التعليمالعلوم الاجتماعية

المتعددون معرفيا: الكفة الراجحة في ميزان النجاح

ستغير جائحة كورونا أنماط الحياة والعمل أكثر من أي حدث آخر في تاريخنا الحديث. ولا نعلم حقيقة كم ستطول تأثيرات هذه الجائحة، ولكن نحن على إدراك تام بحجم التأثير الذي طبعته على العالم. وإلى أن ينتهي هذا الكابوس نتمنى أن تظل بالمنزل آمناً أنت وعائلتك.

ولأن المستقبل يبدو مظلما ومن الصعب التكهن بالقادم، كان من المهم أن نكون على وعي بأساليب التعايش من أجل البقاء.

غير أن هذه العزلة التي نعيشها في هذه الأثناء تتيح لنا ردم الفجوة المعرفية عبر بناء مهارات جديدة. وفي هذه اللحظات التي تبدو فيها أسواق العمل غير مستقرة، قد يكون بناء عقلية متعددة المعارف أفضل استثمار لزيادة احتمالية الحصول على وظيفة ما. الوقت يداهمنا والحياة متسارعة، و يجب أن نتكيف مع هذه الحقيقة عبر تعزيز وتنمية مهاراتنا.

شهد التاريخ الحديث وجود شخصيات ناجحة عُرفت بتعدد المدارك والمعارف، وهذه الحقيقة تثبت لنا أن التوسع المعرفي عملية مجدية وذات قيمة. خذ على سبيل المثال ليوناردو دافنشي، الذي كان رساما ومعماريا ومهندسا ومخرجا مسرحيا في آن. أما بنجامين فرانكلن وستيف جوبز فليسا خارج المعادلة، فالأول كان رجل دولة، ومن المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى كونه كاتبا وفيلسوفا سياسيا وعالما ومخترعا. أما ستيف جوبز فكان مسوقا بارعا ومصمما للمنتجات ومخترعا ومهندسا.

يقول الأستاذ الملهم أرنست بوير: “إن المستقبل ينتمي إلى المتكاملين عقليا”. وكأن أرنست يقول بأن العقلية العابرة للمعارف هي وسيلة للازدهار والبقاء، وتساعد على التكيف مع أية بيئة تقريبا، بما فيها بيئة العمل الحديثة التي تتطلب أن نكون قادرين على القيام بأعمال ووظائف متنوعة، وكأننا نعيش أبعادا حياتية متباينة في حياة واحدة.

انطلق في عزلتك بدءًا من اهتماماتك المتعددة، اعطها مساحة من الوقت وابنِ عليها المهارات التي تكملها. يقول ليوناردو دافنشي: “تعلم علم الفنون وتعلم أيضا فنون العلم، طور من مداركك وتعلم – على وجه الخصوص – كيف ترى ما يربط بين كل الأشياء من جهة وكل الأشياء الأخرى من الجهة المقابلة”.

تمجد الرأسمالية الحديثة الندرة، تمجد الأشخاص الذي لا يمكن لأحد أن يحل محلهم. وهذه الندرة تعني أن تمتلك  خليطا معرفيا ومهاريا إلى الدرجة التي لا يمكن أن نجد آخرين يمتلكون هذا الخليط. في مقال عميق لسكوت آدامز – مؤسس مجلة القصص المصورة الشهيرة – يقول شارحا:

” إذا أردت شيئا استثنائيا في حياتك، فسيكون لديك مساران: الأول أن تكون حاذقا في شئ محدد. والثاني أن تكون جيدا بما فيه الكفاية في شيئين أو أكثر.

إن الاستراتيجية الأولى صعبة إلى درجة الاستحالة، القليل فقط من حاز على بطولات NBA لكرة السلة والقليل القليل هم من نجح في بيع الملايين من الأسطوانات من ألبومه الغنائي، ولا أنصح البتة بالمجازفة في هذا المسار.

أما الاستراتيجية الثانية فتبدو لي سهلة المنال  إلى حد ما، فكل شخص لديه على الأقل قليل من المجالات التي من الممكن أن يكون فيها من ضمن أبرز وأبرع 25% في العالم مع قليل من الجهد. 

في حالتي، كنت أرسم بشكل أفضل من كثير من الأشخاص، ولكن بالكاد أكون فنانا. كما أنني لست مضحكا أكثر من أي كوميديان في منتصف مسيرته، ولكن بالطبع فكاهتي تتغلب على أشخاص كثيرين. الحقيقة هي أن قليلا من الناس هم ممن يرسمون جيدا أو يبرعون في إطلاق النكات، وفي حالتي هي مزيج من الاثنين، والذي يجعل حالتي نادرة. وعندما تدقق في مسيرتي في الرسوم المصورة تجد أنه كان لدي أفكار لطالما تمنى الكثير من نظرائي في صناعة الكرتون أن يفهموها”.

في العصر الرقمي، غدا التعلم أسهل من أي وقت مضى وليس فقط للعباقرة الذين نعرفهم بسيماهم. فأي شخص بعقلية متفتحة ومليئة بالفضول يستطيع أن يتعلم أغلب المهارات في الفضاء الإلكتروني. حالة “أبوالعريف” متاحة تقريبا لكل شخص راغب حقا في التعلم.

إذا كنت مبرمجا سيكون بمقدورك خلط القليل من المهارات في تصميم تجربة المستخدم مع البرمجة وستصبح ذو حظ أفضل.  وعندما تتخصص في مجال محدد ستكون قادرا حتى على صنع علاقات ذات جودة أفضل، وردم الهوة المعرفية بسبب تفكيرك الديناميكي. خذ مهاراتك إلى مكان غير اعتيادي حيث يكون بمقدورك توظيف مهاراتك ومعارفك لحل مشكلات جديدة، وبالتالي اكتساب مهارات جديدة في نفس الوقت.

يقول زات رانا: “العالَم يبدو جذابا أكثر عندما نستطيع أن نرى الأنماط المعقدة التي تربط بين أجزائه المختلفة”. ولن نستطيع رؤية تلك الأنماط إلا بالنظر إلى ما هو أبعد من حدود حجراتنا الفكرية الضيقة ذات النافذة الواحدة”.

طريقة التفكير التي يملكها ذو المعارف المتعددة ليست حكراً على أشخاص محددين، فكلنا نفعل ذلك بشكل طبيعي. ولكن النظم التعليمية تدفع باتجاه تغييب هذا الجانب الطبيعي فينا وجعل عملية اكتشاف مجالات الحياة أكثر صعوبة.

يبدو جليا أنه لم تعد الوظائف مرتبطة بالمهارات الأساسية التي تتطلبها؛ بل تتطلب أيضا مهارات أخرى تكميلية ومرونة في التعلم.

تتضمن المهارات التكميلية القدرة على العمل بذكاء مع الآخرين والقدرة على توظيف المعارف للوفاء بالمسؤوليات المختلفة، والقدرة أيضا على فهم وإدارة انفعالاتك والأشخاص من حولك، بالإضافة إلى فهم المجالات البعيدة عن تجاربك وخبراتك. ببساطة تعلم مهارات جديدة يعني الكثير والكثير من الخيارات.

يقول ديفيد ابستن مؤلف كتاب Range: Why Generalists Triumph in a Specialized World. “الأعمال في وقتنا الحالي تتطلب القدرة على تطويع المعرفة لتقوم بدورها في مسائل ومجالات جديدة. ونظرا لذلك، فإن وظائف التفكير لدينا تغيرت لتستوعب التعقيد المتزايد ولتواكب الحاجة إلى أساليب جديدة عوضا عن الاعتماد على طرق تفكير تقليدية. أصبح  مخططنا للتصنيف المفاهيمي يوفر هيكلا يمكننا من ربط المفاهيم والمعارف بمرونة”

تلعب مهاراتك ومعارفك وكفاءتك دورا في تطوير مسيرتك المهنية، كما أنها تساهم على النقيض في إيقاف التقدم في حياتك إلى مستوى معين. وبسبب ذلك فنحن بحاجة إلى تطوير أنفسنا تمهيدا لفترة ما بعد جائحة كورونا، لنكون ذلك النوع النادر من الأشخاص الذين لا يمكن لأحد أن يحل محلهم.

يملك الأشخاص متعددي المهارات بلا شك  قيمة سوقية عالية لا تخفى على أحد، مما قد يجعلهم ناجحين على المدى البعيد. يقول أبرل دافس مؤسس موقع Pick the Brain المتخصص في تطوير الذات: “عندما تكتسب معارف جديدة وتحسن من مهاراتك ستشرع الفرص في الظهور أكثر فأكثر”.

إذا كنت مثلا مصمما قادرا على استكشاف الأنماط الجديدة وقادرا على صناعة أفكار في المجالات التي عادة لا يقترب منها الناس، فأنت تملك قوة فائقة. هذه القوة الفائقة اعتدنا أن نراها في مجال واحد، وتكونت بالتأكيد على حساب المجالات المعرفية الأخرى.

ماذا تنتظر، ابدأ الآن وتعلم شيئا خارج محيط خبراتك، ربما عددًا آخر من المهارات التي تطور وتدعم مهاراتك الحالية. صدقني مستقبلك مرهون بها!

والآن فكر قليلا في الذي تريد تحقيقه، بمعنى آخر ما أهدافك وطموحاتك من بعد أن تنتهي هذه العزلة التي فرضت علينا؟ ومن ثم فكر في قائمة المهارات اللازمة لبلوغ أهدافك، وابدأ في العمل على تطويرها.

صدقني إذا كنت ترغب أن تكون في الطليعة فعليك أن تدرس جيدا المسار الذي ينبغي عليك أن تسلكه في المجال الذي تعمل فيه، وابدأ بتعلم مهارات مفيدة، فالتوسع في معارفك هو بالضبط ما تحتاجه لإحداث قفزة على المستوى المهني.


بقلم: توماس أوبونج | ترجمة: حاتم العامري | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر

حاتم العامري

مترجم في نادي كلمة. أهوى التقنية وقارئ كتب نهم. أعمل كـ Business Analyst.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى