الأدب

تصوير دون كيخوته

 

صادف هذا العام الذكرى السنوية الـ 400* لوفاة ميجيل دي ثربانتس، مؤلف أحد أكثر الكتب شعبية ومحبة بين الناس والتي دُعِّمت برسوم توضيحية مختلفة مرارا وتكرارا على مر تاريخ الأدب- دون كيخوته. في هذا المقال تبحث راشيل شميت في انعكاس النهج المختلفة للرسوم التوضيحية للحكاية وأثرها على قراءتها على مدى قرون.

* نُشر المقال عام 2016

 

تصوير جوستاف دوريه لدون كيخوته وسط خيالاته للرومانسية الفروسية، على واجهة طبعة باريس هاشيت 1863 – المصدر

 

توفي ثربانتس قبل أربعمائة عام يوم 23 أبريل 1616. وقد هزأ في مقدمة كتابه، الذي نُشر بعد وفاته “أعمال بيرسيليس وسيخيسموندا”، من موته المرتقب وشهرته الأدبية الصغيرة التي حققها في حياته. ومرة عندما كان هذا الكاتب المسن راكبا حصانه في طريقه إلى توليدو، لحق به أحد الطلاب وأشاد به بهذه الكلمات: “نعم، نعم، ها هو الأعرج تماما، الكاتب الساخر المشهور جدا، وبهجة الآلهة كذلك “. لم يتمكن ثربانتس من قبول هذا الثناء الثقيل على نفسه، فأجابه: “هذا خطأ  وقع فيه العديد من معجبِيَّ الجهلة”. سيدي، أنا ثربانتس، ولست بهجة الآلهة  أو أي من الصفات  الحمقاء الأخرى التي نعتني بها”. وأنهى ثيربانتس مقدمته بتوديع قُرَّائه: “لأنني أحتضر؛ أتمنى أن أراكم قريبًا، سعداء في الحياة القادمة!” 1

نال ثربانتس شهرته الأدبية بفضل كتابه دون كيخوته دي لامانتشا، وهو كتاب يحكي  عن الرجل القروي النبيل ألونسو كيخانو الذي أخذت أملاكه المحدودة تتناقص تدريجيا بعدما فقد ماله واستقراره العقلي جراء انغماسه الدائم في قراءة أدب الفروسية. وبإعلانه بأنه الفارس الجوال دون كيخوته دي لا مانتشا في عصر لم يعد الفرسان موجودين فيه، انطلق بصحبة الفلاح سانشو بانزا في رحلة لتصحيح المفاهيم المغلوطة، فقط ليتلقى ضربات أولئك الذين يعدونه على  أفضل تقدير مجنونًا، إن لم يكن أحمقًا. وبعد رجوعه إلى منزله محمولا في قفص من قبل جيرانه في نهاية الجزء الأول، يعود دون كيخوته ليسلك الطريق ذاته مجددا في الجزء الثاني. وهذه المرة ليواجه  قرّاء مغامراته التعيسة السابقة، من بينهم الدوق والدوقة الذين اتخذوا من الفارس الجوال المدّعي ومرافقه مصدرا للتسلية في بلاطهما .

صفحة العنوان لطبعة لندن بلونت 1620، تصور دون كيخوته وسانشو بانزا وهما على خيليهما – المصدر.

 

نُشر الجزء الأول عام 1605، واكتسب شعبية كافية لترجمته إلى اللغة الإنجليزية، حيث ترجمه توماس شيلتون عام 1612 على الأرجح، وإلى الفرنسية من ترجمة سيزار أودين بحلول عام 1614، بالإضافة إلى تكملةٍ زائفة من عام 1614 التي كتبها شخص باسم مستعار يدعى ألونسو فرنانديز دي أفيلانيدا. تصدى  ثيربانتس الذي شرع بالفعل في كتابة الجزء الثاني (المنشور عام 1615) لتكملة أفيلانيدا بتغيير مسار شخصياته وتوجيه انتقاد غاضب للمنتحل. ومع ذلك، فإن الهوية العامة وحتى القصد من عمله المحبوب قد أزعجا المؤلف منذ البداية. وفي مقدمة الجزء الأول، ينصح صديق مجهول الهوية  ثيربانتس -الذي يعاني من حبسة الكتابة- بأن هدفه يتلخص في “وضع حدٍّ لطريقة كتابة كتب الفروسية غير المبنية على أسس سليمة، والتي يحتقرها جمع من الناس ويثني عليها آخرون أكثر، وإن أنجزت  هذا العمل، فسيكون إنجازا عظيما.” والأكثر من ذلك، فإن قراءة دون كيخوته “تحول الكآبة لضحك، وتزيد المبتهج بهجةً، ولا تسخط البسيط، وتجعل الذكي معجبا بإبداعها، ولا تعطي سببا جادًّا للاستخفاف بها، وتجعل العاقل يثني عليها.”

وأياً كانت الفكرة المبدئية التي طرحها ثيربانتس، على مدى السنوات الأربعمائة الماضية، فقد أخذ دون كيخوته في رحلة في مخيلة العالم التي أخذت الشخصية الأدبية إلى ما هو أبعد من مفهومها الأصلي. وستلعب الرسوم التوضيحية لكتاب ثيربانتس دون كيخوته دورًا حاسمًا في هذا السياق- ليس فقط في تصوير هيئة  دون كيخوته وخادمه المخلص سانشو بانزا وإنما أيضًا في إعطاء حياة لصورة ثيربانتس نفسه.

أكدت صور القرن السابع عشر على حماقة شخصية العنوان، وعلى التصرف القاسي والمضطرب غالبا في العديد من الوقائع. وقد أصبح مشهد طاحونة الهواء مشهدا أيقونيا على الفور، وهو المشهد الذي يحسب فيه دون كيخوته أن التقانة التي تطحن الحبوب المنتجة في أرض مانشيجان شبه القاحلة عمالقةً. ويظهر الرسم الأول للمشهد في طبعة فرانكفورت عام 1648، حيث يطعن شراعُ الطاحونة دون كيخوته .

تصوير مشهد طاحونة من طبعة فرانكفورت 1648- المصدر

كما تصور أيضاً واجهة طبعة لندن هودجكين عام 1687 بعض الأفكار المهمة الخاصة بالترجمة التصويرية الأولى. فيحدد ظهور طاحونة الهواء الريف الإنجليزي على أنه مكان مغامرات دون كيخوته، كما فعلت مسبقا في صفحة العنوان لطبعة لندن بلونت عام 1620 (انظر للصورة الثانية التي ظهرت أعلاه). وفي المقدمة، يرتدي دون كيخوته بفخر وعاءً حصل عليه من حلاق متحيّر على أنه خوذة مامبرينو، بينما يرتدي سانشو، ذو البطن المنتفخة من البيرة، قبعة الأغبياء. وتطعم ألدونزا لورينزو الخنازير في الخلفية، وهي المرأة التي يدعوها الفلاح دون كيخوته بحبيبته عندما يسأله سانشوا عن دولثينيا الخيالية.

واجهة طبعة لندن هودجكين 1687- المصدر

كان ثمة فوارق شتى بين التقليد التصويري والرواية. ففي النص يُوصف سانشو بأنه ذو سيقان طويلة، لكن الرسامين يظهرونه ببطن كبير وهو مستوحى من اسمه (بانزا يعني “بطن” في اللغة الإسبانية). ويظهر التضاد الهزلي بين الفلاح القصير السمين والفارس المدعي  الطويل الهزيل – وهي مجاورة لم يضعها ثربانتس قط- مبكرا في الرسومات التوضيحية للكتاب. بينما تظل الطبيعة المتخيلة للجميلة والعذراء دولثينيا التي أكدها ثربانتس كما هي، حيث يصور الرسام نكتة ثيربانتس حول امرأة فلاحة قوية صاحبة أفضل يدين لتمليح لحم الخنزير في جميع المناطق الريفية المجاورة.

في القرن الثامن عشر، حدثت تغييرات رئيسية في تفسير دون كيخوته، وكان ذلك مصحوباً بتقييم جديد لثيربانتس. وأدى ظهور الطبعات الفاخرة التي تحتوي على سيرة المؤلف و نقوش كثيرة، بما في ذلك الرسوم التوضيحية للوقائع مع الواجهات والخرائط الرمزية، إلى تحويل الكتاب الساخر  إلى مجلد ضخم يستحق أن يأخذ مكانه بجانب الكلاسيكيات مثل هوميروس ودانتي وهوراس على رفِّ كتبٍ لقارئٍ متعلمٍ.

تشكل طبعة لندن تونسون 1738، التي نشرت باللغة الإسبانية ورعاها اللورد كارتريت، مشروعاً هائلا. كما تزخر بسيرة ذاتية لثربانتس من كتابة جريجوريو ماينس سيسكار بالإضافة إلى صورتين لثربانتس، تظهره إحداهما بصفته أديبًا حساسًا والأخرى مثل البطل الرمزي هرقل ميوسجيز. فالأولى، التي صممها ويليام كينت ونقشها جورج فيرتو، تبرز هيبة الكاتب، حيث يخفي اليد المشوهة بسبب معركة ليبانتو ويؤطره بالستائر والكتب في خلفية معمارية قوطية. ومن الواضح أن ثيربانتس يسيطر على شخصياته، دون كيخوته وسانشو، فيظهران على مشكاة مقوسة الشكل خلفه وهم يمتطون أحصنتهم.

صورة لثربانتس من طبعة لندن تونسون 1738، صممها ويليام كينت ونقشها جورج فيرتو- المصدر

وتشكل الصورة الرمزية لثربانتس على شكل هرقل ذو بنية قوية، والتي صممها جون فاندربانك ونقشها جيرارد فان دير جوت، تناقضا حادا. حيث يدير المؤلف ظهره للمشاهد والآلهة المتوسلة، أخذًا هِرَاوَة من ساتير الذي كان يرشده  وقناعًا، ويخطو نحو جبل بارناسوس ليخلصه من وحوش الفرسان التي تحتله.

الصورة الرمزية لثربانتس من طبعة لندن تونسون 1738، التي صممها جون فاندربانك ونقشها جيرارد فان دير جوت – المصدر.

 

لا بد أن معنى الرسوم التوضيحية بدا غامضا وغير ثابت إلى حد ما، لهذا وجد الدكتور جون أولدفيلد أنه من الضروري كتابة تفسيرات مصاحبة. فيُعد القناع، الذي يحتوي على حاجب ثقيل وأنف خشن يشبه إلى حد كبير دون كيخوته في الرسوم التوضيحية العرضية للطبعة، “الوسيلة المناسبة لتحقيق غاية [ثربانتس]، أي تحقيق نهاية بها دعابة وسخرية”. وبيد أن المعلقون قد أصروا في وقت سابق على أن عمل ثيربانتس هو محاكاة ساخرة للأدب الشعبي عن الفارس الجوال، فإن أولدفيلد وماينس يرجعونه الآن إلى القصد الساخر للمؤلف، فيلبسانه لباس الكلاسيكية الجديدة. وبالنسبة لماينس، فيرى أن أدب الفرسان الجوالة ليس بأقل من العمل البربري، وأنه تكريس لحكم القوة الغاشمة التي أعقبت سقوط روما. وبهذا يصبح هجوم ثربانتس الساخر على الرومانسية الفروسية دفاعًا عن العقل، بل وحتى عن الحضارة.

ومن الناحية البصرية، فإن ارتقاء الرواية لنوع آخر يُترجم إلى تصوير وقائع تُظهر دون كيخوته بأنه ليس مجرد أحمق، ولكن أيضًا رجل متعلم. ومن هذا المنطلق، ظهرت روايات بديلة في الرسوم التوضيحية. فعلى سبيل المثال، يسخر ثيربانتس من دون كيخوته عندما تتحدث شخصيته – أمام رعاة الغنم الأميين والمندهشين- عن العصر الذهبي المفقود حيث الأشجار التي تعطي ثمارها طوعا والفتيات اللواتي  يسرن في البرية دون أن يكنَّ عذارى كأمهاتهن اللواتي أنجبنهن. فهنا لا يقتصر الأمر على تشويه الفارس المدعي للموضوع الكلاسيكي فقط، بل يفعل ذلك لجمهور ليس لديه أية فكرة عما يتحدث عنه. وعندما يلخص فاندربانك هذه الحادثة كنقطة تحول بعد تصاعد الأحداث   طبقًا لمعايير الرسم التاريخي، تظهر رؤية مختلفة تمامًا.

نسخة فاندربانك من مشهد رعاة الغنم، من طبعة لندن تونسون 1738 – المصدر.

يستمع الرعاة باهتمام واستغراق، بينما يعرض شابٌ ظهره القوي للمشاهد مديرا رأسه باهتمام بالغ تجاه دون كيخوته المتميز. وكان هذا الموضع للشخصية الرئيسية -أي تتوسط جمهورا يحيط بها لجذب عين المشاهد- موجودًا في أعمال أخرى مثل لوحة استسلام بريد لفيلاسكيز. وبالتأكيد، فإن الشخص الوحيد الذي يتجاهل رجل ثربانتس المجنون هو سانشو، الذي يسرف في شرب نبيذه في أسفل اليمين. ولقد فشلت المفردات التصويرية الكلاسيكية الحديثة في التقاط سخرية ثربانتس، كما أنها لا تعد مناسبة ضمن المشروع الأكبر لتصديق رواية دون كيخوته لكي تواصل تصوير مشاهد الفكاهة المادية أو جنون دون كيخوته. وفي الحقيقة، إن هذه الطبعة لا تصور المشهد الشهير للطاحونة إطلاقا.

على الرغم من أن نسخة مدريد إيبارا 1780، التي بحوزة الأكاديمية الملكية الإسبانية للغة، هي تتمة لطبعة لندن تونسون 1738 فيما تقوم به من التصديق، فتوضح بعض العناصر كيف يمكن للغة الكلاسيكية الحديثة، التصويرية والنقدية، أن تتيح مجالًا لقراءةٍ عاطفية للرواية؛ بحيث يظهر فيها دون كيخوته بطلا. فيرى فيسنت دي لوس ريوس أثناء تحليله للرواية لمحات من الحكمة في شخصية دون كيخوته، كما يلاحظ أيضا بأن الرجل المجنون عندما لا ينشغل بقضايا الفرسان الجوالة، يتصرف دائمًا كرجل متعلم. ومن بين العديد من الرسامين الذين نُقشت رسوماتهم لهذه الطبعة الضخمة، قد أقدم خوسيه ديل كاستيلو على رسم المفردات البطولية. وفي الرسمة التوضيحية للمشهد الذي يتعرض فيه دون كيخوته للضرب من رعاة الفَرس التي رسمها بيدرو باسكوال مولس، يمنح كاستيلو الكرامة للشخصية الهالكة والقوة ، بحيث يقاوم الضرب الوحشي من الفلاحين بمدِّ درعه.

فكرة خوسيه ديل كاستيلو عن المشهد الذي يتعرض فيه دون كيخوته للضرب من رعاة الفرس، من طبعة مدريد إيبارا 1780 – المصدر.

 

فيبدو من مظهره الجانبي أنه في منتصف عمره وقوي ووسيم وله نظرة شجاعة، وحتى المنحنى التركيبي الذي شكله مهاجموه والشجرة التي خلفهم ثابت بثبات دون كيخوته عند أقدامهم. ويوضح كل هذا بالطبع مواجهةً عنيفة سببها حدث ربما يكون كوميديًا أكثر من كونه مشهدا جليلا : التقدمات الجنسية غير المرحب بها التي قام بها الفرس روثينانته تجاه الأفراس.

مع ظهور الطبعات المنتجة بكميات كبيرة والتي تحتوي على رسوم مصغرة ورسوم توضيحية تملأ الصفحات  في القرن التاسع عشر، غالبًا ما كانت الصور الكوميدية والعاطفية توجد  في نفس المجلد. ففي طبعة لندن كاديل لعام 1818، صمم روبرت سميرك رسمين مختلفين تمامًا، يشير كلاهما إلى كفارة دون كيخوته في سييرا مورينا، حيث خلع الفارس المدعي بنطاله وأدى حركات بهلوانية كدليل على إخلاصه لدولثينيا. إحداها عبارة عن رسم توضيحي على صفحة كاملة، نقشه فرانسيس إنجلهارت، ويظهر فيه دون كيخوته جالسًا وهو نصف عار على قمة جبل، وهو ما فُسر بأنه دليل على القراءة “الرومانسية” للرواية.

رسم توضيحي على صفحة كاملة لروبرت سميرك لدون كيخوته وهو بدون بنطال خلال مشهد التكفير عن الذنب – المصدر.

 

أما الرسم التوضيحي الآخر، وهو الرسم المصغر المصاحب، يشارك بوضوح في التقليد الهزلي القديم، حيث يظهر دون كيخوته رأسا على عقب وأرجله عارية منحنية وسانشو بانزا في الخلفية مشدوها من خزي سيده.

الصورة المصغرة لمشهد التكفير لروبرت سميرك – المصدر

 

يعطي إنتاج الرسوم المصغرة مع الرسوم التوضيحية على صفحة كاملة (التي ظهرت بالفعل في الإصدارات الفاخرة) مجالا لتعدد التفسيرات البصرية لـ دون كيخوته جنبًا إلى جنب في نفس الإصدار.

في رسوماته التوضيحية لطبعة باريس هاشيت لعام 1863، استغل جوستاف دوريه تنوع التقاليد التصورية لخلق رؤية مليئة بالحيوية ومناقضة  لرواية ثيربانتس. غالى الرسام الفرنسي في التقليد العاطفي، بحيث لم يرَ دون كيخوته بطلا فقط مثلما كان كيخوته يرى نفسه، وإنما أيضًا ينظر إلى العالم من منظوره. واستمتع دوريه، بالقدرة الفنية الجديدة لاستكشاف درجات الألوان الداكنة من خلال النقش على الخشب، في تصوير المشاهد الليلية، منتزعًا منها صفاتها المحيطة الكئيبة. وفي الرسم التوضيحي الذي نقشه لونجاكر بعد رسمة دوريه لموكب “مرلين” الوهمي الذي زيفه الدوق والدوقة للتلاعب بدون كيخوته وسانشو، يستخدم اللون الأبيض على الرسم التصويري الأسود ليبرز الطبيعة الشبحية التي كان يمكن أن يكون عليها مشهد منتصف الليل بالنسبة للشخصيتين الرئيسيتين الخائفتين.

تصوير دوريه لموكب ميرلين عند منتصف الليل في طبعة باريس هاشيت لعام 1863- المصدر

 

وهذا التصور للواقعة يجعل القراء يعيشون شعور الخوف الذي شعر به الفارس ومرافقه، ثم الشعور بخيبة أمل وفي النهاية كراهية الأرستقراطية الساخرة في اللحظة التي تنكشف فيها الحقيقة. ويشكل هذا الانعكاس في وجهات النظر منحى آخر في السرد التصويري. ومع هذا، فإن دوريه لم يتخلَّ عن الكوميديا. وبالعودة إلى مشهد طاحونة الهواء، يقدم دوريه هزيمة دون كيخوته حيث يدفع الشراع الممزق روثنانته في الهواء، كاشفا بطن الحصان وحاملا المجنون الخائب بقوس كبير وهو ما ينقل بالفعل تصور المعركة بين البطل والعمالقة لأرض الواقع.

تصوير دوريه لمشهد الطاحونة – المصدر

 

وفي ما يتعلق بالطبعات الفاخرة في القرن الثامن عشر، فقد اقترن تحرك الناشرين وكتاب السيرة الأدبية لتصديق ثربانتس وروايته مع المفردات التصويرية الكلاسيكية الحديثة للرسامين التي تميل نحو التعاطف مع دون كيخوته. وكمشاريع تحريرية، كانت هذه الطبعات ضخمة الحجم وناجحة في تصور ثربانتس بصفته مؤلفا “كلاسيكيا”، ومع ذلك فإن الرسوم التوضيحية تصور عمدًا منظورًا أحاديًا للطابع المعقد للرواية، مضحيةً بحسها الهزلي والساخر. وبعدها أعادت طبعات القرن التاسع عشر، التي أُنتجت بأسعار زهيدة بما في ذلك الرسوم المصغرة، تقديم الوقائع الهزلية جنبًا إلى جنب مع الوقائع العاطفية. وكان الأكثر تأثيراً هو إبراز منظور دون كيخوته نفسه بكل جاذبيته المفرطة، مثلما رأينا في تصور دوريه. لذا، فقد تملصت الشخصية دون كيخوته من سترة المجانين التي كان محتجزًا فيها عندما رأى بأنه مجرد أداة لمهاجمة أدب الفروسية، وأصبح بطلا في المخيلة الشعبية. وقد أبصر ثربانتس إلى أي مدى قد تكون المزاعم حول مجنونه العجيب مراوغة، عندما قال في مقدمة الجزء الأول ساخرًا”: وعلى الرغم من أنني أبدو الأب، إلا أنني  زوج والدة دون كيخوته.”


راشيل شميت بروفسورة بجامعة كاليغري وهي مؤلفة كتاب Critical Images: The Canonization of Don Quixote through Illustrated Editions of the EighteenthCentury    (McGill-Queen’s 1999)  وكتاب Forms of Modernity: Don Quixote and Modern Theories of the Novel   (Toronto 2011). وتعمل حاليًا على إعداد كتاب عن علم الكونيات والسياسة في رواية ثيربانتس الأخيرة “أعمال بيرسيليس وسيخيسموندا”.


بقلم: ريتشل شميت | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق الترجمة: آلاء الراشدية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى