العلوم الاجتماعيةعلم النفس

أنْ تكونَ مُسْتَمِعًا جيِّدًا

استماعُنا الجيد لا يُعدُّ تصرفًا لطيفًا اتجاه الآخرين فقط؛ بل هدية نقدمها لأنفسنا - عالم النفس كارل روجرز.

كتب إرنست همنغواي في مجلة Esquire عام 1935، هذه النصيحة للكُتَّاب الشباب: “عندما يتحدث الناس، استمع بشكل تام، فمعظم الناس لا يستمعون أبدا.” وعلى الرغم من أن همنغواي كان أحد أبطالي في المراهقة، لم أدركها إلا في وقت ما في سن الـ 25، فكمعظم الناس، أنا لا أستمع أبدا.

قد تكون كلمة أبدًا قوية بعض الشيء إلا أنه من المؤكد أن استماعي غالبا ما يشوبه الالتهاء والاهتمام بالذات. وفي أسوأ أيام حياتي، قد يجعل هذا تواجدي سطحيًا وأنانيًا. لذلك بتردد وهدوء بدأت أحاول الوصول إلى داخل آلتي العقلية وتوجيه انتباهي بشكل مختلف والاستماع بشكل أفضل. لم أكن متأكدًا مما أفعله ولكنني تقابلت مع قلة من الناس الذين يمارسون الاستماع كعادة، كانوا يعيرون الآخرين انتباههم الكامل، فكان الأمر تأثيره قويًا. فبدا نادرًا وحقيقيا، مما جعلني أرغب بوجودهم في الجوار.

على الصعيد الثقافي، نتعامل مع الاستماع على أنه عملية تلقائية لا يوجد الكثير لنقوله عنها: فهي في نفس فئة الهضم أو رمشة العين. وعندما يتم تناول مفهوم الاستماع بأي شكل من الأشكال، فإنه يكون في سياق الاتصال المهني؛ فهو أمرٌ يجب على القادة والموجّهين صقله، وتخصص يمكن لأي شخص آخر تجاهله بارتياح. يُعدُّ هذا الإهمال أمرًا مؤسفًا. فالاستماع جيدًا، وهو أمر استغرق مني وقتًا طويلاً لاكتشافه، كان أشبه بحيلة سحرية: فكلا الطرفين يلين ويزدهر، كما يخفُف من شعورهما بالوحدة.

وخلال هذه الرحلة، اكتشفتُ أن كارل روجرز، أحد أبرز علماء النفس في القرن العشرين، قد وضع اسمًا لهذه المهارة المستخف بها: «الاستماع النشط». وعلى الرغم من أن عمل روجرز كان يركز في البداية على الوضع العلاجي، إلا أنه لم يميز بينه وبين الحياة اليومية، فكتب: «كل ما تعلمتُه ينطبق على جميع علاقاتي الإنسانية». فما تعلمه روجرز هو أن الاستماع جيدًا -والذي يتضمن بالضرورة التحدث والتساؤل بشكل جيد -هو أحد أكثر أشكال الاتصال التي يسهل الوصول إليها وأقواها.

تجلت ضآلة قوى استماعي كنتيجة ثانوية لبدء التأمل. وهذا لا يعني تقديم بعض الادعاءات بالتنوير الزائف -لمجرد القول أن التأمل هو الممارسة المتمثلة في إدراك ما تلاحظه، والمتأملون يميلون إلى حمل هذه العقلية خارج سجادة اليوغا، والبدء في رؤية عقولهم بشكل أكثر وضوحًا. فكان ما رأيتُه من بين مزيج من الأنماط والميزات الغريبة، ذاتا لا تستمع في كثير من الأحيان. 

كانت ذاتي اليافعة تستمتع بالمحادثة، لكن ما كانت تقصده الأنا المنخفضة والثابتة أن ما استمتعتُ به حقًا هو التحدث. فعندما يحين دور شخص آخر للتحدث، غالبًا ما يبدو الاستماع وكأنه مهمة روتينية. فقد استوعب كل ما يقال بدون تفاعل -لكن الجزء الأكبر مني قد يكون غارقا في أحلام اليقظة أو يستذكر الماضي ويضع الخطط. كما كانت لدي عادة المقاطعة، والتي بالأحرى في الاعتقاد الذكوري أنها “مهما قال الآخرون، يمكنني أن أقوله بشكل أفضل.” وفي بعض الأحيان، كنت أفقد التركيز وأرجع للاستماع لأدرك عندها أنه قد طُرح سؤال عليَّ. ولدي عادة سيئة أخرى، كما رأيت، تتمثل في الجلوس في حِرفية لغوية صامتة مجهِّزا إجاباتي للوقت الذي يحين فيه دوري – حيث أكون عندها نصف مستمع فقط إلى ما كنت سأرد عليه بالفعل.

بدأت أرى أن الاستثناءات من هذا الوضع كانت مواقف توجد فيها مصلحة ذاتية. فإن كان الموضوع أنا، أو أمرًا قد يكون مفيدًا لي، سيزداد انتباهي عندها تلقائيًا. فكان من السهل جدًا الاستماع إلى شخص يشرح الخطوات التي أحتاجها لأجيد حل اختبار أو كسب بعض المال. وكان من السهل الاستماع إلى القيل والقال الممتع، لا سيما ما يجعلني أشعر بأنني محظوظ أو متفوق. وكان من السهل الاستماع إلى المناقشات حول الموضوعات التي كانت لدي فيها رغبة شديدة في أن أكون على حق. وكان من السهل الاستماع إلى النساء الجذابات.

يوصل الاستماع السيئ رسالة إلى الأشخاص من حولك بأنك لا تهتم بهم

في الأيام السيئة، قيدني هذا الوضع الآلي التلقائي اليقظ. ففي موضوعات السياسة أو الفلسفة، جعلني أظهر كشخص ممل ومتنمر. فتجنب الناس الاختلاف معي في أي شيء، حتى في النقاط التافهة، لأنهم كانوا يعلمون أنه سيتحول إلى انزعاج وامتناع عن الاستماع إلى أسبابهم. أما عندما يتعلق الأمر بحياتي الشخصية، وفي كثير من الأحيان، كنت أنسى دعم أو رفع معنويات من حولي. والجانب الآخر من عدم الاستماع هو عدم التساؤل -لأنه عندما لا ترغب في الاستماع، فإن آخر شيء تريد القيام به هو أن تسبب في بدء سرد السيناريو الدقيق الذي يُتوقع منك الاستماع إليه. لذا لم أطرح على أصدقائي أسئلة جادة في كثير من الأحيان. أحببت النكات، وأحببت النميمة؛ لكنني أنسى أن أسألهم عن الأشياء الحقيقية. وربما قد أسألهم عن أمور قد أخبروني عنها قبل أسبوع. أو أنسى أن أسألهم عن مقابلة العمل الأخيرة أو الانفصال. 

وهنا المكان الذي يؤدي فيه الاستماع السيء إلى أكبر قدر من الضرر: إنه يوصل رسالة إلى الأشخاص من حولك أنك لا تهتم بهم، أو أنك تهتم ولكن فقط بطريقة متقلبة ومتقطعة. وهكذا يصبح الناس حذرين من أن يفاتحوك بأمر، أو يطلبوا النصيحة، أو يعتمدوا عليك بالطريقة التي نعتمد بها على هؤلاء الأشخاص الذين نعتقد حقًا أنهم ذوو قلب كبير.

أعلم أن كل ما سبق يجعل الصورة كئيبة إلى حد ما. لا أريد المبالغة في الأمر. فلم أكن وحشاً لا يبالي، لقد اعتنيت بالناس، وعندما كنت أركز، كان بإمكاني إظهار ذلك لهم. كنت محبوبًا، وشققت طريقي في العالم، ويبدو أنني امتلكت ما نسميه الكاريزما. في كثير من الأحيان، كنت أستمع جيدًا. ولكن قد تكون هذه هي النقطة بالتحديد: يمكنك الاستمرار في الحياة كمستمع سيء. فنحن نميل إلى التغاضي عنه، لأنه أمر شائع.

تؤطر كيت مورفي، في كتابها أنت لا تستمع (2020)، الحياة الحديثة على أنها معادية بشكل خاص للاستماع الجيد: نُشجَّع على الاستماع جدياً إلى قلوبنا، والاستماع إلى أصواتنا الداخلية، والاستماع إلى حدسنا، ولكن نادرًا ما نُشجَّع على الاستماع بعناية فائقة للآخرين.

لماذا نقبل حقيقة أننا مستمعون سيئون؟ لأنني أعتقد أن الاستماع الجيد صعب، وكلنا نعرف ذلك. ومثل جميع أشكال تحسين الذات، يتطلب كسر هذا الدرع النية والتوجيه بشكل مثالي.

عندما اكتشفتُ كتابات روجرز عن الاستماع، كان ذلك تأكيدًا على أنني كنت أفهم كل شيء بشكل خاطئ في العديد من المحادثات. فعند الاستماع جيدًا، كتب روجرز وشريكه في التأليف ريتشارد إيفانز فارسون في عام 1957، “لا يستوعب المستمع بشكل ساكن الكلمات التي قيلت له. بل يحاول بشكل فعال فهم الحقائق والمشاعر فيما يسمعه، ويحاول، من خلال استماعه، مساعدة المتحدث على حل مشاكله.” وكان هذا بالضبط هو الموقف الذي لم أتبناه إلا نادرًا.

ولد روجرز عام 1902 -في نفس ضاحية شيكاغو مثل همنغواي، قبل ثلاث سنوات-  ونشأ على تربية دينية صارمة. عندما كان شابًا، بدا أنه متجه إلى الخدمة في الكنيسة. ولكن في عام 1926، عبر الطريق من معهد الاتحاد اللاهوتي إلى جامعة كولومبيا، والتزم بعلم النفس. (في هذا الوقت، كان علم النفس مجالًا جديدًا جدًا ورائجًا لدرجة أنه في عام 1919، أثناء المفاوضات بشأن معاهدة فرساي، نصح سيغموند فرويد سرًا سفير وودرو ويلسون في باريس).

ركزت أعمال روجرز المبكرة على ما كان يسمى آنذاك الأطفال «الجانحين» ولكن بحلول الأربعينيات من القرن الماضي، كان يطور نهجًا جديدًا للعلاج النفسي، والذي أصبح يطلق عليه “إنساني” و “محوره الإنسان”. وعلى عكس فرويد، اعتقد روجرز أن لدينا جميعًا «ميولا اتجاهية إيجابية بشدة». كان يعتقد أن الأشخاص التعساء لم ينكسروا؛ إنما قد تم كبتهم . وعلى عكس أنماط العلاج النفسي المهيمنة آنذاك -التحليل النفسي والسلوكي-اعتقد روجرز أن المعالج يجب أن يكون أقل ميلاً لحل المشكلات، وأن يكون أكثر شبها بالقابلة الماهرة، حيث يستخرج الحلول الموجودة بالفعل لدى العميل. كان يعتقد أن جميع الناس لديهم رغبة عميقة في «تحقيق الذات»، ومن مهمة المعالج رعاية هذه الرغبة. فوظيفته تنطوي في  «تحرير الفرد وتقويته، لا التدخل في حياته». وكان مفتاح تحقيق هذا الهدف هو الاستماع الدقيق والمركّز و «النشط».

إن عدم ظهور هذا المنظور بشكل متطرف خاصة اليوم هو شهادة على إرث روجرز. كتب ديفيد كوهين، أحد كُتَّابِ سيرته الذاتية، أن فلسفة روجرز العلاجية “أصبحت جزءًا أساسياً من مفهوم العلاج”. ويعتقد الكثير منا اليوم في الغرب أن الذهاب إلى العلاج يمكن أن يكون خطوة تمكينية وإيجابية، وليس كدلالة على وجود خطب ما. ويرجع الفضل في ظهور هذا التحول إلى روجرز. وكذلك الأمر بالنسبة للتوقع أن المعالج سيسمح لنفسه بالدخول في تفكيرنا والتعاطف بشكل حذر وملموس. فعندما كان فرويد يركز على عزلة العقل، كان روجرز يضع جل تركيزه في دمج العقول –أمر محدود ومقيد، ولكنه عاطفي. 

في الأيام السيئة، كنت أنتظر كالصقر أمورا يمكنني إعادتها إلى مسارها أو التقليل من شأنها.

بالنسبة لروجرز، كان الاستماع النشط، ضروريًا لتهيئة الظروف المناسبة للنمو. لقد كان أحد المفاتيح الرئيسية لمساعدة  الفرد على تقليل شعوره بالوحدة وبأنه عالق، وإتاحة الفرصة أمامه للتعرف إلى ذاته بشكل أوضح.

رأى روجرز أن التحدي الأساسي للاستماع يتمثل في أن: مدارك الناس معزولة عن بعضها البعض، فتوجد غابة من الضوضاء المعرفية بينهما. وقطعُ هذه الضوضاء يتطلب جهدا. فالاستماع جيدًا “يتطلب أن نغوص في أعماق المتحدث، وأن نفهم، من وجهة نظره، ما الذي يريد أن يوصله”. وتشكل هذه القفزة التقمصية جهدًا حقيقيًّا. من الأسهل بكثير الحكم على وجهة نظر الآخر وتحليلها وتصنيفها. لكن أن تضعها، مثل الزي العقلي، أمر صعب للغاية. عندما كنت مراهقًا، كنت ملحدا ويساريًا شغوفًا. لقد رأيت الأشياء بسيطة للغاية: كل المؤمنين ساذجون، وجميع المحافظين مختلون عقليًا، أو على الأقل بلا قلب. كان بإمكاني التمسك بوجهة نظري المانوية على وجه التحديد لأنني لم أبذل أي جهد لفهم وجهة نظر أي شخص آخر.  

آخر عقباتي العقلية القديمة، والتي أشار إليها روجرز أيضًا، هي الغريزة التي تجعلني أرى أن أي شخص أتحدث إليه هو على الأرجح أغبى مني. هذه الغطرسة تدمر أي محاولة للاستماع، كما يُقرُّ روجرز: “حتى نتمكن من إظهار روح تحترم بصدق القيمة المحتملة للفرد،”، لن نكون مستمعين جيدين. في السابق، في الأيام السيئة، كنت أنتظر مثل الصقور أمورا يمكنني تصحيحها أو التقليل من شأنها. كنت سأبحث عن إيماءات على أن هذا الشخص كان مخطئًا، وتجعله يشعر أنه مخطئ. لكن كما كتب روجرز، لكي نستمع جيدًا، “يجب أن نخلق مناخًا ليس نقديًا أو تقديريًا أو أخلاقيًا”.

كتب: “غالبًا ما تكون عواطفنا أسوأ الأعداء لأنفسنا عندما نحاول أن نصبح مستمعين”. باختصار، يعود قدر كبير من الاستماع السيء إلى نقص في ضبط النفس. فالناس الآخرون يحركوننا، والجمعيات تقودنا، والأفكار تدفعنا. (لهذا السبب قمنا ببناء أنظمة اجتماعية دقيقة حول عدم مناقشة أشياء مثل الدين أو السياسة في حفلات العشاء). عندما كان عمري 21 عامًا، إذا ادعى أحدهم أن بعض موسيقى البوب كانت جيدة جدًا، أو أن الرأسمالية لديها بعض ميزات الاسترداد، كنت حينها غير قادر على ألا أرد عليهم. جعل هذا الأمر صعبًا للغاية بالنسبة لي للاستماع إلى رأي أي شخص عدا رأيي. ولهذا السبب، كما يقول روجرز، فإن إحدى المهارات الأولى التي يجب تعلمها هي عدم التدخل. كن صبورا. كتب: “الاستماع إلى الذات، هو شرط أساسي للاستماع إلى الآخرين”. هنا يتجلى التشابه مع التأمل: لا تطارد كل فكرة، لا تتفاعل مع كل حدث داخلي، ابقَ متمركزًا. واليوم، في المحادثة، أحاول أن أذكر نفسي باستمرار: رد فقط، وتدخل فقط، عندما يدعونك أو عندما ترى أن تدخلك سيكون موضع ترحيب. يتطلب هذا الأمر ممارسة، وربما ممارسة لا نهاية لها.

وعندما نتدخل، وفقا لروجرز، يجب أن نقاوم الرغبة المستمرة في سحب تركيز المحادثة إلى أنفسنا. يسمي علماء الاجتماع هذا الدافع “استجابة التحول”. عندما يخبرني أحد الأصدقاء أنهم يحبون زيارة تايلاند، يجب أن أقاوم الانجذاب الأناني والقفز أوه نعم، تايلاند رائعة، لقد أمضيت عيد الميلاد في كوه لانتا يوما، هل أخبرتك يومًا عن درس المواي تاي الذي قمت به؟ بدلاً من ذلك، يجب أن أركز معهم: إلى أين بالضبط يريدون الذهاب، ولماذا؟ يسمي علماء الاجتماع هذا “استجابة الدعم”. الاستماع جيدًا هو أن تتراجع، وتحافظ على التركيز مع شخص آخر.

خير مثال على نهج روجرز، مأخوذ من حياته المهنية، هو تجربته خلال الحرب العالمية الثانية. طلبت القوات الجوية الأمريكية من روجرز تقييم الصحة النفسية لجنود المدفعية، الذين بدت الروح المعنوية بينهم منخفضة. ومن خلال التحلي بالصبر، وعدم إصدار الأحكام، واهتمامه اللطيف، اكتشف روجرز أن هؤلاء الجنود كانوا يكتمون إحدى شكاويهم الرئيسية: لقد استاؤوا من المدنيين. فقال أحد الطيارين عند عودته إلى مسقط رأسه وحضور مباراة كرة قدم: “كل تلك الحياة والبهجة والرفاهية -تجعلك مجنونًا جدًا”. لم يقترح روجرز أي تدخل جذري أو دفع أي تغيير في الرؤية. وأوصى بأن يكون الرجال صادقين بشأن غضبهم، وأن يتعاملوا معه بشكل منفتح دون خجل. قال روجرز إن محاوريهم يجب أن يبدأوا ببساطة بالاستماع إليهم – مهما طال الأمر، حتى يتخلصوا من العبء. وحينها فقط يجب أن يستجيبوا. 

وعلى غرار التأمل، فإن الاستماع بهذه الطريقة يتطلب جهدا كبيرا. قد يستغرق الأمر مزيدًا من الجهد خارج غرفة العلاج، في ظل غياب التوقعات المهنية. وفي جميع الأوقات، بالنسبة لنا جميعًا تقريبًا، يكون حديثنا الذاتي الداخلي مشتغلا، وبحاجة ماسة إلى أن يتدفق من دماغنا إلى لساننا. ووقف هذا التدفق يتطلب نية. هذا ضروري لأنه، حتى عندما نعتقد أن التدخل إيجابي، فقد يكون متمحورًا حول الذات. قد لا نشعر به، كما يقول روجرز، ولكن، عادةً، عندما نقدم تفسيرنا أو معطياتنا، “عادة ما نستجيب لاحتياجاتنا الخاصة لرؤية العالم بطرق معينة”. لاحظت موجة نفاد الصبر اللانهائية التي ركزت انتباهي عليها. ولقد لاحظت الرغبة المراوغة لطرح أسئلة  لم تكن في الحقيقة أسئلة على الإطلاق، ولكنها فرض رأي مُتخفٍّ تحت رداء الأسئلة. فكان الطريق الأفضل، كما بدأت أرى، هو التزام الصمت والانتظار. 

تتمثل مهمة المستمع النشط في أن يكون هناك ببساطة، وأن يركز على «التفكير مع الناس بدلاً من التفكير عنهم أو فيهم». يتطلب هذا التفكير الاستماع إلى ما يسميه روجرز «المعنى الكامل». وهذا يعني تسجيل محتوى ما يقولونه و على حد سواء (بشكل أكثر دقة) “الشعور أو الموقف الكامن وراء هذا المحتوى”. في كثير من الأحيان، يكون الشعور هو الشيء الحقيقي الذي يتم التعبير عنه، والمحتوى بمثابة الدمية التي تتحدث من بطنه. ويتطلب التقاط هذا الشعور تركيزًا حقيقيًا، خاصة وأن الإشارات غير اللفظية -التردد والغمغمة والتغييرات في الوضعية -بالغة الأهمية. فإن فقدنا التركيز، واستمعنا بشكل جزئي، سينفلت عنا “المعنى الكامل”  تماما.

الكل يريد أن يُستمع إليه. وإلا لماذا تنتشر تلك العبارة القائلة أن الناس يقعون في حب معالجيهم؟

وعلى الرغم من أن المستمع السيء يحب القيام بمهام متعددة داخليًا بينما يتحدث شخص آخر، إلا أن تزييف ذلك لن ينجح. كما كتب روجرز، فإن الناس متيقظون لـ «التظاهر بالاهتمام» المحض، الذي يثير استياءهم منه باعتباره «فارغًا وعقيمًا». إن الاستماع بإخلاص يعني حشد مزيج من القوة والتعاطف والاهتمام والالتزام. قال روجرز إن هذا «يتطلب الممارسة»، و «قد يتطلب تغييرات في توجهاتنا الأساسية».

طُورت نظريات روجرز في سياق يحاول فيه شخص، بشكل صريح، مساعدة شخص آخر على الشفاء والنمو. لكن روجرز كان دائمًا صريحًا بشأن حقيقة أن عمله كان “متعلقًا بالحياة”. قال عن نظرياته أن “الشرعية نفسها تحكم جميع العلاقات الإنسانية”. 

أعتقد أنني بدأت من نقطة أدنى؛ بطبيعتي، أعتقد أن عقلي يميل نحو الإلهاء وتقدير الذات. لكن لن يحتاج المرء إلى أن يكون مستمعًا سيئًا للاستفادة من أفكار روجرز. حتى الشخص الذي يكون بشكل تلقائي مستمعًا متعاطفًا ومهتمًا يمكنه أن يجد الكثير في عمله. فعل روجرز أكثر من أي شخص آخر لاستكشاف الاستماع، وتنظيم ديناميكياته، وتسجيل استكشافاته المهنية.

لا ريب أن كونه مستمعًا جيدًا كان له تأثير على حياته. كما أخبرني هوارد كيرشنباوم، أحد مؤلفي سيرته الذاتية، اكتشف روجرز أن “الاستماع بتعاطف للآخرين كان بمثابة الشفاء والتحرر بشكل كبير، في كل من العلاج والعلاقات الأخرى”. في حفل عيد ميلاده الثمانين، أقيم ملهى استمع فيه اثنان من منتحلي شخصية كارل روجرز لبعضهم البعض في وقفات من التعاطف المبالغ فيه. كانت الأضحوكة حسنة النية مجاملة؛ وفي حالة نادرة إلى حد ما من المثقفين الذين يجسدون بالفعل الأفكار التي يتبنونها، يُذكر روجرز كمستمع ممتاز من قِبل كل من عرفه. على الرغم من هذا النوع من نقاط الضعف التي يمكن أن تثقل كاهل أي حياة -الاعتماد على الكحول، والإحباط من الزواج الأحادي -يبدو أن روجرز كان رجلاً لائقًا: دافئًا ومنفتحًا وغير قاسٍ أبدًا.

كونه قادرًا على نقل نظرياته إلى حياته يجب أن يشجع، حتى أولئك الذين ليسوا علماء نفس مشهورين على مستوى العالم. وإلا لماذا تنتشر تلك العبارة القائلة بأن الناس يقعون في حب معالجيهم؟ ولماذا يبدأ الإغراء باهتمام شديد؟ ضع في اعتبارك تجربتك الخاصة، وستجد على الأرجح علاقة مباشرة بين الأشخاص الذين تشعر أنهم يحبونك، والأشخاص الذين يستمعون بالفعل إلى الأمور التي تقولها. الأشخاص الذين لم يسألونا شيئًا أبدًا هم الأشخاص الذين نبتعد عنهم. الأشخاص الذين يستمعون بجدية لدرجة أنهم يخرجون أشياء جديدة منا -الذين يسمعون أشياء لم نقلها -هم الأشخاص الذين نتمسك بهم مدى الحياة.

ربما قبل كل شيء، فهم روجرز المخاطر التي ينطوي عليها الاستماع جيدًا. كل واحد منا، عندما نكون أفضل ذواتنا، نريد أن نحقق النمو للأشخاص الذين نختار أن نمنح وقتنا لهم. نريد أن نساعدهم على أن يطلقوا العنان لأنفسهم، والوقوف بشكل أطول، والتفكير بشكل أفضل. قد لا تكون الديناميكية مباشرة كما هو الحال مع المعالج؛ فهناك قدر أكبر من المساواة -ولكن عندما تكون علاقاتنا صحية، فإننا نريد لمن حولنا أن يزدهروا. وأظهر روجرز أن الاستماع الجيد هو أبسط طريق لذلك. كن مع الناس بالطريقة الصحيحة، فيتحلوا بالشجاعة والثقة بالنفس. ويشعروا بتوهج الانتباه، ويطوروا “الثقة الكامنة في أنفسهم”. فلا نعدُّ أصدقاءهم إن كنا لا نريد هذا لهم.

في الواقع، هذا هو كرم الاستماع الفعال بحيث يمكن للمرء أن ينظر إلى الممارسة على أنها ممارسة تقترب من الروحانية. على الرغم من أن روجرز استبدل اللاهوت بعلم النفس في أوائل العشرينات من عمره، إلا أنه حافظ دائمًا على اهتمامه بالروحانية. استمتع بعمل سورين كيركيغارد، وهو مسيحي وجودي. وعلى مر السنين، أجرى مناقشات عامة مع اللاهوتيين بول تيليش ومارتن بوبر. قال روجرز إنه في جلسات العلاج الناجحة، يمكن للمعالج والعميل أن يجدا نفسيهما في “شعور يشبه الغيبوبة” حيث “توجد، على حد تعبير بوبر، علاقة حقيقية “أنا وأنت “. وقال روجرز عن علاقته بعملائه: “أود أن أذهب معه في رحلة مخيفة إلى نفسه”.

ربما يكون هذا كثيرا بعض الشيء بالنسبة لك؛ ربما تفضل تأطير الاستماع النشط على أنه مجرد أخلاق جيدة، أو تدخل شخصي جميل. النقطة المهمة هي أن الاستماع للآخرين حقًا قد يكون عملاً من أعمال الكرم غير العقلاني. سوف يلتهم الناسُ انتباهك؛ قد يستغرق الأمر ساعات أو سنوات قبل أن يعيدوا الاهتمام ذاته إليك مرة أخرى. وفي بعض الأحيان بسعادة سينتج عن استماعك شيئًا جديدًا، يوصلهم إلى مكان ما. وفي أحيان أخرى، يستجيب الشخص بكرم خاص به، وستكون المعاملة بالمثل قوية. لكن في كثير من الأحيان، لا يوجد شيء. فنادرًا ما يلاحظ الناس، ناهيك عن شكرهم، على جهودك. ومع ذلك، فإن كرم الاهتمام هذا هو ما يستحقه الناس.

ولئلا يبدو كل هذا تقياً بعض الشيء – فإن الاستماع النشط ليس إيثارًا خالصًا. الاستماع بشكل جيد، كما قال روجرز، هو «تجربة نمو». يسمح لنا بالحصول على أفضل ما في الآخرين. ودائرة النفوس لا نهاية لها. لقد شعر الناس بحياة عميقة ورائعة، ويمكنهم أن يحررونا في عوالم لن نعرفها أبدًا. إذا استمعنا حقًا، فإننا نوسع ذكاءنا ونطاقنا العاطفي ونشعر أن العالم ما يزال منفتحًا على الاكتشاف. الاستماع النشط هو لطف مع الآخرين، ولكن كما كان روجرز دائمًا سريعًا في توضيح ذلك، فهو أيضًا هدية لأنفسنا.

تتعلم العقول من العقول أخرى، والاستماع الجيد هو أبسط طريقة لرسم هذا خيط، وفتح المسار.

أصبح روجرز بطلاً للثقافة المضادة في الستينيات. وأعرب عن إعجابه بأحلامهم الطوباوية في التحرر النفسي والتواصل غير المقيد. وفي وقت متأخر من حياته، انجذب إلى كتابات العصر الجديد لكارلوس كاستانيدا. وكل هذا يتحدث عن أحد الانتقادات الرئيسية لفلسفة روجرز، سواء خلال حياته أو اليوم، وهي: أنه كان متفائلاً للغاية. أدرك روجرز نفسه أنه، على حد تعبير كوهين، «إيجابي بشكل لا يمكن إصلاحه». كما وصفه منتقدوه بأنه بمثابة بوليانا العقل، ويرونه ساذجًا لاعتقاده أن مثل هذه التدخلات البسيطة مثل التعاطف والاستماع يمكن أن تؤدي إلى تحول في الناس. (ربما يضمر بعض القراء انتقادات مماثلة حول معتقداتي كما تم التعبير عنها هنا.)

من المحتمل أن يعتقد أولئك الذين يميلون إلى الموافقة على هذا التقييم لروجرز أنني بالغت في المسألة. الاستماع كالحب؟ الاستماع كممارسة روحية؟ لكن في حياتي الخاصة، أدى النهج المتجدد للاستماع إلى تحسين علاقتي بالآخرين، وأعتقد الآن أن الاستماع ما زال في موضع نقاش بشكل سخيف. فالاستماع الجيد معقد ودقيق ومراوغ -ولكنه موجود أيضًا هنا، إنه يعيش فينا، ويمكننا العمل عليه كل يوم. على عكس الأفكار التجريدية في الكثير من الأخلاق و الفلسفة، إن استماعنا موجود ليتم صقله كل يوم. فمثل العقل، يمكن اختباره. وفي نفس اللحظة، يمكن أن يحفز نمونا ونمو الآخرين. فالعقول تتعلم من العقول أخرى، والاستماع الجيد هو أبسط طريقة لرسم هذا الخيط، وفتح المسار. لا أعتقد أنه من قبيل المصادفة أنني لم أستطع كتابة القصص الواقعية التي أراد أي شخص آخر قراءتها بالفعل حتى بدأت في محاولة الاستماع حقًا.

قال هنري ديفيد ثورو: «أعظم مجاملة حصلتُ عليها على الإطلاق كانت عندما سألني أحدهم عن رأيي، واهتم بإجابتي”. تركت الوضع الآلي، وما يزال بإمكاني أن أكون مستمعًا سيئًا. فسأقاطع، وأنهي الجمل، وأستعجل الناس. كما أظن أن العديد من الأشخاص الذين أعرفهم ما زالوا يجدونني، بشكل عام، مستمعًا عاديًا. لكنني أحاول! مع أي شخص يمكنني التأثير عليه -وخاصة أولئك الذين يمكنني المساعدة في إضاءة أرواحهم –أن أتبع روجرز؛ حيث أقدم الكثير من «الأمان والدفء والتفاهم التعاطفي، بالقدر الذي أجده في نفسي حقًا لأعطيه». وأن أكون منفتحا على كل ما يمكنني تعلمه. صحيح أنني أفشل في ضبط انتباهي مرارًا وتكرارًا. لكنني أعود، مرارًا وتكرارًا. وأرى أنه ينجح.


بقلم: م . م. أوين | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى