الإدارة العامةالعلوم الاجتماعية

الأسباب وراء اشتغالنا بتوافه الأمور: تأثير “مرأب الدراجات”

يشكِّل "مرأب الدراجات" تعبيرًا مجازيًا عن ميولنا الغريب نحو قضاء أوقاتٍ طويلة على أمورٍ لا قيمة لها، متجنّبين بذلك أمورًا أخرى أكثر أهمية. لذا سنتطرق في هذا المقال إلى الأسباب وراء هذا السلوك وكيف نمتنع عنه.

كيف نتوقّف عن تضييع وقتنا في التفاصيل عديمة الأهمية؟ فبالنظر إلى أمورٍ مثل اجتماعات العمل التي تبدو وكأنَّها تطول إلى الأبد دون تحقيق فائدةٍ تذكر وإلى السلاسل من البريد الإلكتروني التي تمتَّد أسابيعَ دون إيجاد حلٍ للمشكلة محل النظر، يُلاحَظ بأنَّنا نقضي وقتًا طويلًا، بل ومبالغًا فيه، في أمورٍ لا طائل منها. وعندما تحين اللحظة لاتِّخاذ قرارٍ مهم، فإنَّنا لا نملك الوقت الكافي لنعطي القرار مساحته من التفكير.

ولنجيب على هذا السؤال، ينبغي علينا أولًا أن نفهم لِمَ ننغمس في توافه الأمور، بعدها يمكننا النَّظر إلى طرقٍ تعيننا على تغيير كيفية الحصول على ما هو مفيد وأن يكون لدينا الوقت الكافي للتمعّن فيه.

قانون التفاهة

قد سمعت على الأرجح عن “قانون پاركنسون” الذي ينصُّ على أن تنفيذ المهام يتمدد ليملأ الوقت المخصص لإنجازها. إلا أنَّك غالبًا لم تسمع عن قانون پاركنسون للتفاهة والذي ابتكره المؤرخ والمؤلف البريطاني سايرل نورثكوت پاركنسون في خمسينيات القرن الماضي.

حيث ينصُّ قانون التفاهة على أن مقدار الوقت الذي تقضيه أي مؤسسةٌ في مناقشة مسألةٍ ما يتناسب عكسيًا مع أهمية هذه المسألة عند النظر إلى الأمور نظرةً شمولية؛ فتأخذ المسائل الأهم والأكثر تعقيدًا الحيِّز الأصغر في النقاش بينما تُناقَش المسائل البسيطة والثانوية نقاشًا مستفيضًا.

ويُعرف قانون پاركنسون للتفاهة أيضًا بـ”نقاش مرأب الدراجات” نسبةً إلى المثال الذي استخدمه پاركنسون لتوضيح هذا المفهوم، حيث يطلب من القرّاء تخيّل اجتماع للجنةٍ مالية تناقش النقاط الثلاث الموجودة في الأجندة كالتالي:

  1. مقترح لإنشاء محطة للطاقة النووية بتكلفة 10 ملايين پاوند
  2. مقترح لإنشاء مرأب للدراجات بتكلفة 350 پاوندًا
  3. مقترح لميزانية سنوية للقهوة بتكلفة 21 پاوندًا

ما الذي سيحدث؟ سينتهي الأمر باللجنة إلى النظر لمقترح المحطة النووية نظرةً خاطفةً في وقتٍ قصير، فالمقترح متقدمٌ للغاية لأيٍ منهم للدخول في تفاصيله، بل معظمهم ليس لديهم أدنى فكرة عن الموضوع. وبالرغم من أنَّ أحد الأعضاء لديه معرفةٌ عن الموضوع إلا أنَّه غير متأكِّدٍ كيف له أن يشرحه للآخرين. وقد يقترح عضوٌ آخر إعادة تصميم المقترح ولكنَّ المهمَّة هذه تبدو ضخمةً، الأمر الذي يستدعي اللجنة رفض دراسته.

ينتقل النقاش بعدئذٍ إلى مرأب الدراجات، والذي يشعر الأعضاء بأريحيةٍ أكبر في طرح آرائهم عنه. فجميعهم يعرف ما هو مرأب الدراجات وكيف شكله، فقد يبدأ بعض الأعضاء نقاشًا مفعمًا بالحماس حول أفضل المواد لبناء السقف ويُفاضِلون بين الخيارات من ناحية السعر. وبذلك يقضون وقتًا أطول لمناقشة مرأب الدراجات عن الوقت الذي قضوه لمناقشة محطة الطاقة النووية.

أخيرًا، تبدأ اللجنة بمناقشة النقطة الثالثة، ألا وهي ميزانية القهوة، وهنا ينقلب الجميع فجأةً إلى خبراء لديهم معرفةٌ واسعةٌ عن القهوة وأسعارها وقيمتها. وقبل أن يُلاحِظ أيٌ منهم ما يحدث، تقضي اللجنة وقتًا أطول لمناقشة ميزانية القهوة البالغة 21 پاوندًا من إجمالي الوقت الذي قضوه في مناقشة موضوعي محطة الطاقة النووية ومرأب الدراجات مجتمعين! في نهاية المطاف، ينفد الوقت، لذا تقرر اللجنة الاجتماع مرةً أخرى لإنهاء تحليلهم، ويخرج الجميع وهم راضون عن أنفسهم كونهم قد ساهموا في الحديث.

الأسباب وراء هذا السلوك

يُعزَى حدوث تأثير “مرأب الدراجات” إلى العلاقة بين بساطة الموضوع وإبداء الناس لآرائهم فيه؛ فكلَّما كان الموضوع بسيطًا، كَثُرت الآراء والأحاديث عنه. ولكن عندما يكون الموضوع خارج اختصاصنا، مثل محطة الطاقة النووية، فإنَّنا لا نحاول حتَّى التعبير عن آرائنا فيه.

إلا أنَّه عندما يكاد أن يصل فهمنا للموضوع حدَّ الاكتمال، وإن لم يكن لدينا ما هو مفيدٌ لإضافته، نشعر بأننا مُلزَمون لقول شيءٍ ما؛ لكيلا نبدو جاهلين. فمن ذا الذي ليس لديه ما يقوله عن مرأب دراجات؟ فالجميع يريد أن يُظهِر أنَّ لديه خلفيةً عن الموضوع محلَّ النقاش وبإمكانه المساهمة فيه.

ولكن بالنظر إلى أيِّ موضوع، ينبغي علينا ألّا نساوي بين جميع الآراء في الأهمية، وأن نصبّ تركيزنا على أولئك الذين قاموا بالعمل المطلوب ليكوِّنوا آراءهم. وحين نقرِّر أن نضيف للنقاش، يجب علينا أن نركّز طاقتنا في المواضع التي سنقدم إضافة قيِّمةً فيها لتحسين مخرجات القرار المتفَّق عليه.

استراتيجيات لتجنّب الوقوع في تأثير “مرأب الدراجات”

يمكن القول إنَّ من أهم الأشياء التي يمكنك القيام بها لتجنّب تأثير “مرأب الدراجات” هو أن تحدد هدفًا واضحًا للاجتماع. وتقول پريا پاركر – التي اكتسبت عقودًا من الخبرة في مجال تصميم اجتماعات يترتّب عليها الكثير في كتابها “فنون الاجتماع” – : إنَّ أي اجتماعٍ ناجح (بما في ذلك اجتماعات العمل) يجب أن تُحدَّد الغاية منه تحديدًا واضحًا ودقيقًا. كما ذكرت بأنَّ “التخصيص” هو “مكوِّنٌ محوري.”

لِمَ يعدّ وجود هدفٍ واضحٍ مهمًا للغاية؟ لأنَّك ستستخدمه كعدسةٍ لاتخاذ القرارات الأخرى المتعلِّقة بالاجتماع، لا سيَّما عند اختيار الأشخاص المدعوِّين له.

لذلك قد يتضِّح أنَّه ليس من المحبَّذ مناقشة إنشاء محطةٍ للطاقة النووية ومرأبٍ للدراجات في الاجتماع نفسه، فالهدف ليس محددًا بما فيه الكفاية.

ويكمُن السِّر هنا في إدراك أنَّه ليس من الضروري الأخذ بجميع الآراء المطروحة حول مسألةٍ ما، فوحدها الآراء التي تنمُّ عن معرفةٍ يمكن الأخذ بها. ويمكن القول أنَّ هذا الأمر هو أحد الأسباب التي تجعل من الاجتماعات الكبيرة التي يحضرها العديد من الأشخاص الذين لا حاجة لمعظمهم مضيعةً للوقت.

وفيما يخصُّ اختيار المدعوِّين للاجتماع، تقول پاركر “إن كان الهدف من الاجتماع هو اتخاذ قرار، فقد يكون من الأنسب أن يكون هناك عددٌ أقلُّ من الطبّاخين في المطبخ.” لذلك إن كنت لا ترغب في أن تقع تحت تأثير “مرأب الدراجات”، تجنّب دعوة الأشخاص الذين من المستبعد أن تكون لديهم المعرفة أو الخبرة المطلوبة بالقرار الذي سيُتَّخذ. فالحصول على النتائج المرجوّة المتمثِّلة في نقاشٍ متعمِّق وينمُّ عن معرفة حول محطة الطاقة النووية يعتمد على وجود الأشخاص المناسبين لذلك.

كما أنَّه من المفيد إعطاء مسؤولية اتخاذ القرار الأخير لشخصٍ معيَّن، ذلك لأنَّ اتخاذ القرارات عن طريق لجنةٍ لا يترأَّسها أحد يجعل من التوصُّل إلى اتفاقٍ أمرًا شبه مستحيل ويطيل النقاش أكثر فأكثر. ويمكن لهذا الشخص تحديد مدى أهمية المسألة محل النقاش مسبقًا (على سبيل المثال، من خلال تحديد مدى تأثير نجاحها أو فشلها على مساعدة الشركة أو التسبُّب في ضرِّها). كما يمكنه أن يضع وقتًا محددًا للنقاش لإضفاء صفة الاستعجال، وكذلك إنهاء الاجتماع بالتأكيد على أنَّه قد حقق فعلًا الهدف المراد منه.

لعلَّ أي مسألةٍ تجذب إليها العديد من النقاشات من مختلف الأشخاص قد لا تكون المسألة الأهمَّ على طاولة النقاش، لذلك تجنَّب الوقوع فيما لا طائل منه من خلال تحديد أهدافٍ واضحة للاجتماعات ودعوة الأشخاص الأنسب للحصول على نقاشٍ بنَّاءٍ ومثمر.


تحرير: Farnam Street | ترجمة: بدور الجابرية | تدقيق: سحر عثماني | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى