تعرف إلى المهن التي تمنح موظفيها شعورًا عاليًا بالرضى
يستكشف عالم النفس باري شوارتز الالتزام والانتماء الذي يشعر به بعض الموظفين حيال مهنهم التي قد لا تتوقعها.
لماذا نعمل؟ ما الذي يدفعنا كل صباح للاستيقاظ بدلاً من عيش حياة مليئة بالمتعة والمغامرة؟ بالتأكيد سيكون الدافع الأكبر هو العمل من أجل المادة، ولكن هل هذا هو الدافع الوحيد؟ بالطبع لا، فعندما تسأل الأشخاص المُنجِزين والطموحين عن سبب قيامهم بهذا الأمر، فإن الأموال لا تكون ضمن سياق إجابتهم، وإنما قائمة الأسباب غير المادية للموظفين الذين يشعرون برضى تام عن وظائفهم بقدرٍ من الالتزام والاستقلالية والفطنة في العمل، ويستخدمونها لتحقيق أعلى مستويات الإتقان والخبرة، من خلال تعلم مهارات جديدة تُنميهم على الصعيد المهني أو الشخصي على حد سواء. والأهم من ذلك، شعور الرضى والجدوى الذي يتملّكهم بعد يوم عمل حافل، ومدى إحساسهم بأن عملهم قد يصنع فارقاً في العالم ويجعل حياة الآخرين من حولهم أفضل.
يتمنى الجميع تقريباً أن يعمل لأهداف أسمى من المادة! أكثر من مجرد راتب.
تطرح مصادر الترضية المحتملة والمتنوعة التي قد تجلبها الوظيفة تساؤلاً كبيرًا للغاية، وهو لماذا لا تحتوي وظائف غالبيتنا سوى القليل من هذه السمات، أو ربما على أي منها على الإطلاق؟ وفقًا لتقرير ضخم نشرته منظمة غالوب في عام 2013، وهي منظمة استطلاع مقرها في العاصمة واشنطن، بأن 13% من الموظفين يشعرون بأنهم منهمكون بوظائفهم مع امتلاك الشغف تجاه عملهم، ولا مانع لديهم من أن يقضوا أياماً متواصلة لتطوير جهة عملهم، بينما يقضي أكثر من 90% من البالغين نصف حياتهم في فعل أشياء لا يحبونها في بيئات لا يفضلونها.
قد تظن أن العمل الروتيني المدفوع بالرواتب السخية هو الثمن الذي يجب علينا دفعه من أجل الكفاءة والإنتاجية، فربما قد تنكمش أرواحنا في سبيل أن يتضاعف رصيدنا البنكي. بينما عدد قليل من الأشخاص يبحثون عن المضمون والالتزام في عملهم، أما بالنسبة للأشخاص المهنيين فالأمر لا يتعلق بالمال فقط، لكن بالنسبة لغيرهم فهو كذلك.
أسعى عبر كتابي “لماذا نعمل” إلى إظهار أن كل شخص منا يرغب في أن يعمل في وظيفة تمنحه أكثر من مجرد راتب، وأن شروط عملنا لديها الكثير لتقوله عما إذا كان هناك المزيد. يمكننا أن نجد الكثير من المختصين كالأطباء والمحامين والمعلمين الذين يقيسون نجاحهم براتبهم الشهري، وفي الوقت ذاته يمكننا العثور أيضًا على الكثير من غير المختصين الذين يحيدون في كثير من الأحيان عن التوصيفات الوظيفية الخاصة بهم، وذلك لجعل عملهم اليومي أمرًا يستحق القيام به.
في إحدى جزئيات الكتاب، حاولتُ أن أقدم شرح المغزى وراء الالتزام الذي يستمده بعض الموظفين من تلك المهن التي قد لا يتوقعون تحقيقها، وهذا هو الهدف الرئيسي. الحقيقة هي عندما يكون لدى الناس عملٌ ذو مغزى فإنهم يعملون بجد وذكاء أكبر، وتكون شركاتهم الرابح الأكبر في ذلك، لهذا فإنك تتساءل لماذا يركّز رؤساء الشركات على المادة بإنشاء عمل يفتقر إلى الاحترافية، مما قد يُهين من نظرة الموظفين له؟
أولاً : حارس المستشفى
يعمل لوكا حارسًا في مستشفى تعليمي كبير. إن التوصيف الوظيفي لمهام عمله لا يشمل أيًّا من البنود عن المسؤولية أو الرعاية التي يقدمها للمرضى وعائلاتهم، فهو لديه قائمة طويلة من المهام بما فيها جمع الأغطية المتسخة ولوازم مرحاض الحمام والتخلص منها، ولكن لا يوجد عنصر واحد في القائمة ينص فيه كيف يتعامل مع الآخرين. يمكننا أن نجد من خلال الوصف بأن لوكا من الممكن أن يكون عمله في مصنع للأحذية أو في مشرحة بدلاً من العمل في المستشفى.
لم تكن واجبات لوكا الرسمية سوى جزءٍ واحدٍ من وظيفته الحقيقية
ولكنه كان يعمل بمهام مختلفة تفوق مهامه الوظيفية، كما اكتشفت الباحثة آمي رزيسنيفسكي عندما أجرت مقابلات متعمقة هي وفريقها مع لوكا وبقية حراس المستشفى. وقد طلب الباحثون من الحراس التحدث عن وظائفهم، أخبرهم لوكا قصته بأن واجباته الرسمية ليست سوى جزءٍ واحدٍ من وظيفته الحقيقية، وأن الجزء الأساسي من وظيفته هو جعل المرضى وعائلاتهم يشعرون بالراحة ورفع معنوياتهم عندما يشعرون بالإحباط، تشجيعهم وصرف آلامهم ومخاوفهم عنهم والاستماع إليهم دائماً عند الرغبة في الحديث. فقد أراد لوكا فعل شيءٍ أكثر من مجرد عمله كحارس.
إن ما سعى إليه لوكا في عمله تم تشكيله من خلال الأهداف التي أطلق عليها أرسطو بمنظمته تيلوس (Telos). تنطوي أهداف مستشفى تيلوس لتحسين الصحة العامة للمرضى وتخفيف معاناتهم جزءٌ لا يتجزأ من نهج لوكا في عمله. إن الشيء المذهل الذي اكتشفته الباحثة رزيسنيفسكي وزملاؤها عن لوكا وبقية زملائه في العمل هو أنهم فهموا هذه الأهداف واستوعبوها على الرغم من التوصيف الرسمي لوظيفتهم وليس بسببها، فإن المهمة التي كانوا يقومون بها في الواقع كانت مهمة صاغوها لأنفسهم في ضوء أهداف تيلوس telos للرعاية الطبية. أخبر الحارس الآخر والذي يُدعى “بِن” الباحثين كيف توقف عن تطهير أرضية الأروقة لأن المريض الذي كان يتعافى من عملية جراحية كبيرة أجراها، كان ينهض من سريره ليقوم ببعض التمارين التي كان بأمس الحاجة إليها بالمشي قليلاً وببطء في أرجاء الردهة، بينما أخبرهم كوري أيضاً عن الكيفية التي تجاهل بها تحذيرات مشرف عمله وامتناعه عن كنس استراحة الزوار بينما كان بعض أفراد أسرة المريض ينامون فيها كل يوم وليلة. شكّل هؤلاء الحراس عملهم مع وضع الهدف الرئيسي للمستشفى في عين الاعتبار.
لم يكن لوكا وبن وكوري حراسًا عاديين، بل كانوا أمناء للمستشفى، فقد رأوا أنفسهم يمثلون دورًا مهمًا في المؤسسة التي تهدف إلى رعاية المرضى ورفاههم.
ثانياً : صانع السجاد
قبل حوالي عشرين عامًا ، حقق راي أندرسون وهو الرئيس التنفيذي السابق لشركة إنترفيس (Interface)، الشركة الرائدة عالمياً في تصميم قطع السجاد الجاهزة والمبتكرة، نجاحاً هائلاً في السوق ليصف ثروته بأنها ’عيد الغطاس‘، حيث وجد نفسه مع أموال كثيرة أكثر مما يتوقع هو وورثته. وعندما أدرك أن شركته كانت تسمم البيئة لأنها كانت صناعة شديدة الاستهلاك للنفط. تساءل أندرسون حول ما يمكنه فعله بتركه ثروة عظيمة لأحفاده إذا كان ثمن تجميعها كوكبًا غير صالح للعيش فيه ، لذا فقد صمم أندرسون على تحويل كل جانب من جوانب عمليات إنترفيس، بحيث تقلل من الأثر البيئي الضار، ما يعكس التزامه الدائم تجاه الاستدامة. بحلول عام 2020، افترض أندرسون أن تطوير عمليات إنتاج جديدة والالتزام بمكافحة التلوث سيكلفان الكثير من المال، ولكنه كان على استعداد للتضحية بالنتيجة النهائية لصالح منظمة تنقذ الأرواح لتدرك المعنى والغرض في ما تقوم بالمصلحة الاجتماعية.
لست بحاجة إلى العمل في منظمة تنقذ الأرواح للعثور على المعنى والهدف في ما تفعله.
لذلك بدأت شركة إنترفيس في رحلة لتغيير ما تقدمه وكيف تقوم بتصنيعه وما الذي تفعله بنفاياتها. وبحلول عام 2013، خفضت الشركة استخدام الطاقة إلى النصف واتجهت إلى استخدام الطاقة المتجددة. كما عملت على تقليص النفايات إلى عُشر ما كانت عليه. ما مقدار الربح الذي قد تم التضحية به؟ لا شيء على الإطلاق، فقد كان الدافع وراء إتاحة الفرصة لموظفي إنترفيس للعمل من أجل الصالح العام وتحديهم بضرورة إيجاد تعديلات مبتكرة لعملية الإنتاج، لذا أصبح عملهم أكثر فاعلية وكفاءة.
وقد أدركت الشركة أن مهمتها الجديدة ستتطلب مشاركة خلاَّقة على جميع المستويات في المنظمة، حيث عملت على تسوية التسلسل الهرمي لها، وأعطت موظفيها المزيد من حرية التصرف والتحكم حول ما يقومون بفعله. لقد كانت قوة الرؤية المشتركة للشركة سبباً في تشجيع التضافر والتعاون، ويتطلب التقدم نحو الاستدامة حلولاً مبتكرة لذلك ظهرت ثقافة شجعت الانفتاح وسمحت بالعيوب الناشئة منها.
وقد أظهرت نتيجة رؤية أندرسون بعد عشرين عامًا بأنها شركة ما تزال ناجحة للغاية، ومكتظة بموظفين يتوقون إلى العمل كل يوم. قام أندرسون بتوثيق تحول شركة إنترفيس في كتابه “اعترافات رجل الصناعة الراديكالي” الذي صدر في عام 2009، حيث طرح فيه الأرباح والأشخاص والغرض من ممارسة الأعمال التجارية من خلال احترام الأرض، وفي حديثه في منظمة TED عن ” منطق الاستدامة التجاري” قال: إنك لا تحتاج إلى العمل لصالح منظمة تنقذ الأرواح لتدرك المعنى والغرض في ما تقوم به، وإنما تحتاج فقط إلى القيام بعمل يجعل حياة الناس أفضل.
ثالثاً: مصفف الشعر
صحيح أن الأشخاص الذين يعملون في إنترفيس لا ينقذون الأرواح، لكن مهمتهم تنطوي على إنقاذ الكوكب. قليل منا يستطيع أن يُلبي هذه الدعوة النبيلة، ولكن ماذا عن الأشخاص الذين لا يكون عملهم مؤثرًا عالميًا، كنوادل المطاعم والسباكين والبنَّائين واللحامين ومصففي الشعر وموظفي المكاتب؟ هنا من الممكن أيضًا إيجاد معنى ورضا هائلين أينما كنت .
يقابل مايك روز أشخاصًا ذوي وظائفَ كادحة في “العقل في العمل”، فإن ما يميزه عن بقية مصففي الشعر على وجه الخصوص هو لفت النظر. لا شك أن مصففي الشعر بحاجة إلى اكتساب مجموعة من المهارات التقنية حول كيفية قص وصبغ الشعر وكذلك تصفيفه. يرى الكثير من مصففي الشعر وربما معظمهم بأن ما يقومون بفعله يتطلب قدراً كافياً من الإبداع، لكنني أعتقد بأن ما يجعل الوظيفة مجدية هي المهارة التي يكتسبونها في التعامل مع الزبائن، أي ما الذي تعنيه الزبونة عندما تطلب قص شعرها قليلاً كنوع من التجديد، أو كيف تستطيع إقناع الزبونة بأن تسريحة الشعر التي أحضرت صورة لها على العارضة لن تبدو جميلة ومناسبة على وجهها كما تظن، فضلاً عن منح العملاء الشعور بالرضا والثقة بالنفس تجاه مظهرهم بعد مغادرة الصالون لمواجهة العالم؟ كان مصففو الشعر الذين قابلهم روز يفخرون بالمهارات التقنية التي يمتلكونها، كما كشفوا أيضاً عن مدى صعوبة مثل هذا العمل الذي يبدو بسيطًا ظاهرياً كقص الشعر على سبيل المثال، ولكنهم فخورون أيضًا بقدرتهم على فهم وإدارة الأشخاص وكيفية التحدث إليهم. يعتبر هذا جزءًا أساسيًا من عملهم، والقيام به على أكمل وجه قد يحدث فارقاً كبيرًا في مستوى حياة الأشخاص الذين يخدمونهم.
أيًّا كان نوع الوظيفة، فإنها تملك القدرة على منح رضا للناس.
“من المهم أن استمع لزبوني” ، قال أحد مصففي الشعر. “النقاش هو أهم خطوة عند قص الشعر”. وأضاف مصفف آخر: “لا تعتقد بأنك تعرف ما يريده الزبون، لأنهم قد لا يعرفون ما يريدونه حتى”، وأشار مصفف شعر آخر إلى أن الزبونة ستقول: “أريد قص مقدار شبر واحد”، ثم تشير إليك بشبرين على أصابعها. يقول العملاء عن مصففي شعرهم: “إنها تصغي”، إنها “تحترم ما أريد”، “تدرك ما أعنيه”. يكون مصففو الشعر المحبون لعملهم محبين أيضاً للتعقيد الفني ومساحة الإبداع التي به، ولكن أيضا “أحب جعل الناس سعداء…. يترك الناس مقعدي وهم سعداء بسبب ما فعلته من أجلهم، ولا شك أنه كما تعلم بأنك لن تتمكن من تحقيق هذه الغاية في العديد من الوظائف، وأنك ستؤثر على الأشخاص بهذه الطريقة”. لاحظ مصفف آخر أن: “هذا عمل مختلف تمامًا؛ هناك شيء آخر شديد الرعاية له، فهي تعتبر واحدة من الأماكن القليلة في مجتمعنا التي تسمح لك بلمس الناس فهي حميمية جداً ونحن البشر بحاجة إلى اتصال”. الدرس المستفاد من الحراس، وصانعي السجاد، ومصففي الشعر هو أن أي وظيفة تملك القدرة على منح الرضى للناس حيث يمكن تنظيم الوظائف لتشتمل على التنوع والمهنية وتنمية المهارات والعمل على تزويد الأشخاص الذين يقومون بها بقدر من الاستقلالية، وربما الأهم من ذلك أنه يمكنهم جعلها وظيفة ذات مغزى من خلال ربطها برفاهية الآخرين.
بقلم: باري شوارتز | ترجمة: هدى القطيطية | تدقيق: مريم الغافرية | تدقيق لغوي: أفراح السيابية | المصدر