العلوم الاجتماعيةفكر وفلسفة

التمعن في التفكير

لقد أجبتُ مؤخرًا على سؤال ورد في موقع (Quora )  وهو “كيف أصبح مفكرًا أفضل؟” وهو ما لاقى اهتمامًا كبيرًا، لذا قررت أن أضيف على إجابتي تلك وأنشرها على هذا الموقع أيضًا.

لا يعبر التفكير عن معدل ذكائك. حينما يتحدث الناس عن التفكير يقعون في مغالطة أن الأشخاص ذوي معدل الذكاء العالي يفكرون بشكلٍ أفضل. أنا لا أتحدث عن معدل الذكاء. أكره أن أفسد عليك الأمر ولكن اختبارات معدل الذكاء ليست بالأهمية التي تعتقدها إلا إن كنت تود الانضمام إلى مجموعة مينسا. إلى حدٍ ما، فإن هذه الاختبارات لا تكسبك المعرفة أو القوة الذهنية التي تجعل حياتك أفضل أو تجعلك أكثر سعادةً أو أكثر نجاحًا. هي مقياس بالطبع لكنها نسبيًا غير مجدية.

إذا كنت ترغب في التغلب على الأشخاص الأذكى منك، فطبائعك والاستمرارية في التعلم أهم بكثير من معدل الذكاء. 

اثنان من المبادئ التوجيهية التي أتبعها أثناء السعي للبحث عن الحكمة هما: 1. أن لا أنام بنفس العقلية التي استيقظتُ بها، 2. هو أنني لستُ ذكيًا بما يكفي لتعلم كل شيء بنفسي، لذلك أرغبُ في التمكن من المعرفة التي يملكها الآخرون.

طريق البحث عن الحكمة شاق. 

تعلّم كيفية التفكير ليس بالأمر السهل. إن التفكير في جوهره هو فرز المعلومات وتصفية البيانات ومن ثم وضعها تحت مظلة واحدة حتى يتسنى لك استخدامها. يود الكثير من الناس أن يحصلوا على آرائهم عبر الآخرين، وأنا متيقن من ذلك لأنه عندما يتفوه أحدهم برأيه وأسأله تفسيرًا، أتلقى ردودًا معاد صياغتها على عجالة لا تضع المشكلة في سياقها الصحيح، ولا تحدد ما العوامل المؤثرة ولا تُحدث أي تشابه أو اختلافات مع مواقف سابقة ولا تعتمد على أي معدلات أو أي شيء آخر من شأنه أن يظهر مستوى مُعيَّنًا من التفكير. أحد أسئلتي المفضلة التي أطرحها لتقصي التفكير هو ما المعلومات التي تدفع أحدهم لتغيير رأيه. إذا أجاب لا يمكنني التفكير بأي شيء، توقف مباشرةً عن إكمال الحوار وغادر.

التفكير عمل صعب.  فهمت. ليس لديك الوقت للتفكير لكن هذا لا يعني أنك تملك الصلاحية للتفكير عني، أود أن أفكر بنفسي، شكرًا لك.

لذا فإن إحدى الطرق الفاعلة لتصبح مفكرًا أفضل هو أن تراقب تفكير الآخرين. اطرح أسئلة، البسيطة منها أفضل من تلك المعقدة. “لماذا؟” هي أفضل الأسئلة. إن طرحك للأسئلة ثلاثًا وأربع مرات سيجعل استيعابك أكبر فضلا عن كونه يجعلك قادرا على التحقق عما إذا كان هؤلاء يدركون ما يتحدثون عنه. عدم التعمق في التفكير هو أمر سهل، كما إنه مدعاة إلى استفزاز الآخر، ليس ليبدو الآخر سيئا – إياك أن تفعل هذا بدعوى الضرر- بل لتتجنب الأخطاء، والافتراضات العابرة وتبادل الاستنتاجات.

الأمر الآخر الذي يمكنك القيام به هو أن تفكر برويّة، خذ وقتك في التفكير، أعلم أنك قد تحصل على رد سريع في الإنترنت بنقرة زر إلا إذا كنت مضطرًا للرد في تلك اللحظة، ببساطة قل “دعني أفكر في ذلك قليلًا وسآتيك بالرد” لا ينتهي العالم بمجرد أنك أخذت وقتك في التفكير لا سيما أنك ستتخذ القرار الصائب في نهاية المطاف. “

يجب أيضًا أن تراقب تفكيرك. حاول أن تتبين ما إذا كنت تعرف حقًا ما الذي  تتحدث عنه أم أنك تردد بعضا من الأحاديث العالقة في رأسك من أخبار البارحة. حياتك ستصبح أفضل على الفور وذهنك أصفى إذا توقفت عن الحديث عما لم تحط به علما. أنت تخدع نفسك فقط وإذا لم تفهم حدود ما تعرفه فإن ذلك سيوقعك في المشاكل.

تعلم كيف تفكر

تعلم كيفية التفكير تعني تماما هو التعلم المستمر. 

كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟ 

أولا، يجب علينا أن نحدد نطاقًا معينًا لحصر المعلومات حتى نتمكن من تذكرها وتجميعها وجعلها متاحة للاستخدام.

نماذج شبكة العمل إن صح التعبير 

يبدو اكتساب المعرفة وكأنه أمر شاق. ثمة الكثير لتعلمه والوقت ثمين. لحسن الحظ لسنا بحاجة لتعلم كل شيء. للحصول على أكبر قدر من المعرفة يمكن اكتسابها من علوم الفيزياء والأحياء وعلم النفس والفلسفة والأدب وعلم الاجتماع.

نحن لا نهدف إلى تذكر الحقائق وترديدها حينما نُسأل عنها. سنحاول أن نضع هذه الأفكار ضمن نموذج شبكة عمل، بهذا تصبح المعلومات في شكل ذي جدوى وهو ما يمكننا من وضع أفضل القرارات.

النموذج العقلي هو تمثيل داخلي للواقع الخارجي، حيث تعمل هذه النماذج على استيعاب المعرفة حول العالم.

على الأغلب تكون القرارات صائبة حينما تشير الأفكار من مختلف التخصصات إلى الاستنتاج ذاته.

يقول المثل القديم “الرجل الذي يملك مطرقة فقط، يرى كل المشاكل مسامير” دعونا نحاول ألا نكون كالرجل ذي المطرقة.

يقول تشارلي منجر فارذر: 

لا بد أن تؤخذ النماذج من تخصصات متعددة لأن كل حكمة العالم لا يمكن أن نجدها في تخصص أكاديمي واحد بسيط، وهو ما يجعل معلمو الشعر لا يفقهون كل شيء لأنهم لا يملكون ما يكفي من النماذج في أذهانهم، لذلك يجب أن تملك نموذجًا من كل تخصص.

ربما تقول “يا إلهي إن هذا يتطلب عملا مضنيًا” لكن لسوء الحظ الأمر ليس بهذه الصعوبة لأن 80 أو 90 من النماذج المهمة ستجعل منك حكيما بحوالي 90% وستكون من القلة القليلة الذين يحظون بهذه الحكمة.

تصنف هذه النماذج بشكل عام إلى صنفين: 1. تلك التي تساعدنا على محاكاة الوقت (التنبوء بالمستقبل) وإدراك أفضل لكيفية سير الكون (مثلا فهم فكرة مفيدة مثل التحفيز الذاتي) ، 2. تلك التي تجعلنا نفهم كيف تجرنا أذهاننا إلى الضلال (مثل تحيز الوفرة)

حينما تتوافق نماذجنا العقلية مع واقعنا فإن ذلك يعيننا على تجنب الوقوع في المشاكل، ومع ذلك ، فإنها تسبب بالمشاكل كذلك عندما لا تتوافق مع الواقع لأننا نعتقد أن أمرا ما غير صحيح ، فكن حذرًا.

يسلط بيتر بيفليز في كتابه الرائع البحث عن الحكمة الضوء على منجر وهو يتحدث عن التحفيز الذاتي:

إن العمليات الكيميائية تتسارع من تلقاء نفسها، لذلك تحصل على هذا التحفيز الرائع حينما تسعى باستمرار للحصول على أمرٍ ما. بينما لا تعمل قوانين الفيزياء للأبد، لكنها تعمل لفترة جيدة، فتارة قد تحصل على  A- ثم فجأة تحصل على A+ B+ C+ لبعض الوقت.

“لكن المعرفة وحدها لا تكفي. يجب عليك أن تعرف كيف تطبق هذه المعرفة لمعالجة المشكلات الأخرى خارج النطاق الذي تعلمتها فيه.”

يواصل منجر: 

ديزني مثال رائع على التحفيز الذاتي، كانوا يملكون أفلامًا داخل علب، ويملكون حقوق النشر والتأليف، وكما ازدهرت الكوكاكولا بعد اختراع الثلاجة، فحين اخترع شريط الفيديو لم يكلف الأمر ديزني شيئًا سوى إخراج الفلم من العلبة ووضعه في الكاسيت.

أي نماذج نحتاج؟ 

أحتاج إلى قائمة لا منتهية حتى أضيف عليها بمرور الوقت،  يبقى كيف يمكننا تخزينها وفرزها فهذه تفضيلات شخصية. لا تتخذ النطاقات شكلا واحدا إنما يمكنك اختيار ما يتناسب مع عقلك.

كيف يمكننا اكتساب هذه النماذج؟

ثمة العديد من الطرق لاكتساب هذه النماذج، أول وربما أفضل المصادر هي القراءة. حتى وورين بفت يقول القراءة هي واحدة من أفضل الطرق التي تجعلك أكثر حكمة.

لكن للأسف إذا كان هدفك هو اكتساب الحكمة، فلا يمكنك اختيار كتابك فقط وقراءته. أنت بحاجة لأن تتعلم كيف تقرأ كتابًا مرة أخرى. بعض الناس ينظرون إلى عاداتي القرائية (قراءاتي) ويعتقدون أنني أقرأ بسرعة بينما أنا لا أفعل ذلك. أعتقد أن ذلك كلام فارغ، إذا كنت تعتقد بأنك ستختار كتابا يتحدث عن موضوع لا تعرفه وأنك ستصبح خبيرا خلال 30 دقيقة … حسنًا حظًا موفق، أرجوك عد وخذ آراءك من تويتر.

ركز على الأفكار الكبيرة والبسيطة

ركز على فهم الأفكار البسيطة بعمق ( انظر: خمس عناصر للتفكير الفعال ). اربط نموذج عملك بالأفكار البسيطة وليس الأفكار الحديثة. نموذج العمل مهم لأنه يجعل المعرفة ذات جدوى – يجعلك قادرًا ليس فقط على استذكار المعلومات بل على استيعابها كذلك.

إن العالم في تغير مستمر … ما الذي يجدر بنا تعلمه أولا؟

إن أحد أكبر الأخطاء التي يرتكبها الناس هو محاولتهم تعلم الأبحاث العلمية الحديثة أولا. الطريقة التي نحدد بها أولويات تعليمنا تخلف تداعيات عديدة يوما بعد يوم. حينما نطارد أحدث المعارف، فإننا نقفز حقا في سباق التسلح. (انظر تأثير الملكة الحمراء ) نحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد حتى نبقى في المكان ذاته.

بغض النظر عن مقاصدنا، فإن التعلم بهذه الطريقة يفشل في الاستفادة من المعرفة التراكمية، نحن لا نضيف نحن نحافظ. إذا كنا سنضع أولويات للتعلم لا بد أن نركز على الأفكار التي تتغير بسهولة – غالبا ما تكون هذه الأفكار جزءًا من العلوم الصعبة (انظر: أضف نماذج العقل إلى صندوق أدواتك )

إن النماذج التي يكون مصدرها العلوم الصعبة أو الهندسة هي الأكثر موثوقية على وجه البسيطة. ومراقبة الجودة الهندسية – على الأقل الجزء منها الذي يعنينا أنا وأنت والأشخاص الذين ليسوا مهندسين محترفين – يعتمد كثيرا على الرياضيات الأولية لفيرمات وباسكال: إنه يكلف الكثير وتقل احتمالية تعطلها إذا أنفقت هذا القدر … وبالطبع فإن الفكرة الهندسية لنظام النسخ الاحتياطية فكرة قوية جدا، الفكرة الهندسية لنظام التوقف لهو نموذج قوي أيضا. تعتبر فكرة الكتلة الحرجة في الفيزياء نموذجًا قويًّا جدًا.

حتى تتمكن من تحديد أولويات التعلم بشكل أفضل. 

من: ماذا يجب أن أقرأ؟

تملك المعرفة نصف حياة. إن المعرفة الأفضل هي المعرفة واسعة النطاق والتي تستمد أساسياتها من تخصصات مختلفة. هذه الأفكار هي التي تبقى وبالتالي ستستمر لفترة طويلة. وأخيرا أعني التوقعات الرياضية، أعرف ماذا سيحدث بشكل عام لكن لا يمكن التنبؤ بها بشكل فردي.

تجميع المعرفة

(المصدر: أضف النماذج العقلية إلى صندوق أدواتك )

عالمنا ذو أبعاد متعددة، ومشاكلنا معقدة. معظم المشاكل لا يمكن حلها باستخدام نموذج واحد. كلما تعددت النماذج التي نملكها، تمكننا من حل مشاكلنا بطريقة منطقية. ولكن لو لم نمتلك النماذج لأصبحنا مثل الرجل ذي المطرقة -الذي يُضرب به المثل في استخدام حلٍّ واحدٍ لكل المشكلات.

للرجل ذي المطرقة، كل شيء يبدو مسمارا. لو كنت تملك نموذجا عقليا واحدا ستقحمه في كل مشكلة تواجهك. ويختلف الحال عندما يكون لديك نماذج عقلية متعددة حيث يمكنك النظر إلى المشكلة من عدة زوايا والإتيان بالاحتمالات التي تجعلك قادرا على اختيار أفضل الحلول.

لا يوجد تخصص يحمل كل الإجابات، بينما بالنظر إلى جميع التخصصات يمكن أن نصبح ذوي حكمة بالغة.

يوضح تشارلز منجر أهمية هذا الأمر قائلًا: 

افترض أنك تريد أن تلعب لعبة الجسر باحترافية، حسنا أنت تعرف الاتفاقية وتعلم ما يجب عليك تحقيقه، ويمكنك حساب الفائزين المؤكدين لديك من خلال وضع أوراقك الرابحة التي لا تقهر.

بينما لو كنت تملك حيلة أو اثنتان، كيف ستحصل على الحيل الأخرى؟ حسنا ثمة 6 أو أكثر من الطرق المختلفة: لديك إقامة طويلة، لديك حيل، لديك رمية تماس.

يمكنك العبور، لديك نقرات قوية، كما يوجد لديك طرق عديد للتضليل والدفاع عن طريق ارتكاب الأخطاء، لذا فهي عدد محدود من النماذج. لكن لو كنت تعرف واحدا أو اثنان من هذه النماذج فإنك ستصبح حصانا في هذه اللعبة.

إن لم يكن لديك ذخيرة كاملة فأنا أؤكد لك أنك لن تتمكن من استخدام ذخيرة محدودة بما في ذلك استخدام النماذج غير المناسبة والتي استخدمتها لمجرد أنها متاحة لديك في المخزون.

بالنسبة لكيفية استخدام أفكار مختلفة، “منغر” أيضا أوضح ذلك …

امتلك مجموعة كاملة من الأدوات .. استعرضها وراجع القائمة في ذهنك … لا يمكنك تقديم أي تفسير بطريقة غير الطريقة الأساسية.

عند دمج الأشياء تحصل على تأثير lollapalooza  والذي يعني دمج أكثر من تأثير لإنشاء استجابة غير خطية.

عملية من خطوتين لاتخاذ قرار فعال 

لا فائدة ترجى من أن تصبح حكيما ما لم تستخدم هذه الحكمة في سبيل الخير. تعرف مثلما قالت العمة مي عن بيتر باركر ” مع القوى العظمى تأتي المسؤولية العظيمة”

( المصدر: عملية من خطوتين من أجل اتخاذ قرار فعال )

شخصيا أستخدم نوعين من التحليل ذي المسارين. أولا ما العوامل التي تحكم المصالح المعنية والمعتبرة بعقلانية؟ ثانيا ما تأثيرات العقل اللاواعي؟ حيث يقوم الدماغ بهذه الأمور تلقائيا عبر العقل اللاواعي والتي تعتبر مفيدة ولكن غير فعالة بشكل عام.

أحد الأساليب هو العقلانية الطريقة التي تستخدمها لحل مشكلة جسر : عبر تقييم المصالح والاحتمالات الحقيقية وما إلى ذلك. والآخر هو تقييم العوامل النفسية التي تسبب استنتاجات العقل الباطن، وكثير منها غير صائب.

هذا هو الطريق ليصبح تفكيرك أفضل، الباقي يعتمد عليك.


بقلم: شين باريش | ترجمة: جهينة اليعربية |تدقيق: حاتم العامري | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى