الاقتصادالعلوم الاجتماعية

كيف يمكن للمجرمين التلاعب بأسواق العملة المشفرة؟

تستندُ العملاتُ المُشفَّرةِ مثل البيتكوين على أنظمةٍ يُفترضُ أن تكونَ محميَّةً بطبيعتِها من  التَّزوير. ومع ذلك قامتْ وزارةُ العدلِ الأمريكيةِ بفتحِ تحقيقٍ جنائيٍّ في التَّلاعبِ بأسعارِ البيتكوين، فكيف يكون هذا النوعُ من الاحتيالاتِ ممكنًا؟

من خلالِ بحثي في البلوكتشين والعُملاتِ المُشفَّرةِ على مدارِ السنواتِ الثلاثِ الماضية، أدركتُ أن أنظمةَ البلوكتشين لديها بعض ميزاتِ الأمانِ الثابتة؛ فعلى سبيلِ المثال؛ إذا أرسلتُ لك مبلغًا من البيتكوين وتم تسجيلُ تلك المعاملةِ في سجلِّ حساباتِ البلوكتشين، فلن أتمكَّنَ من إجبارِ النظامِ على استردادِ هذه الأموال، لأن التقنيةَ نفسها تمنعُ التراجعَ في المُعاملة. ولكن هذا ينطبقُ فقط على المعاملاتِ التي تحدثُ داخل النِّظامِ، فهناك عناصر أخرى من تقنياتِ تشْفيرِ العُملاتِ التي تجعلُ الاحتيالَ أسهل.

تداولُ البيتكوين كتداولِ الأسْهم

يبدو أن بعضَ المشكلاتِ التي تُحقِّقُ فيها وزارةُ العدلِ قد نشأتْ لأن عُشَّاقَ البيتكوين لا يتعاملون مع العملاتِ المُشفَّرةِ كوسيلةٍ للدفعِ مثل الدولار، بل يتصرفونَ كما لو أن عملاتِ البيتكوين وأمثالها أصولُ مضاربةٍ مثلَ الأسْهمِ والسَّندات. لذلك، فهم يُقدِّمونَ طلباتِ شراءِ عملةِ البيتكوين أولًا، وبعدها يُتِمُّونَ الصَّفقة. هذا نوعٌ واحدٌ من أنواعِ الاحتيال؛  ما يُسمِّيهِ مُحقِّقو الاحتيال بـ “الانْتِحال“، حيث يقومُ الأشخاصُ بتقديمِ الطَّلباتِ ولكنهم يُلغونَها قبل الانتهاءِ من الصَّفقةِ – غالبًا دون الحاجةِ إلى دفعِ رسومِ الخِدمة. وهذا يجعلُ الأمرَ يبدو كما لو أن هناك طلبًا أكبرَ على البيتكوين أكثر ممَّا يوجدُ بالفعلِ، مما يزيدُ من قيمةِ كل بيتكوين.

هذا النوعُ من التَّلاعبِ مُمكنٌ مع أيِّ نوعٍ من الأصولِ تقريبًا. لكن البيتكوين أكثر عُرضةً من الأسْهُمِ أو السَّنَداتِ، لأن قِلَّةً قليلةً من الناسِ يمتلكونَ كميَّاتٍ كبيرةٍ من البيتكوين. وتتضمَّنُ أضخمُ ألف حسابِ عملةِ بيتكوين نسبةَ 40٪ من جميعِ عمُلةِ البيتكوين الموجودة – مع ما يقرُبُ من 20٪ منها في 100 حسابٍ فقط.

كثيرٌ من الأشخاصِ الذين يمتلكونَ كمِّياتٍ كبيرةٍ من البيتكوين يعملونَ في مجتمعِ العُملةِ المُشفَّرةِ منذ عدَّةِ سنواتٍ ويعرفونَ بعضَهم البعض. بحيث يمكنُهم اتِّخاذُ إجراءاتٍ مُدبَّرةٍ لزيادةِ الأسعارِ أو خفضِها – ولأنه لا يوجدُ تنظيمٌ حقيقيٌّ لأسواقِ العُملةِ المُشفَّرةِ، فقد لا يكونُ من غيرِ القانونِيِّ القيامُ بذلك.

هناك حمايةٌ ضئيلةٌ لتداولِ العُملاتِ المُشفَّرةِ، وهذا جُزئيًّا لأنه حديثٌ جدًّا. على سبيلِ المثال، قد يُؤدِّي التقلُّبُ الشديدُ في أسعارِ الأسْهُمِ إلى “القواطع” في الولاياتِ المُتَّحدة، مما يوقِفُ التَّداولَ ويعيدُ ضبطَ الأسعارِ للحَدِّ من خسائر المُستثمرين. لا تملك أسواقُ العُملةِ المُشفَّرةِ مثل هذه الآليَّاتِ المُدمَجَةِ.

استغلالُ إخفاء الهَويَّةِ

هناك نوعٌ آخر من الاحتيالِ الذي تُحقِّقُ فيه وزارةُ العدلِ يُسمَّى “تجارة الغسيل” ، حيث يقومُ شخصٌ ما بإعدادِ ما يبدو وكأنه صفقةُ شراءٍ وبيعٍ مشروعة، لكن في الواقعِ يقومُ بالصَّفقةِ مع نفسِه. وهذا يجعلُ الأمرَ يبدو كما لو أن السوقَ نشِطٌ  أكثرَ ممَّا هو عليهِ بالفعل، مما يُؤدِّي إلى زيادةِ الطَّلبِ ورفعِ القيمةِ بشكلٍ مُصطَنَعٍ.

يمكنُ لأيِّ شخصٍ امتلاكُ العدد الذي يرغبُ من حساباتِ العُملاتِ المُشفَّرةِ، والعديدُ من الأنظمةِ المُستندةِ إلى البلوكتشين تُبقِي هويَّاتِ المُستخدمينَ مجهولةً. يتِمُّ تسجيلُ المُعاملاتِ نفسها – إذا حدثتْ بالفعلِ – وعرضُها للجُمهورِ، ولكن تُعرفُ  الحساباتُ المَعْنيَّةُ  فقط بعناوين البيتكوين، والتي هي رموزٌ أبجديَّةٌ رقميَّةٌ طويلةٌ مثل ” 1ExAmpLe0FaBiTco1NADr3sSV5tsGaMF6hd.”

وهذا ما يجعلُ الكشفَ عن هويَّتِكَ  وإثبات حدوث تجارة الغسيل أمرًا صعبًا جدًّا ويتحدَّى القانون وقدرتَه على التَّعرُّفِ إلى المُحتالين والقبْضِ عليهم. في جلسةِ استماعٍ بالكونغرس في يونيو 2017، أخبرَ مُدَّعٍ اتِّحاديٌّ سابقٌ أن تحقيقاتِ العُملةِ المُشفَّرةِ كشَفَتْ عن حسابٍ أنشأهُ شخصٌ يَدَّعي أنه “ميكي ماوس” يعيشُ في “123 ماين ستريت“.

تعزيزُ الرَّقابة

بدأتْ بعضُ الدُّوَلِ في تنظيمِ أسواقِ العُملةِ المُشفَّرةِ، إما بِمُوجَبِ اللوائحِ الحاليةِ أو الأنظمةِ الجديدة. في عام 2015، على سبيلِ المثال، توصَّلَ تحقيقٌ اتِّحاديٌّ إلى أن شركة Ripple Labs للعُملاتِ المُشفَّرةِ بالولاياتِ المتحدةِ لم تتَّبِع بشكلٍ صحيحٍ قوانينَ وقواعدَ مكافحة غسيلِ الأموالِ والتي تنُصُّ بضرورة الحُصولِ على معلوماتٍ دقيقةٍ لتحديدِ هويَّةِ العميل.

في مايو 2018 ، أطلقَتْ 40 سُلطةً قضائيَّة، بما في ذلك الولاياتُ المتحدةُ والمقاطعاتُ الكَنَديَّةُ والجهاتُ التنظيميَّةُ الوطنيةُ في كِلا البلديْن، تحقيقًا رسميًّا أُطلِقَ عليه اسم “عملية Cryptosweep” ، للقضاءِ على تجارةِ العُملةِ المُشْتبهِ فيها. فتحت خلاله ما يصلُ إلى 70 تحقيقًا وحذَّرت ما يقرب من 35 شركة من احتمالِ انتهاكِ قوانين الأوراقِ الماليَّة.

ومع ذلك، فإن الغالبيَّةَ العُظمى من تداولِ العُملاتِ المُشفَّرةِ تحدُثُ في البلدانِ التي لديها عددٌ قليلٌ من اللوائحِ والقوانينِ والتَّجاوُزاتِ في تنفيذِها. فعلى سبيلِ المثال، من أوائلِ عام 2014 إلى أوائلِ عام 2017، أُجريَتْ حوالي 90٪ من تجارةِ البيتكوين العالميةِ من خلالِ بورصاتِ العُملةِ الصينيةِ المُشفَّرةِ. ومن المُؤكَّدِ أن بعضَ هذه الشركاتِ قامتْ بتضخيمِ حجمِ التداولاتِ التجاريةِ لديها لجذْبِ عُملاء جُدُد. لذلك حظرتْ الصينُ تداولَ العُملاتِ المُشفَّرةِ عبر الإنترنت منذُ ذلك الحين، لكن ما زال الناس يجدون الثغرات للقيام بذلك.

من المُحتملِ أن تنتقلَ هذه المشاكلُ إلى البُلدانِ التي تفتقرُ إلى قوانين قوية، وهنا تبْرُزُ أهميةُ التعاونِ الدُّوليِّ في التحقيقاتِ، فالعُملاتُ المُشفَّرةُ ظاهرةٌ عالميَّةٌ. يتعيَّنُ على دولِ العالمِ – وخاصَّةً تلك التي لديها نشاطٌ تجاريٌّ قويٌّ- أن تعملَ معًا لحمايةِ المُستهلِكين.


بقلم: نير كشتري | ترجمة: زيانة الرقيشية | تدقيق الترجمة: روان البداعية | تدقيق لغوي: لجين السليمية | المصدر

زيانة الرقيشي

خريجة ترجمة عن حب من جامعة السلطان قابوس أميل لترجمة النصوص الأدبية ولدي تجارب في الترجمة العلمية والقانونية أسعى لأكون غدا أفضل مما أنا عليه اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى