الأدب

كوڤيد-19 من منظور شيكسپير!

الإرث الكبير الذي خلَّفه وليَم شيكسپير

هل هذه صورة وِليَم شيكسپير؟ يعلم الجميع أنها كذلك، حتى أولئك الذين لا تربطهم صلة بالأدب والتاريخ، ولا ريب في ذلك؛ فهو دليل على مدى تأثير أعظم المسرحيين الإنگليز في الأدب.   

الإرث الكبير الذي خلَّفه وِليَم شيكسپير

تعد هذه أشهر صور شيكسپير وهي مأخوذة من كتابه (First Folio) الذي نُشِرَ عام 1623م. العام المقبل، سيكون قد مرَّ على وفاته 400 سنة حيث أنه توفي سنة 1616.

(الصحيح 405 سنوات – المترجمة) 

الإرث الكبير الذي خلَّفه وليَم شيكسپير 

صورة للنصب التذكاري لشيكسپير والذي يوجد أمام الأبرشية التي تضم رُفات القديسة ماري ألدرمَنبيري في مدينة لندن. يُعد شيكسپير أو The Bard (وهو لقب يُطلق على الشاعر الضَليع) أعظم كتَّاب اللغة الإنگليزية، حيث ألّف 83 مسرحية بالإضافة إلى أكثر من 100 سونيتة.

الإرث الكبير الذي خلَّفه وليم شيكسپير

مسرح غلوب في لندن الذي بُني عام 1997م، وهو نسخة مطابقة للمسرح الإليزابيثي، ويبعد مئات الأمتار عن مسرح غلوب الأصلي منذ زمن شيكسپير. ويُعرَض فيه عددٌ من مسرحيات شيكسپير كل عام.

الإرث الكبير الذي خلَّفه وِليَم شيكسپير

التحف المتعلقة بشيكسپير نادرة وقيّمة للغاية. في هذه الصورة يعرض ريمي كوردونير (أمين مكتبة في بلدة سان أومير الفرنسية) كتاب شيكسپير (First Folio) الذي يضم عددًا من مسرحياته التي يعود تاريخها إلى عام 1623م. توجد 230 نسخة منه بحوزة جماعات أو أفراد حول العالم.

الإرث الكبير الذي خلَّفه وِليَم شيكسپير

تُحيَا مسرحيات شيكسپير عن طريق العروض التي تُنظَّم سنويًا في جميع أنحاء العالم. في الصورة، يظهر بول دانمان وآيلين أتكينز في مسرحية رِتشرد الثالث التي عُرضت في مسرح Old Vic  في لندن عام 1962م.

الإرث الكبير الذي خلَّفه وِليَم شيكسپير

تتمتع هوليوود بتاريخ طويل في إنتاج الأفلام السينمائية المقتبسة لمسرحيات شيكسپير، بدءًا من فيلم هِنري الخامس للمخرج لورنس أوليڤيه وحتى روميو وجولييت للمخرج باز لورمان. حاز فيلم “شيكسپير عاشقًا” على جائزة الأوسكار لأفضل فِلم لعام 1998م، وهو عمل يسلط الضوء على الجانب الخيالي لمصدر الإلهام الإبداعي لدى شيكسپير.

الإرث الكبير الذي خلَّفه وِليَم شيكسپير

وُلد شيكسپير وترعرع في مدينة ستراتفورد أپون أڤون وسط إنگلترا؛ لذا فإنه يشكل عامل جذب لسيّاح هذه المدنية التي تحتفل في نيسان/إبريل من كل عام بذكرى ميلاده.

الإرث الكبير الذي خلَّفه وِليَم شيكسپير

تمثال نصفي لشيكسپير يقع في نُزُل گاريك الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر وهو أقدم حانة في مدينة  ستراتفورد أپون آڤون.

    تقتضي قدسيّة  تويتر أن الوقت قد حان لكتابة الروائع الأدبية. هذا ما اقتصر على حالة العزلة في منازلنا كما لو أن المسؤوليات التي ظهرت خلال هذه الفترة من تعليم منزلي ورعاية للمسنين وتعقيم على مدار 24 ساعة لم تكن كافية. في الأسبوع الماضي، تداولت الحسابات  تغريدة جاء فيها “لقد كتب شيكسپير مسرحية الملك لير حينما كان في الحجر بسبب انتشار مرض الطاعون”

    هل ما ورد في هذه التغريدة صحيحٌ؟ إن هذه التغريدة كحال معظم التغريدات المتداولة على نطاق واسع، تحتمل الصواب والخطأ. لقد أشار الپروفسور جيمس شاپيرو في كتابه الأكثر مبيعًا (1606 وليَم شيكسپير وسنة لير)  أنه من الصعب تحديد الوقت الذي كُتبت فيه مسرحية “الملك لير”، غيرَ أن من المرجّح أن تكون قد كُتبت في صيف 1606م وهو ذاته العام الذي انتشر فيه مرض الطاعون؛ ففي عيد ميلاد السنة التالية قُدِّمَ أول عرض موثّق للمسرحية.

    تأثرت كتابة شيكسپير بالطاعون بشكل كبير قبل أكثر من عشر سنوات. بلغ الطاعون أخطر مراحل التفشي منذ ثلاثين عامًا، وأصيبت لندن بين عامي 1592 و 1594م حيث أُغلقت مسارحها بالكامل كما هي الحال اليوم.

    خلال هذه الفترة، كتب الفتى شيكسپير أعمالًا مهمة: منها القصائد السرديَّة مثل “ڤينوس وأدونيس” و “اغتصاب لوكريس” وربما كتب أيضًا “روميو وجولييت”. جميع الأعمال الثلاثة آنفة الذكر تعج بالمشاهد المستمدة من مرض الطاعون، فالحبكة في مسرحية “روميو وجولييت” تبلغ ذروتها حينما لا يتمكن القس جون من إبلاغ روميو أن جولييت ما تزال على قيد الحياة؛ وذلك لأن الطاعون كان قد تفشى في مدينة روميو، فَرثاهما  القس:

    خرجت لأبحث عن أخٍ لي حافي القدمين

    من طائفتنا، ليدلَّني على الطريق

    إنه في هذه المدينة يزور المرضى

    عثرت عليه لكن المفتشين في المدنية

    ظنوا أن كلانا كنا في المنزل

    حيث الطاعون المعدي كان قد تفشى

    أُغلقت الأبواب، لم يسمحوا لنا بالمُضي

    لذلك تأخرت

    مثلما يعلم الجميع أن روميو المنفي إلى مدينة مانتوَا يعتقد أن جولييت قد ماتت؛ لأن القس جون لم يتمكن من إبلاغه بالحقيقة، فيقتل روميو نفسه وكذلك تفعل جولييت حينما تصحو وتجد روميو قد مات.


    أدب الأوبئة

    وُلدت قصة روميو وجولييت من رحم الصدفة. فروميو لم يقتل نفسه لأن ثمة خطابًا كان يجب أن يصله ولم يحدث ذلك، بل قتل نفسه لأنه حينما أُغرم بجولييت قصد الشخص الخاطئ. يقول بنڤوليو، صديق روميو في الفصل الأول  وهو يحثه للبحث عن فتاة تحل محل حبيبته السابقة روزاليند:  “فتِّش عن حب جديد”. وعندما قتل روميو ابن عم جولييت، كان بذلك قد أشعل شرار القتل في سلسلة الأحداث القادمة وكل ذلك يُعزى لحديث عابر بين يافعين صادفا بعضهما في الشارع.

    هذا هو شأن الأدب الذي كُتِبَ في زمن الأوبئة المعدية، كالأدب الذي كُتب في الإيدز، حيث يُسَلَّط الضوء على دور الحظ في إصابة صاحبه بالعدوى أو بقائه على قيد الحياة، بالإضافة إلى التركيز على الذنب الذي يشعر به الناجون إثر نجاتهم  بينما لم يتمكن الآخرون من ذلك، لذا يُرَجَّح أن الأدب الذي سينتج عن كوڤيد-19 سيركز على ذات الأفكار. من الواضح أن كوڤيد-19 يُعد قاتلًا للأطفال وكبار السن، لكن الاحتمال يكون ضعيفًا عندما يتعلق الأمر بالشباب أو قد يحدث ذلك بمحض صدفة قاسية. الآن، في العالم المتقدم من عام 2020م، من المحتمل أن يتسبب الاختلاط بالآخرين في قتل الناس مرة أخرى. إذا عددنا شيكسپير مثالًا يُحتذى به، فكيف ستكون الأعمال الأدبية التي ستُنتَج في حالة العزل التام في عام 2020م؟ توجهٌ جديد نحو المصادفة والحظ.

    قبل أن نستغرق في التفكير في الدروس الأدبية التي نستقيها من أعمال شيكسپير، يجب أن نتساءل هل من المجدي مقارنة الحجر الصحي بسبب الڤيروس التاجي (كورونا) بذلك الحجر الذي خاضَهُ العالم سابقًا بسبب الطاعون؟ الحقيقة أننا نشهد شيئًا من تلك الأحداث التي جرت أثناء الحجر الصحي التاريخي بسبب الأوبئة التي تفشّت في فترة ما قبل الحداثة، حيث أُفرِغت المدن، وأُمر الناس بالبقاء في منازلها لتواجه مشاحناتها العائلية، حتى الجنازات لم يُسمح بإقامتها. حين شاهدتُ الصور الجويَّة لحفر القبور الجماعية في إيران، تبادرت إلى ذهني بشكل أليم صور القبور التي حُفِرَت في القرن السادس عشر بسبب تفشي الطاعون.


    الطاعون في الأدب، وما المختلف بشأن هذا المرض

    من منظور أدبي، فإن الأمر المختلف في هذا المرض المعدي أنه يتفشّى في وقت يتسم فيه المجتمع الغربي وخاصة أوروبا بالعلمانية إلى حدٍ كبير. فقد كان لدى معاصري شيكسپير مجموعة متنوعة من التفسيرات الخارقة للطبيعة حول الأوبئة التي أصابت أوروبا بين 1347-1660م، بالإضافة إلى التساؤل الجوهري: لماذا نجا بعض الناس الأصحاء بينما لم ينج الآخرون؟

    لقد كان علم التنجيم أحد التفسيرات الواردة لما جرى، حيث أكَّدَ أحد أكثر الكتب مبيعًا في عام 1575م بعنوان “Volumen Paramirum”  للكيميائي باراسيلسوس  أن النجوم كانت أحد العناصر الخمسة الرئيسية التي تحدد صحة المرء. وأصبحت الفكرة أساسية للطب في العصر الحديث، وفي السونيتة الرابعة عشر يقارن شيكسپير نفسه بالمنجمين الذين يتنبؤون بالطاعون:

    ليست النجوم من يدلي لي بنبوءتي

    ورغم ذلك فإني ملِمٌ بعلم الفَلك 

    ولكن لا لأقول لكم عن الطالع الجيد أو العاثر

    ولا عن الأوبئة، أو المجاعات، أو طقس الفصول

    حتى في هذه المرحلة من التاريخ، تمكَّن الناس من ملاحظة أن عدوى الطاعون تنتقل عن طريق الاتصال بالآخرين، حيث كان لدى بعض الكتّاب في الطبِّ نظريات حول الإصابة بالعدوى وهي تتطابق إلى حدٍ كبير مع معايير العصر الحالي. إن فكرة اندهاش الكتّاب من حال المدن التي تحولت من مكانٍ للتجمهر لإثارة القضايا السياسيّة وإطلاق العنان للهويّة إلى مكانٍ يكسوه إهمال وحظر وخطر شديد. كتب أتباع الطبيب جالينوس أن “الميازما” و “الهواء الملوث” اللذين ينقلان مرض الطاعون هو ذاته الهباء الجوي الذي ينقل كوڤيد-19 في الوقت الحالي.

    على الرغم من ذلك، إلا أن الجميع من أفراد وجماعات ممن أصيبوا يعزون الأسباب إلى غضب الرب. عادة ما يُرجَع أصل كلمة “plague” والتي تعني “طاعون” إلى الكلمة اللاتينية “plaga” والتي تعني “مصائب” أو “طلقات” ، بينما في أعمال الأدب الغربي الأساسية  مثل القصيدة الملحمية “الإلياذة” جاء فيها أن الإله الروماني “أپولو” يمطر على الجيش اليوناني سهامًا من المرض المعدي. وتُعزى في المسيحية الأوربية أسباب الأوبئة بنفس القدر إلى زجرات إلههم الغاضب.

    لن يفكر كل من يعيش في زمن كوڤيد-19 في الجائحة من منظور روحي كما فعل أولئك الذين عاصروا شيكسپير. بطريقة ما، ذلك يجعل من الصعب على مجتمعاتنا فرض أساس منطقي على انعدام قدرة التنبؤ بما قد يخلّفه كوڤيد-19 في الناس. عندما يتعلق الأمر بالضحايا من فئة الشباب والأصحاء، فإن جزءًا منهم بالكاد تظهر عليه الأعراض، بينما يكابد الجزء الآخر من أجل البقاء على قيد الحياة.

    ثمة اختلافٌ آخر بين كوڤيد-19 والأوبئة الأوروبية وهو أن كوڤيد-19 لا يخلِّف آثارًا على جسد المصاب، بينما الطاعون الدبلي المعروف بـ “بوبو” يورّث ضحاياه آثارًا حمراء داكنة تشبه إلى حد ما الكدمات. لقد استخدم شيكسپيرفي باكورة أعماله رمزية اللون الأبيض والأحمر الداكن على جسد الإنسان، ففي قصيدة “ڤينوس وأدونيس” يصيب العاشقان بعضهما البعض بسهام الحُب حتى تصبح وجوههما حمراء وبيضاء، ويلاقي أدونيس أجله في حادثة صيد تاركًا خلفه زهرة بنفسجية وبيضاء.


    كوڤيد-19 من منظور شيكسپير

    تواري العديد من أدبيات الأوبئة المتعارف عليها الكيفيَّة التي أصبحت بها آثار الطاعون إحدى صيغ اللغة الطبية. إن هذه الآثار هي من يقصُّ التجربة التي خاضها صاحبها بعد أن يصبح هو في عداد الموتى. (هي أيضًا بمثابة نصٍ يُبلغ عن المرض المنتقل بالعدوى) حيث يقول إرنست ب. جليمان، أحد أشهر كتّاب أدب الأوبئة في العصر الحديث: “إذا بحثنا عن “خطاب الطاعون” سنجد بصورة أساسية ومن منطلق الإيمان بثقافة الإصلاح أن الطاعون في حد ذاته صيغة لحديثٍ (إلهي)، ونصٍ يخطُّ ذاته في الحياة الطبيعية، وفي الكيان السياسي، وفي العملات الرمزية؛ لِتُقرأ على أجساد المصابين. ولا يكتب الڤيروس التاجي (كورونا)  هذا النوع من النصوص على صفحات أجسادنا.

    ما الذي يمكن أن نكتسبه أيضًا من الاطلاع على أعمال شيكسپير من مسرحيات وقصائد في أدب الأوبئة؟ أولًا لا نملك جميعنا رفاهية الكتابة التي ترقى لمستوى شيكسپير. فبينما يُداري بعضنا ضغط العمل من المنزل والقلق بشأن تدبير الأمور المعيشية خلال العطلة، ثمة دليل كافٍ على أن شيكسپير أمضى 1593م و1594م في تيتشفليد حيث منزله الريفي لراعيه إيرل ساوثَمپتون (ومن المرجّح أن ساوثَمپتون هو نموذج الشاب الوسيم في سونيتات شيكسپير، وربما يكون خليل شيكسپير). لقد ترك الكاتب المسرحي زوجته في ستراتفورد أپون أڤون لتربية أطفالهم الثلاثة. لطالما كان الحجر الصحي للوباء أهون على البعض من الآخر.

    الأمر الآخر الذي يمكننا أن نستمده من أعمال شيكسپير هو أن الأدب الناشئ في وقت الحجر الصحي يكون ذا تأثير عميق. فما تزال مسرحية “روميو وجولييت” تُثير مشاعر العالم بأسره منذ أن كانت المسارح جزءًا من حياتنا حتى اليوم. مما يلفت الانتباه في أعمال شيكسپير المرتبطة بالطاعون أن الصورة التي تنقلها عن تجربة لندن مع الطاعون تكون مشوشة وضبابية إلى حد كبير، فهي تظهرها في سلسلة من الاستعارات كذكر “الهواء الملوث”، والحجز، وعلم التنجيم (في الحقيقة روميو وجولييت عاشقان بحظ عاثر)، و دلالة اللون الأبيض والأحمر (والتي تشير إلى ضحايا مرض الطاعون).

    عندما جنَّ روميو عشقًا، شعر وكأن “قيده أكثر إحكامًا من قيد المجنون، بل شعر وكأنه في زنزانة سجن”. يصرُّ روميو على جولييت أن “هيهات أن تحول دون حبنا جدرانٌ من حجارة”، بينما تخشى جولييت أن يكون انطباعها الأول عن حبيبها زائفًا مثل “طاغية مخادع يقطن قصرًا فاتنًا”. في نهاية المطاف، وجدت جولييت نفسها مدفونة على قيد الحياة في ضريح حجري “مسكينة جثة على قيد الحياة، محتجزة في قبر الموتى”. لا بد أن تكون هذه المخاوف  مألوفة لدى أي شخص حبيس بسبب الحجر الصحي. إن جولييت لم ترَ نور الشمس مجددًا بعد أن تناولت الدواء الذي أعطاه لها القس؛ لأن الطاعون كان قد تفشَّى في “ڤيرونا” حيث تعيش جولييت، وكان القس في فترة حجر صحي في المدينة نفسها قبل أن يذهب إلى “مانتوَا” 

    ولكن ما يُبين لنا حقًا أن مسرحية “روميو وجولييت” حدثت في مجتمع تفشى فيه الطاعون هو اللحظة التي يجد فيها روميو جسد “تيبالت” في ضريح “كابوليت” غير مدفون بل ممدًا على غطاء ملطّخ بالدماء. فقد أشارت ڤانيسا هاردينگ، خبيرة في وفيات العصر الحديث، أنه أثناء تفشي الطاعون في أوروبا الحديثة بدؤوا بدفن الموتى فقط عن طريق لفّهم بأغطية؛ لأنه سرعان ما ارتفع سعر الدفن. لم يكن الطاعون سببًا في تأخر وصول الخِطاب لروميو فقط، بل بسببه أيضًا لم تُدفن جولييت وأقاربها في المقابر الحجرية. https://archives.history.ac.uk/cmh/epiharding.html


    لِمَ نلجأُ للأدب لننجو

    كتب شيكسپير”روميو وجولييت” بعد أن نجا من صدمة مجتمعية قويّة. في عام 1995 عرّف الناقد جيفري هارتمان “أدب الصدمة” على أنه نوع من الأدب الذي يترجم التجارب اللاشعورية والمؤلمة جدًا، والتي يعجز الإنسان عن ترجمتها تعبيرًا شعوريًّا. يصنّف أدب الأوبئة ضمن هذا النوع من الأدب لا سيما أنها تُعنى بالصدمات المجتمعية التي تقتصر عنوةً على الأسر الفردية، حيث أن التواصل الطبيعي بشأن الصدمة يكون موصدًا تمامًا، والسبب يعود لطبيعة قابليتها على التواصل.  إن الكتابة بصراحة عن تجربة الحجر المنزلي يعني أن تفشي أسرار عائلتك المنزلية.

    عندما يتعلق الأمر بتسمية الأمراض التي نعدها أوبئة، فإننا جميعًا نؤمن بالأوهام. في لندن أصبحت “C” تعني Covid-19  بدلا من دلالتها على مرض السرطان. بالنسبة لجائحة الإيدز، فإن الناس كانوا يهابون ذكر عبارة “الإيدز” أو “ڤيروس نقص المناعة البشريّة”. وقالت سوزان سونتاغ عن مرض السرطان والسل “إن أسماء مثل هذه الأمراض يسودها شعور بأن لها قوة سحرية”. وهكذا، عندما كتب بِن جونسون رثاءً في وفاة ابنه البالغ من العمر سبع سنوات عام 1616م، ترك المرض بدون اسم، حيث كان يقصد الطاعون بلا شك.

    يتبنى الكتَّاب نهجًا مُلطِّفًا مشابهًا في الخيال الأدبي، سواء كان ذلك في عام 1592م أو 2020م، فعندما يُحبَس الكتّاب في المنزل في ظل وجود الحرّاس الذي يتناوبون  على الدوريات في الشارع للتأكد من عدم خروج الناس من منازلهم، فمن المرجّح أن يكتبوا عن الحبس، والوحدة والعزلة، أو عن الأعراض وحاسة الشم. لكن ثمة استثناءات قليلة، نادرًا ما يتصدون للمرض بشكل مباشر وهو يلاحق نفوسهم. ومن أولئك الذي يكتبون روايات خيالية عن الأوبئة هو ألبرت كامو الذي كتب “La Peste” “الطاعون”، وهو نادرًا ما يكتب تجاربه الشخصية.


    الصراع على السلطة في الأدب

    وفي الوقت ذاته، استغلَّت السلطات السياسية في جميع أنحاء العالم تفشي الأمراض المعدية لتعزيز سلطتها أو لتثبت أهليّة الإيدولوجيات الحالية. أدرك الرومان ذلك من القرن الأول قبل الميلاد، حيث ركّزت قصيدة لوكريشس  ” “De Rerum Natura على الاستغلال السياسي للكوارث “الخارقة للطبيعة”.  في هنغاريا أخيرًا أصدر السلطان ڤكتور أوربان تشريعات طارئة بشأن الڤيروس التاجي (كورونا)  من خلال برلمانه الضعيف للسماح له بالحكم بموجب مرسوم وسجن الصحفيين لمدة تصل إلى خمس سنوات بحجة نشر “أخبار زائفة” (لطالما حاول أوربان تقييد حرية الصحافة في هنغاريا منذ سنوات).

    تمكنت سلطات العصر الحديث من ممارسة ذات الرياء تمامًا، حيث شارك البيوريتانيون الذين يسيطرون على مدينة لندن في معركة طويلة ضد مسارح المدينة، واشتكوا مرتين لمجلس الملكة الخاص من أن “التمثيل في زمن الطاعون يؤدي إلى زيادة تفشيه عن طريق انتشار العدوى، والتمثيل في الأوقات العادية يجلب الطاعون وذلك بإهانة الرب في مثل هذه المسرحيات”. إذا كنت تريد أن تقرأ عن طرق استغلال الحجر الصحي لفصل المجتمع وفرض السيطرة السياسية أثناء أزمات الطاعون في لندن فأوصي أن تبدأ بقراءة عمل الأكاديمية مارگريت هيلي.

    ولعل أشهر سطر في “روميو وجولييت” هو تعويذة الموت التي تلفظ بها ميركوتيو: “قُتل في شجار بين عائلتين لا ينتمي إلى أي منهما،  باصقًا: “فليتجاوز الطاعون منزليكما”.”

    لطالما استُشهد بمقولته على أنها “فليحل الطاعون على منزليكما” على الرغم من أن كلمة “o’er” تعني “انتهى”، (بعض الطبعات توضح علامة ‘.) لذا فهو لا يدعو بأن يصيب الطاعون منزل منتياجو  ومنزل كابلوت، حيث كانت الأسر المصابة بالطاعون في حجر صحي، مع وجود إشارة واضحة إلى تحذير الآخرين من خطر العدوى.

    إن مسرحية “روميو وجولييت” سردٌ لاضطرابات السلطة المدنية ومحاولاتها  للسيطرة على الذين لا يمكن التحكم بهم. يحاول المسؤولون أثناء الأوبئة إقصاء مصادر العدوى، وتحديد الأسر الخطرة بشكل دقيق وعزلها، أو يضحِّي البعض بحياتهم من أجل أن يعيش الآخرون. تنتهي مسرحية “روميو وجولييت” بالطبع بموت البطل، حيث يرى بعض المنظّرين أمثال رينيه جيرارد وديريدا أن هذه تضحية لا بد منها لاستعادة النظام المدني، كما لو أن روميو وجولييت هما كبش الفداء لكل ما تسبب في تدفق هذا الأذى.

    نأمل ألا تتطلب جائحة 2020م مثل هذه التضحيات. كما نأمل أن نتمكن من تجاوز حاجتنا إلى كبش فداء للتوترات المصحوبة مع هذه الجائحة. دعونا ألا نتظاهر أيضًا بأن أي ازدهار إبداعي نتج عن الحجر الصحي يعوِّض عن هذه المأساة الجماعية الظاهرة للعيان. صحيحٌ أن “روميو وجولييت” من روائع الأدب، لكن ما من استجابة ثقافية لوباء هذا الزمن تستحق حالة وفاة واحدة.


    بقلم: كيت مالتبي | ترجمة: جهينة اليعربية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

    مقالات ذات صلة

    زر الذهاب إلى الأعلى