العلوم الاجتماعيةعلم النفس

هل ثمةَ وحشٌ صغير بداخلك يستأنسُ بأذى الآخرين؟ تبيَّن ذلك

أحيانا، نَعِي آلامَ الآخرين ونُحِسُّ بهم تمامًا كما لو كانت تلك آلامنا نحن.

نحنُ نحجم عن رؤية جراح الآخرين، ونبكي لرؤيتهم يعانون، والأمر سيَّان حتى مع الغرباء منهم. هذا التعاطف إنما هو سلاحٌ اجتماعي ذو حدين؛ عندما ندرك كرب الآخر، ونشعر به، ثمة ما يدفعنا للمساعدة، وبالرغم من غَلَبَةِ التعاطف وأهميته، قد لا تكون تلك طريقتنا الوحيدة للتعاطي مع ألم الغير. وهنا يكمن الوجه الآخر؛ المرآة القاتمة للتعاطف؛ والتي يطلق عليها “السادية”. هذه القدرة على التلذذ بآلام الآخرين ومعاناتهم عوض مساعدتهم، ليست أمرًا نادر الحدوث كما قد تظن.

تُطلَق كلمة “سادية” في الغالب على أي مجرمٍ شنيع يُنكِّل بالآخرين من أجل المتعة. هذه السادية هي نفسها التي تُسْتَعرض في الروايات الشهيرة، أو الأفلام مثل صمت الحملان (1991)، أو مسلسلات التلفاز مثل دِكستر (2006-2013)، وفي التقارير التي تتطرق للمجرمين على أرضِ الواقع مثل القاتل الأمريكي المتسلسل تيد بندي. وفي حال أصبحت المتعة السادية عاملا محفزًا لأخطر الجرائم، والتي تشمل: القتل المتسلسل والجرائم الجنسية؛ ساعتئذٍ يمكننا الجزم بوجود هذه النسخة المتطرفة من السادية، لكن من الخطأ حكرُ السادية على منبعين فقط: الشر أو الانحلال الأخلاقي.

يقِرُّ الأطباء النفسيون اليوم بوجود نسخة مخففة من السادية بداخل كلٍ منا – والتي أطلقوا عليها: “السادية اليومية”- وذلك على الأرجح لأنها منحت أسلافنا مزايا للبقاء.

الناس الذين يتسمون بالسادية اليومية هم مَن يستمتعون بآلام الآخرين الجسدية أو النفسية إبان ممارستهم للحياة اليومية. على سبيل المثال، قد يستمتعون برؤية مشاجرة خارج الحانة، أو أداءٍ سيئٍ لعرض مهم لأحدهم في العمل. ولكن أكثر من ذلك، هم يتلذذون أيضًا بفعل ما من شأنه التسبب بالأذى. مثلًا؛ في تجربة أجراها باحثون أمريكيون وكنديون، كانَ الطلابُ الجامعيون الذين أقرُّوا بوجود دوافع سادية لديهم (باتفاقهم مع عبارات على شاكلة: “أستمتع بإيذاء الآخرين جسديًّا” و”أستمتع بالتسبب بمعاناة الآخرين) أكثر ميلًا للتصرف بقسوة. وعلى وجه التحديد، عندما مُنِحوا فرصة الاختيار بين تحديات أربعة: قتل نقار خشب بمجرشة حبوب بن مُعدة لذلك، أو مساعدة شخص آخر لإبادة الحشرات، أو تنظيف المراحيض، أو إدخال أيديهم في ماء ثالج، اختار الطلاب الذين قالوا إنهم يستمتعون بإيذاء الآخرين الخيارات المتعلقة بالقتل أكثر من غيرهم. (لا تقلقوا يا مُحبي الحشرات؛ لم ينجز أحدٌ هذه المهام في الواقع، ولم يتعرض أي نقار خشب للأذى أثناء التجربة)

لا تبرز سادية الناس اليومية بوجود الحشرات في حيز نظرهم وحسب؛ ففي تجربة أخرى قام بها أولئك الباحثون الكنديون والأميركيون أنفسهم، كان المشتركون الذين اعترفوا بكونهم أكثر سادية أكثر عرضة لتفجير خصومهم في ألعاب الكمبيوتر مع إحداث ضجة طويلة الأمد من الضوضاء البيضاء. وكانوا أيضًا قادرين على العمل لمدة أطول على كتابة رسائل مملة ليحظوا بفرصة أخرى لنسف غُرَمائهم.

يُعَدُّ أولئك الذين حصلوا على أعلى نقاط في الاستبيان الذي يقيس السادية اليومية أكثر عرضة لممارسة الأعمال التخريبية، والاعتداءات الجنسية، والتنمر الالكتروني على الآخرين والتصيُّد عبر الإنترنت خارجَ عتبة المختبر.

تنمُّ مثل هذه النتائج عن عواقبَ للسادية اليومية التي يقترفها الناس على الواقع جراء مشاعرهم الشخصية المتلذذة، مما يزيد من احتمالية اختيارهم التصرف على نحو يُخلِّف الأذى.

ثمة مكان آخر أيضًا قد يظهر فيه الميول السادي، ألا وهو غرف النوم.

في الحقيقة، ليست السادية الجنسية على وجه الخصوص أمرًا نادرًا؛ أيْ الاستجابة لمعاناة الآخر بالاستثارة الجنسية. إذ أشارت دراسة ألمانية إلى أن 21,8% من الرجال تراودهم أفكار جنسية بينما يتسببون بالأذى الجسدي أو النفسي، وفي دراسة أخرى أُجريتْ في كيبيك، وُجِد أنَّ – على اختلاف الجنس – 5,5% من الناس اختبروا سلوكًا جنسيًّا ساديًّا مرة واحدة على الأقل. لكن مع ذلك، من الصعب الجزم بالتشابه بين هذه السلوكيات وبين الأبحاث المتعلقة بالسادية اليومية غير الجنسية. فعلى نحو قطعي، يكون التعبير عن السادية الجنسية اليومية برضى الشريك بكونه جزءًا من العبودية والسيطرة والسادية والمازوخية (التلذذ بالاضطهاد)، وذلك يندرج تحت ثقافة السلوك الجنسي. على خلاف ذلك، فإن السلوكيات التي وُجِدَ بأنها متعلقة بالسادية اليومية غير الجنسية، مثل: العنف والتنمر الإلكتروني، فإن الطرف الآخر فيها لا يتعرض للأذى بإذنه. وهذا ما يُشكِّل فارقا بين هذين النوعين من السادية.

قد تتساءل كيف ترتبط السادية اليومية – غير الجنسية – بالسمات الشخصية القاتمة الأخرى التي تكمن في نفوس عامة الناس؛ يرتبط كل من السايكوباثية (عدم التعاطف وعدم الإحساس بالذنب)، والميكاڤيلية (الميل إلى التلاعب بالآخرين واستنزافهم)، والنرجسية (تعظيم الذات)، بأولئك الذين أحرزوا نقاطًا عالية في اختبار السادية؛ إذ وُجِد أن لكلٍ منهم فرصًا أكبر للتحلي بسمة واحدة من هذه السمات على الأقل، والعكس صحيح. إلا أن السادية ما تزال مختلفة إلى حد ما – لعدد من السلوكيات غير الاجتماعية مثل التصيُّد الإلكتروني – فمعرفة مستوى السادية يسمح لك بالتنبؤ أكثر باحتمالية تصرفهم على نحو سيء، بصرف النظر عن النقاط التي أحرزوها فيما يخص السمات القاتمة الآنف ذكرها. ولهذا السبب، يعتقد بعض الأطباء النفسيين بأن”الثالوث المظلم” المكون من السايكوپاثية، والميكاڤيلية، والنرجسية لا بد أن يصبح “الرباعيَ المظلم ” لسمات الشخصية المضطربة ليشمل السادية اليومية أيضًا.

وعلى غرار  الجوانب الشخصية الأخرى، ليست السادية اليومية ظاهرة ثنائية؛ أي إما أن تكون فيك أو ألا تكون، بل سمة تُوجَدُ بتدرجات متفاوتة بين عامة الناس. فأولئك الذين أحرزوا نقاطًا عالية هم أكثر عرضة للإتيان بسلوكيات مُنَفِّرة على نحو بّيِّنٍ، مثل التنمر على الآخرين وإيذائهم. أما من كانت نقاطهم أقل يميلون للتعبير عن تلذذهم بمعاناة غيرهم بطريقة خفية أكثر؛ على سبيل المثال؛ بالاستمتاع بأفلام العنف وألعابٍ من هذا النوع (من الجدير بالذكر مع ذلك بأن الاستمتاع بمحتوى شبيه قد تحفِّزه عواملُ أخرى مثل الفضول أو التشويق) ولكن هذا لا يعني بأنهم أكثر عرضة لإيذاء الآخرين في الواقع لتفضيلهم هذا النوع من المحتوى فقط.

حتى أولئك ذوو النقاط المتدنية في اختبار السادية، قد يخالجهم شعور بالمتعة ممزوج بتأنيب الضمير أثناء مشاهدة شخص يتعرض للأذى، ولكن سرعان ما تختفي مشاعرهم الإيجابية تلك عندما يدركون جدية الموقف.

وبالأخذ في الحسبان الدراسة التي ضمت عينة يشاهدون مقطعًا لحادث يتعرض له سائق دراجة في سباق، استمتع ذوو النقاط الأقل في اختبار السادية اليومية بالمقطع حينَ أُخبروا بأن إصابة السائق بسيطة (ربما لأنه بَدَا لهم كما لو كان ضربًا من ضروب الدعابة التهريجية)، بينما لم يحدث ذلك عندما أُبلِغوا بأن إصابته خطيرة. أما أصحاب النقاط الأكثر في الاختبار، فقد أظهروا سلوكًا مناقضًا؛ إذ وجدوا متعة أكبر حالما أُخبروا بأن قائد الدراجة قد تعرض لإصابة بالغة.

وبشكل عام، ألمحتْ الدراسات التي أجريتْ في هذا الشأن على نحو صادم بأن القابلية لاختبار درجة ما من المتعة لرؤية معاناة الآخرين هو أمرٌ شائع. في البداية، قد يبدو هذا مُحيِّرًا؛ إذ تعوِّل الكثير من المجتمعات المدنية على التعاطف، وذلك جليٌ لكثرة المواقف اللطيفة التي تحدث كل يوم، والتي تعني بأننا طوَّرنا تدريجيًّا قدرة مؤثرة لأنْ نُحِبَّ الآخرين ونكترث لأمرهم. وعلى نقيض ذلك، لطالما كان ثمة أناس يتلذذون بآلام الآخرين ومعاناتهم على مدى آلاف السنين. مما يفضي إلى إمكانية أن تلعب السادية دورًا اجتماعيًّا مهمًّا مثلما يفعل التعاطف تمامًا.

في الماضي الذي عاشه أسلافنا، أدى إيذاء الآخرين على الأرجح – لاسيما من يشكلون تهديدًا – إلى وفرة الطعام والمنعة واستُخْدِم ذلك لتحذير الأعداء والمنافسين.

إنْ كانت مشاهدة آلام الآخرين مرتبطة بزيادة فرص البقاء بهذه الطريقة، فإن من المنطقي أن تتطور هذه التجربة لتصبح مجلبة للرضا إلى حدٍّ ما.

ما تزال المزايا الباعثة على السادية جلية إلى الآن، وفي أماكن عدَّة، من بينها: السجون والمدارس؛ إذْ يمكن للعدوان والعنف أن يمنحا المرء مكانة اجتماعية. وفي مقر العمل، يمكن لاستمداد المتعة من خسائر الآخرين أن يثير حماسة الفرد للفوز بالترقيات أو لكسب مزيد من المال. وفي أقصى الحالات، مثل عصابات الجرائم، يمكن للمستوى العالي من السادية أن يزيد من فرص بقاء الفرد على قيد الحياة حتى.

وأيًّا كانت الحوافز التي تدفع بالمرء نحو السادية؛ إلا أنها تتسبب بأذى بالغ مرتبط بالتنمر على سبيل المثال، والذي يخلِّف أثرًا بالغًا على صحة الضحايا النفسية لسنوات بعد التعرض له.

وبمعرفة السادية، وفهمها على نحو أفضل، يمكننا التصدي لما يتأتى عنها من أضرار. لكن أولًا، علينا أن نتخلص من فكرة وجودها بنسبة ضئيلة جدًّا بين الناس؛ فإن القابلية للاستمتاع بآلام الآخرين موجودة – إلى حد ما – بداخل العديد منا.


بقلم: لوسي فولكس | ترجمة: آلاء الراشدية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى