذلك. وفي الوقت الذي نجاهد فيه أنفسنا للتكيُّف مع الظروف الجديدة، قد تبدو فكرة دفن رؤوسنا والانتظار لحين انتهاء كلُّ شيءٍ وعودة الأمور لطبيعتها فكرةً مغرية. إلا أنَّه بإمكاننا أن ننظر إلى الأمور على أنها فرصةٌ عظيمةٌ لنكتشف ذواتنا. 

ولعلَّ ما يكتشفه العديد منَّا الآن هو أنَّ الأمور التي كنَّا نكنُّ لها التقدير في الشهور الماضية هي في الحقيقة ليست مهمَّة: السيَّارات التي نمتلكها والمسميات الوظيفية التي تسطِّر بطاقات عملنا والأحياء المميَّزة التي نعيش فيها. بل على العكس، ما يشغل بالنا الآن هو التحوُّل لمعرفة الأمور التي تمنحنا شعورًا بالرضى لجوهرها وليس مظهرها.

حين تتَّسم الأمور حولك بالسهولة، قد يبدو لك أنَّك فهمت حياتك بكلِّ تفاصيلها. ولكن عندما يتغيَّر الحال ويحين الوقت لأن تطبِّق ما فهمته، فذاك أمرٌ مختلفٌ تمامًا. كذلك حين تصف نفسك بأنك رزينٌ عندما يندلق كوب قهوتك ليس مثلما تصف نفسك بذات الوصف حين تشهد انهيار مجتمعك. لذلك عندما تصبح الحياة صعبة، فإنَّك تلاحظ بأنّك لم تكن مضطَّرًا يومًا أن تطبِّق ما كنت تحسب أنَّك تعرفه عن التكيُّف مع المصائب.

لذلك كل شيءٍ يصبح على المحك لحظة وقوع الأزمات

ويكمن التحدي حينئٍذ في تلبيس قِيَمنا لباس صراعاتنا؛ ذلك لأنَّ قيمنا تستحق أن نسميها ذلك فقط إذا كانت ذات أهميةٍ في الوقت الذي تكون فيه الحياة صعبة. ولمعرفة ذلك، ينبغي أن تدفعك قِيَمك للأمام حين تكون بالكاد قادرًا على الوقوف على قدميك وترى العقبات أمامك عصيَّةً على التجاوز. 

حين نواجه أزمةً ما، تصبح الأمور المهمَّة لنا جليَّةً حين نمنح أنفسنا المساحة الكافية للتفكير في الأمور التي ستعبر بنا بحر الأوقات العصيبة إلى برِّ الأمان؛ الأمر الذي يجدِّد فينا التزامنا للعودة إلى أولوياتنا الأساسية. وبذلك يسقط ما كان مهمًا سابقًا ليكشف الغطاء عمَّا هو مهمٌ بكلِّ معنى الكلمة؛ العائلة والحب والمجتمع والصحة. 

كنتُ في سن 32 حين بدأت ممارسة الطهي، حتَّى تلك اللحظة كنت فقط آكُل جوليا تشايلد

ويُعدُّ الخَبْز أحد الأنشطة غير المتوقعة الذي بدأ العديد من الناس بممارسته بعد أن مارسوا التأمل الداخلي أكثر وأصبح لديهم الوقت الكافي لذلك، بل إنَّ عدد العمليات على محرك غوغل بحثًا عن وصفات الخُبز قد ارتفعت ارتفاعًا ملحوظًا.

يشكِّل الخَبْزُ تجربةً جسديةً بحتة بدءًا بعجن الطحين وتذوُّق الخليط واستنشاق رائحة المكوِّنات وهي تختلط ببعضها. وهو كذلك نشاط يتطلب التحلِّي بالصبر؛ فعلى عجينة الخبز أن تتخمر وعلى الفطائر أن تنطبخ وعلى الكعك أن يُترك ليبرُد قبل تزيينه. وبالرغم من أن الخَبز يتطلب اتِّباع الإرشادات، إلا أنّه يحيي روح الإبداع فينا وذلك باستخدام المكوِّنات المتوفرة لدينا في المطبخ. وهكذا نكتشف نكهاتٍ جديدةً، وتبعث فينا النتيجةُ النهائيةُ السلوى، وكذلك فيمن حولنا، فعادةً ما نتقاسم المخبوزات مع الآخرين وبذلك نمنح أحبابنا ما يحتاجونه.  

وقد نتساءل هنا، لِمَ يُعدُّ الخَبز مفيدًا حين نمر بأوقاتٍ عصيبة؟ أوضح دينيس ترتش في كتابه التغلب على القلق “لقد أظهرت الأبحاث أنَّه حين ينشغل الناس انشغالًا تامًّا في سلوكياتٍ تمنحهم مشاعر الرضا والإجادة، فإنَّهم سيتمكَّنون من التغلب على المشاعر السلبية.”

حين يقضي الناس وقتهم في المنزل وسط أحبابهم، فبإمكانهم إعادة التفكير في الأمور التي يقدِّرونها وهم يتناولون الكعك على مهل. كما أنَّ صُنع الأشياء مع من نحب بدلًا من الاستهلاك ونحن وحدنا يتيح لنا التركيز على ما هو مهم في الوقت الذي يتغيَّر فيه العالم من حولنا. وحين نمنحها قسطًا أكبر من وقتنا، تأخذ الأمور التي قد تبدو هدرًا للطاقة والوقت معنًى جديدًا، ذلك لأنَّها تعيننا على توجيه أنفسنا نحو الصفات الأهم في الحياة.

وليس بالضرورة أن تمارس الخَبز لكي تمنح نفسك مساحةً لمراجعة قِيَمك. ما يعدُّ مهمًا هو أن تعثر على  نشاطٍ يعينك على تجاوز مرحلة الخوف والهلع لتصل إلى الأمور التي تزيِّن حياتك بالمعنى، فعندما تمارس نشاطًا يشعرك بالرضا ويبعد عنك المشاعر السلبية، يساعدك ذلك على إعادة اكتشاف ما هو مهمٌ بالنسبة لك.

يسبِّب التغييرُ القلقَ، غير أنّه لا يتوجب على التغيير ولا القلق أن يكون مدعاةً للخوف. وإن تمعَّنت في التفكير، سترى  أنَّك تمر بلحظاتٍ من التغيير يوميًا؛ لأنَّه لا شيءَ يبقى في حالة سكونٍ في الحياة. بل إنَّ حياتنا عمليةُ تكيّفٍ مستمرَّة لعالمٍ ما فتئ يتبدَّل.

يحمل التغيير في طيَّاته الفرص، فبعض التغييرات تجلب معها الفرصة لأنْ نقف لوهلةٍ ونتأمَّل ما يمكننا أن نفعله لنصبح أفضل وكيف بإمكاننا أن نعزِّز صلتنا بما هو مهم، حيث إنَّ هذه الصِّلات ليست محض نشاطٍ عقلي مجرَّد، بل هي تجربةٌ تعيد توجيهنا إلى القِيَم التي تمنحنا القِبلة في حياتنا. وإذا ما بحثت عن الفرص المنسجمة مع قِيَمك، فستصبح قادرًا على رؤية الطريق الذي سيعبر بك بعيدًا عن الحيرة والخوف، يقودك في ذلك ضوء الأمل.


تحرير: Farnam Street | ترجمة: بدور الجابرية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى