الأدب

كيف تتسلل الجوائح إلى الأدب

في أكتوبر من العام 1918، خاضت كاثرين آن پورتر التي كانت في حالة الهذيان ما وصفته بالـ “الرؤيا البهيجة”. عندما كانت على حافة الموت بفعل ڤيروس الإنفلونزا المستجد الذي حصد أرواح ما بين 50 و 100 مليون إنسان، أحست أنها انتقلت إلى مكان يوازي الجنان، مكان يخلو من الألم والخوف اللذين كانا ينهشان جسدها. ووسط دهشة الجميع، تغلبت على المرض، وفي وقت لاحق، حولت تجربتها إلى رواية قصيرة مؤثِّرة باسم “حصان شاحب، خيَّال شاحب” هذه القصة هي واحدة من الأعمال الأدبية القليلة المعنية مباشرةً بالجائحة التي قتلت في الولايات المتحدة الأميركية ما يزيد عن مجموع قتلاها في جميع حروب القرنين العشرين والواحد والعشرين. وقالت في التجربة، إنها “قسَّمت ببساطة حياتي … وبعد أن تغيَّرت تغيُّرًا غريبًا … احتجت إلى وقت طويل لأتمكن من الخروج والعيش في العالم مرة أخرى.”

يتوعَّد كوڤيد-19 بأن يغيرنا جميعًا بطرق غريبة. إنَّه حدث ذو نقلة نوعية يقسم فيها الحياة والثقافات إلى قبل وبعد. سنخرج في نهاية هذا النفق مختلفين، ولكن ماهية تجلي هذا الاختلاف ما تزال مبهمة.

ستحيك التفاصيل الحسيَّة نفسها في عقولنا وأجسادنا، مثل الكمامات وأوجه الأطباء والممرضين المنهكة وعلامات الإغلاق، وروائح المطهرات والشوارع الخالية وأكوام الأكفان حتى نظل نسترجع هذه اللحظات بعد سنين عديدة. شكَّلَت لي هذه التجربة بُعدًا مألوفًا بصورة غريبة جدًا، فقد أمضيت الخمس سنوات الأخيرة في تأليف كتاب عن الحضور الطاغي لمناخ جائحة الإنفلونزا (1918-1919) الحسي والعاطفي في نتاج أدب ما بين الحربين العالميتين، حيث ورد تأثير تلك الجائحة بطرق لم ندركها غالبًا. استيعابي الجديد لآثار تلك الجائحة يغيّر من تصوري للجائحة الحالية، وكأن معالم وأصوات خلت منذ قرن قد عادت للحياة مجددًا وفي وقتها بطرق كنت أخشاها ولم أتمناها.

انتشرت المقارنات بين جائحة الإنفلونزا وكوڤيد-19 انتشارًا كبيرًا ونحن نتدافع للبحث عن خارطة طريق لما قد تصير إليه الأمور. من خلال العدسة الطبية، نتساءل أيهما أسوأ؟ وهل ينتشران انتشارًا متشابهًا؟ وكيف تغيرت الحياة العامة سابقًا والآن؟ ما الدروس التي يمكن استنتاجها والأخطاء التي يمكن تجنبها؟ بعض الاختلافات التي اتضحت بين الوبائين هي أن جائحة 1918-1919 أودت بحياة الشباب الأصحاء بمعدلات كبيرة جدًا، وأن الإنفلونزا بدت مرضًا مألوفًا آنذاك ولم تبد تهديدًا جديدًا على الرغم من أن قوة المرض وتأثيره كانتا فريدتين من نوعهما، مما جعل تجاهلها أسهل – في البداية على الأقل. والتوقيت مهم أيضًا: جاءت الإنفلونزا أعقاب أكبر حرب دموية عصفت بالعالم آنذاك، وعنى وقوع هذين الحدثين في وقت متقارب أن الجائحة نالت اهتمامًا أقل بكثير رغم أنها قتلت عددًا أكبر من الأشخاص. كانت الجائحة الحدث الثاني المؤدي للموت الجماعي في خمس سنوات، أي أن الجائحة أتت لعالم غارق في الجثث والأسى.

ومع ذلك فإن الأدب الذي نشأ من جائحة الإنفلونزا يذكرنا بوضعنا الحالي بطرق عميقة ومتجذرة؛ فهو يُقيم علاقات في الميادين التي يمتاز فيها الفن تحديدًا، مثل المشاهد العاطفية والطرق التي يتردد فيها صدى اللحظة الماضية في الحاضر وفي الحوار الذي يفوق الوصف بين تجارب الجسد وإدراكنا العالم. تأتي كل بضعة أيام في وقتنا الحالي وتُحضر معها واقعًا جديدًا، ما كان مستبعدًا في الأمس يأتي إلينا في الغد. الماضي دائمًا بلد آخر، ولكن الذي يصيبنا بالدوار في هذه الجائحة هو السرعة التي تغدو فيها المعرفة خبرًا باليًا وقديمًا، وتتحول فيها السذاجة إلى إدراك وتتغير فيها الحقائق الأساسية. حاكت پورتر في كتابها “حصان شاحب، خيَّال شاحب” تأملات واسعة ومتعمقة عن اختلال التوازن الذي قد ينتج من هذه التغيرات من النقلة النوعية التي عاشتها. عبَّرت عن هذه التقلبات من خلال التلاعب بالأساليب، حيث تأرجحت بين استخدام الهلوسة ولغة أشبه بلغة الأحلام لتعبّر عن غزو المرض للأجساد، وبين استخدام لغة أكثر مباشرة وواقعية للحديث عن الحرب. جزء من التحدي الذي يواجه الشخصيات هو القراءة الصحيحة للقصة التي تحتويهم؛ فهم متجذّرون في قصة حرب فظيعة ولكنها مألوفة، وهذا السرد هو ما يبدو واقعيًا. هم يعرفون أدوارهم (جندي ومدنية) والتهديد الذي يواجههم (حرب مدفعية) والأعداء والحلفاء، كما يعلمون كيف تنتهي هذه القصة (بوفاة الجندي). وبسبب استغراقهم في هذا النطاق الاستيعابي الملموس، يغيب عنهم أن الواقع قد تغير، وأن العدو أصبح الآن خفيًا، وأن النساء يواجهن نفس المخاطر، وأن الجبهة الداخلية مهددة نفس التهديد الذي يواجه الصفوف الأمامية. هناك تبعات لقراءة الواقع قراءةً خاطئة: فهم عندما يقلقون من الخطر الذي يواجه جسد الجندي في الحرب، هم يفعلون ذلك أثناء تنقلهم عبر المطاعم والمسارح والمستشفيات وأماكن العمل، حتى وإن مرض أحدهم فإنهم يستمرون بالملامسة والتقبيل وتبادل السجائر، يظنون أنفسهم في القصة المندثرة وحينئذٍ يتولى هذيان جديد زمام السرد وزمام حياتهم. ترصد پورتر التأثير العاطفي والمادي العنيف والناتج عن واقع متغير باستمرار، والأخطار المتأصلة في الفشل في التأقلم بسرعة كافية مع واقع الحياة الجديد.

لا ينقلب واقع الشخص بكل بساطة أثناء جائحة ما، بل يصبح مبهمًا إبهامًا كبيرًا، يصير الإبهام فعليًا واقع الشخص. ما يصحب كوڤيد19 من تقلب وصعوبة في التنبؤ وكل ما لا نعرفه عنه يعني أننا لا نعرف موقعنا في القصة أو في أي قصة نحن. هل هذه الموجة الأولى من أمرٍ أكثر فتكًا سيلحقه؟ هل وصلنا إلى قمة المنحنى؟ ما نطاق المأساة؟ هل الاقتصاد هو القصة الفعلية؟ ما الذي نظن أننا نعرفه الآن ولكن من الممكن أن يثبت أنه خطأ مميت؟ يدفع غموض السرد الكثير منا نحو الأدب المصنف والأفلام ذات الحبكة المتوقعة (حتى وإن كانت عن الكوارث)- تسمح لنا هذه السبل أن نستعين بقصة أخرى وكأنها ظلٌّ لنقي أنفسنا بجلوسنا في مكان نعرف نهايته مسبقًا. يمنح الأدب الحداثي الذي أمضي أيامي في تعليمه وتعلمه عادة القارئَ عكس ذلك؛ فهو يرصد الشظايا وانعدام الحبكة في عالم ما بعد الحرب وما بعد الجائحة. ت. س. إليوت، والذي أصيب وزوجته بالإنفلونزا أثناء الجائحة، أحس أن ما سماها “الإنفلونزا المنزلية” أثقلته وأثقلت صحته وحياته المنزلية، وقلقه أن يكون ذهنه قد تأثر بالمرض. قصيدته “الأرض اليباب” – حول العديد من الأشياء التي تعكس الطابع الزمني الأوسع للحظة التي كان يعيشها – تُحوِّل هذا الاضطراب والتخبط إلى مناخ يشمل الضباب والمشهد الوطني الذي تطارده الجثث، والإحساس المتفشي بالحياة الغارقة في الموت، ولغة الهلوسة.

ويزداد غموض الحال مع كون العدو خفيًّا؛ فالشخص يوقظ حواسَّه لمواجهة خطر قد يكون في كل مكان ولكنه لا يُرَى، فهذا عالم مليء بالأسطح يكون فيه كل الناس موضع شبهة، ويكون فيه جسد الشخص معرضًا للخطر والاختراق. والتقط و. ب. ييتس هذا الإحساس بالخطر المحدق في قصيدة “الظهور الثاني” التي نظمها بعد أسبوعين من رؤية زوجته الحبلى توشك على الموت أثناء الجائحة. أغرق ڤيروس 1918 العديد من الأشخاص في أسرَّتهم وهو يملأ رئتيهم بالسوائل، كما تسبب في نزيف مفاجئ من الأنف والأذنين. تستقي القصيدة شعورَيْ الرعب والفوضى الحاضرين فيها من مصادر عديدة بما فيها الحرب والثورة والعنف السياسي في إيرلندا، ولكن يكتنف القصيدةَ أيضًا الرعبُ الناجمُ عن تهديد خفيٍّ لا يحركه أحد؛ تهديد يغرق البراءة ويفتح المجال للفوضى وطوفان مخضب بالدماء.

وتنتجُ طبيعة المرض الخفية بدورها ما يمكن أن نسميه ذنب نقل العدوى، وهو إحساس بالرعب يتملك الإنسان باحتمالية نقله عدوى مميتة لشخص آخر. وغالبًا تكون طرق العدوى معروفة عامة ولكن من النادر معرفتها معرفةً تفصيليَّة، فالشخص يخاف من العدوى ولكنه لا يعرف سبل انتقالها معرفةً دقيقةً. في روايته الرثائية “جاءوا كطيور السنونو” يشير/يتذكر وليَم ماكسويل وفاة والدته الحبلى أثناء جائحة الإنفلونزا، وشخصيات الرواية تطاردها جميع أشكال الاحتمالات وماذا لو: ماذا لو أخذوا ابنهم من المدرسة في وقت أبكر؟ ماذا لو اختاروا المقطورة التالية في القطار عوضًا عن الأولى؟ ماذا لو لم يدخلوا الغرفة في ذلك اليوم؟ هذا الإحساس بالذنب يمكن أن يسكن الوجدان كحضور هادئ وضئيل وعالق لا يمكن تجاوزه والتخلص منه. ويأتي هذا الإحساس بالذنب بصورة تحسبية واستباقية أيضًا، ماذا لو كانت تلك اللمسة أو تلك الزيارة أو تلك اللحظة التي لم يغسل فيها الشخص يده، ماذا لو كان ذلك سيتسبب في أذى حبيب أو غريب؟ شخصية بورتر الرئيسية في “حصان شاحب، خيَّال شاحب” ترى كابوسًا به قوس خفي يرمي السهام على من تحب وهو يموت مرة تلو الأخرى رغم مساعيها للتدخل وإيقاف الأمر.

وكما نشاهد يومًا بعد يوم، فإن مزيجًا سامًا من قلق المصير والخوف يصب في قنوات استهلكتها القسوة وإلقاء اللوم على الآخرين، وهذا يحول العدو الڤيروسي الخفي إلى عدو وهمي مرئي. كراهية الأجانب المتجذرة في استخدام “الڤيروس الصيني” وحتى “الإنفلونزا الإسبانية” يفسح المجال لاتهام مجموعات كاملة من الناس وإدانتهم. ومنها يتحول الأمر من مواصفات طبية قائمة على الحقائق إلى استعارات مسمومة وقائمة على التمييز عن الخطر والقذارة المعنوية. انعكس هذا في كتابات هـ. ف. لڤكرافت؛ مؤلف كتب الرعب في أوائل القرن المنصرم، حيث عبَّر في كتاباته التي تلت الحرب والجائحة عن معتقداته العنصرية والمعادية للمثليين، وذكر أن جحافل اللاجئين والمنحرفين كانوا يدنّسون السلالات الآرية النقية. بعد أن اكتسحت جائحة الإنفلونزا ولايته رود آيلاند، ملأ لوفكرافت قصصه بشخصيات أشبه بالزومبي تعود للحياة في معمعة الجوائح والحروب مصممة على خلق المزيد من الدمار. يحول لڤكرافت خليطًا ملوثًا من الأجواء الموبوئة والتحامل المتجذر إلى وحوش يمكن أن ترى وتُقتل دون أي قلق من تبعات أو عقوبات، وهذا السياق يقترح طرقًا خطرة يكمن فيها إعطاء الخطر المحدق صفات بشرية مرتبطة بمجموعات معينة من الناس، ويكون ربط هذه الصفات البشرية بالوحوش منبثقا من حوافز تمييزية مغرضة.

ومع ذلك، فإن ما يبرز من خلال جميع هذه الأعمال -ومن خلال هذه اللحظة- هو الجسد ذاته. رصدت ڤرجينيا وولف -التي عرفت الكثير عن المرض وهي التي عانت من تلف في القلب إثر مواجهتها ڤيروس عام 1918- في مقالتها “حول الإصابة بمرض” كيف أن المرض والجسد مهملان لا يُجسَّدان في فننا وتجربتنا الواعية. نحن ننكر حقيقة أن “الجسد يتدخل طوال النهار وطوال الليل” وفي خضم مرض خطير يتسع العالم ويضيق في معاناة الجسد، وهذه تجربة خفيَّة، يعود جزء من ذلك إلى العزلة الشديدة الناتجة عن المرض. وتكتب وولف “تلك الحروب العظيمة التي يخوضها [الجسد] بنفسه … في عزلة غرفة النوم ضد سطوة الحمى”تجيء وتذهب دون أن يلتفت إليها أحد. الأعمال التي تبعت جائحة 1918 تشير لهذه الحروب الداخلية، بطرق مباشرة أحيانًا، وأحيانًا على هيئة شظايا وأصداء. تقيد هذه الأعمال كيف يدمر يحطم الفيروس مفاهيم الجسد الداخلية، وكيف يمكن للحمى والألم والخوف من الموت أن تحول الواقع إلى هذيان. تصور پورتر هذا النمط على أنه ڤيروس يصيب النثر بذاته، الفوضى الڤيروسية المتعاقبة تنعكس من خلال بنية الجمل المتصدعة واجتياح عالم الأحلام للواقع، وصدى التشويش يردد “الألم الفظيع والملحُّ يجري في عروقها كنيران كثيفة. يمكن قراءة ” الأرض اليباب والظهور الثاني” من منظور هذيان الجسد الداخلي ورصد وقائع هلوسية ومفاهيم مشتتة ومزيج ألم حارق بفعل الحمى والوجع.

وأخيرًا تأتي التبعات على أجسادنا وعلى ثقافتنا. كيف تعيش هذه التجارب في خلايانا، في ذاكرتنا، في الشوارع؟ الإحساس المستمر بالموت البطيء، بتجربة ألقت علينا ظلالها، بأصداء تستمر بعد مرور الجائحة. تُقرأ رواية السيدة دالاوي لوولف عادة كرواية تصور تبعات الحرب -وهو ما تقوم به بالفعل، ترصد أيضًا الإنهاك الجسدي والذهني الذي يستمر على إثر المرض. ومثل وولف، تعاني كلاريسا دالاوي من ضعف في القلب إثر إصابتها بالإنفلونزا، وعندما تتحرك عبر شوارع لندن وفي منزلها ترى العالم بإحساسها بضعف جسدي؛ ضربات قلبها وتعثرها وهي تنبض عبر ذكريات مرضها. مناظر وروائح غرفة المرض تلك التي تعود طافية إلى وعيها، وتغير الطريقة التي ترى فيها اليوم اللندني، وسواء في المرض أو في الملاحظةـ فإن أجسادنا مشغولة الآن؛ هي ترصد جائحتنا هذه، وترسي الأصداء التي ستتردد في مستقبلنا.

 

بقلم: إليزابيث أوتكا | ترجمة: آلاء الخليلية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى