الأدب

الرومانسية – عصر العاطفة، الحُب الحزين، الموت وسقوط الأبطال

في رحلة استكشاف النفس، توَصل الرومانسيون لعالم هائل مليء بالروحانية والخيال والأحلام.

“لرؤية العالم برومانسية علينا إدراك السحر والغموض والدهشة، وتنوير الحواس لرؤية العاديِّ استثنائيا، والمألوفِ خارقًا للعادة، والدنيويِّ دينيًّا والمحدودِ لا محدودا.” نوفاليس (فيلسوف وشاعر ألماني).

تسحرني جدًا الحقبة الرومانسية، كل هؤلاء الشباب الذين ماتوا صغارًا، الحب غير المتبادل، الحب تجاه الطبيعة، التركيز على الفردانية والخيال، الصور الجميلة التي تؤطر وجوه النساء بالضفائر والورود الناعمة، الهروب من الواقع والأسى كحالة من حالات العقل، الشعور بالوحدة والاغتراب.

كل حركة فنية؛ موسيقية كانت أم أدبية تأتي رداً على الحركة التي تسبقها، كذلك بالنسبة للرومانسية التي جاءت بقالب مغاير للحركة الكلاسيكية التي تشجع عبادة العقل وتقديسه، والفتور والتحفظ في الأدب والفن آنذاك. أما في الرومانسية فالفنان عبارة عن نابغة موهوب ووحيد، ودائمًا ما يُساء فهمه ويُنظر إلى محتواه بأنه فارغ بلا معنى . تمجد الرومانسية العناصر الجمالية والفنية للأدب عكس الكلاسيكية التي تركز على رسالة الأدب فقط، فقد كان الفنان يتمتع في العصر الرومانسي بحرية التعبير عن نفسه على خلاف النظرة الصارمة التي تتسم بها الكلاسيكية.

خلال هذه الحقبة كان الشباب يشعرون بالعجز تجاه مواجهة نظام المجتمع الصارم؛  لذلك ساد الحزن والأسى جو خيبات الأمل بعد عدم تحقق أهداف الثورة الفرنسية في العدل والمساواة آنذاك. كما أدى رحيل نابليون إلى خيبة أمل أخرى مما جعل المجتمع يصورونه كبطلٍ محَطَّم.

لم ولن يتمكن مبدأ تقديس العقل من شرح عدم المساواة في العالم ، مما آلم هذا الأمر جيلَ تلك الحقبة. وإني أجدُ اقتباسا مناسبا لنوفاليس  يقول فيه: “الشعر يداوي جراح العقل.” فكيف يمكن للعقلانية أن تجيب على الأسئلة الوجودية؟ ما الحلول التي يمكن للعقلانية أن توفرها لخيبة آمال الشعب اتجاه قيَم المجتمع الراسخة والخاطئة؟ لم يستطع الشعراء والفنانون والموسيقيون الذين أسيء فهمهم من قبل المجتمع أن يجدوا التلاؤم والملجأ في الأفكار العقلانية التي كانت شائعة إلى حد كبير فقط قبل قرن من الزمن، لذا كان عليهم أن يجدوا طرقا أخرى لخلاصهم.

 

يعتبر الإحباط الحزن غير القابل للتفسير والأسى عناصر تجلَت في العزلة وبصيرة الفرد اتجاه العالم، هذه العناصر تعتبر منبع النظرة التشاؤمية أو ما يسمى (وهن العالم) والذي هو تعبير عن الحزن والقنوط اللذان يؤديان للخلط بين الحقيقة والوهم، ولا يمكن للحقيقة الملموسة إشباع متطلبات العقل. كما أن وهن العالم جاء نتيجة لعبادة الألم وتقديسه والذي يعرف بالإحساس التشاؤمي بأنه لا يوجد علاج للشر في هذا العالم. سبَّب هذا النوع من التقديس الاكتئابَ، الهروبَ والتنازلَ، كما ظهر في كتاب جاك روسو ( هوليز الجديد) وعمل غوته الشهير ( آلام فارتر) ، وأخذ مصطلح وهن العالم شكله الكامل في أعمال جورج بايرون ودوشا توبريان.

في هذه الفترة، شعر الفنانون بالعجز والإحباط والأسى ، محاصرين بسكينة العزلة إلى أن وجدوا الراحة في موضوعاتٍ أربعة: الحُب والحميمية، الطبيعة، التاريخ والفن الشعبي، التصوف والغموض. وتتجلى مسألة الحب في العمل الشهير للكاتب غوته ( آلام فارتر)، بينما الموضوعات تظهر في أعمال فيكتور هوغو، أما أعمال إدغر آلن بو فقد بحثت في موضوعات الموت والجمال والرومانسية السوداء.

بدأت الحركة الرومانسية الأدبية بمنشورات ويليام ووردزورث وصامويل كولريدج ومنشوره (الأناشيد الغنائية )1798. عُرف هذان الشاعران والشاعر روبرت ساوذي بشعراء البحيرة نسبةً للمنطقة التي عاشوا فيها والتي تُعرف بجبالها الرائعة في شمال غرب إنجلترا. ويرى ويليام وردزورث الشعرَ أنه “عفوية تدفق الأحاسيس القوية” والتي يستجمعها وقت السكون. وقد كانت الطبيعة أكبر مصدر إلهام بالنسبة له ويقدرها بسبب القيم الفنية والجمالية لها، حيث يراها مصدرًا للحياة ومنبعَ الإدراك والمعرفة الذي لا ينضب.

تعتبر الطبيعة مرآة للروح، وعكس شعراء الحقبة الرومانسية مشاعرهم في الطبيعة وانعكست الطبيعة على مشاعرهم، فقد وضع هؤلاء الشعراء حجر الأساس للشعر الرومانسي للشعراء والأجيال التي تلتهم. أود الاعتراف بأنني أُفضَل شعراء الجيل الثاني من هذه الفترة أمثال بايرون، شيلي وكيتس. يتميز بايرون كشخص وفنان بحقيقة أنه عاش حياة أبطال كتاباته الرومانسيين، كما تمثل نبله في مغامراته العديدة في الحب والسفر عبر الأراضي الغربية استعدادًا للتضحية في سبيل الحرية. ويعد بايرون مسؤولًا عن ظهور ابتكارات جديدة في عهد الشعر من خلال خلقه نوعًا جديدًا من الأبطال مثل البطل المخالف للعرف، و البطل البيروني. وبجانب هذا الشاعر هناك شاعران آخران قدَسا الجمال النقي وهما شيلي و كيتس؛ وكلاهما ماتا في ظروف مأساوية بعمر صغير.

النوع الأدبي الذي ظهر في هذه الفترة ذلك الأدب الذي يتناول بطلًا رومانسيا مقداما ومغامرا، ويُكِنُّ حُبا عظيما للطبيعة وكل ما له علاقة بالطبيعة، لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع التحكم بمشاعره، ودائمًا ما يكون ضحية أخطائه في التخطيط ومواقفه المتشائمة تجاه الحياة.

ويعتبر (فارتر) مثالًا على البطل الرومانسي النموذجي، ومثله كارل مور في مسرحية فريدرك شيلر (اللصوص) الذي لم يلائم المجتمع بسبب روحه المتمردة وشخصيته المدمرة ذاتيًا، الكآبة والتصريحات المبالغ بها.

ونوع آخر من الأبطال هو البطل البايروني نسبة للكاتب جورج بايرون الذي خلقه ليكون رجلًا يحتقر كل أحد وكل شيء، وبالرغم من وجود سمات إيجابية فيه كالشجاعة والذكاء إلا أن هذا لا يجعله نبيلًا ولطيفًا أو حتى إنسانيًا، كما أنه شخصية متهكمة وشكاكة وغالبًا ما يكون ملحدًا وماديًا، مما يجعله كثير التناقضات، ومثالًا على ذلك بأنه يريد أن يعيش حياة كاملة إلا أن هذا يجلب له الملل واللامعنى. والبطل البايروني هو شخص مصاب بلعنة ويجلب نهايته بنفسه، وبما أن اللورد بايرون حظى على شعبية كبيرة لدى الكتَّاب الروس فقد كان بوشكين أول من استلهم البطل البايروني منه وخلق بطلًا مشابهًا في عمله (الرجل الزائد) وهو رجل يشعر بتفوقه على محيطه ولكنه يُقْدِمُ على أعمال لا طائل منها، كما أنه شديد الملل مما يجعله كثير السفر والتجوال. ومن الأمثلة النموذجية أيضًا يوجين أونجين وبيتشورين من رواية (ليرمنتوف) وأول رواية في الأدب الروسي ( بطل عصرنا). وهناك اختلاف بين الرجل الزائد والبطل الرومانسي لكن لديهما أوجه شبه مثل الشعور بالاغتراب والوحدة، الذكاء والحساسية وكلاهما لديهما ميول السفر ومقاتلان ضد المعايير الاجتماعية والأخلاقية الراسخة في ذلك الوقت.

بالرغم من أن الشعر هي الطريقة الأشهر في التعبير عن الرومانسية، إلا أن الموسيقى هي الأكثر رومانسية على الإطلاق، وعلَق أرنست هوفمان على الموضوع قائلا : “سحر الموسيقى قوي جدًا لدرجة أنه يكسر كل أشكال الفن الأخرى.” إن الرومانسيون يشبِّهون الموسيقى بتجربة توسِّع عقل الإنسان وتكشف عن مفاهيم مجهولة بالنسبة له، عالمٌ من خيال، عالمٌ مقطوع من الحواس الدنيوية. لم تعتبر الموسيقى الأكثر رومانسية فحسب، وإنما اعتبرت منبع ومولد الفنون الأخرى، وهنا تكمن عظمتها وأهميتها الحقيقية وكما قال نوفاليس: “كل مرض هو مشكلة موسيقية وكل علاج هو حلٌّ موسيقي.”

يعتبر بيتهوفن أيقونة التحول من الكلاسيكية إلى الرومانسية، وفريدريك شوبان، فرانزليزت شومان وشوبرت يعتبرون موسيقيين متمردين فيما يتعلق بمواضيعهم، كما أنهم مفتونون باللون الليلي، الصوفي والغريب، ويتوقون للمطلق الذي استلهموه من تجاربهم الروحية المفتونة بالماضي، كم أنهم مهتمون بالسيرة الذاتية والاستسلام للطبيعة.

الموسيقي المفضل بالنسبة لي هو شوبان فأنا مولع بمقطوعته الحالمة بالرغم من الحزن والأسى الذي تحويه، إلا أنها لا تخلوا من الجمال والغموض، قال أوسكار وايلد معلقًا على موسيقى شوبان: “بعد الاستماع لموسيقى شوبان، أشعر كما لو أنني أبكي على ذنب لم أقترفه أبدًا وأقيم الحداد على مآسٍ لا تخصني، والموسيقى هي من تخلق هذا الشعور، فهي تعيد الماضي الذي تم تجاهله، والدموع المحبوسة التي سببتها أحزانٌ مخبأة لسنوات طويلة.”

نشأ شوبان في وارسو وكان والده فرنسيا ،حيث انتقل شوبان إلى باريس مركز الموسيقى الرومانسية والفنون أجمع، وبمجرد وصوله أدهشه جمهورٌ أرستقراطيٌّ بأسلوبه الموسيقي العجيب. وكوَّن شوبان العديد من الصداقات مع مجموعة من الكتَّاب والفنانين في ذلك الوقت مثل فيكتور هوغو، هاين، يوغين ديلاكرو، أونوريه بلزاك، فرانز ليست. وكان شوبان أنيقًا وفاخرًأ ويحب الملابس العصرية والجميلة كما أنه سافر كثيرًا بسيارته الخاصة، مع ذلك كان عميقًا جدًا فيما يتعلق بالموسيقى، حيث انعكس هذا على أسلوب موسيقاه الراقية والحساسة، “إنه كحلم في فصل ربيع جميل تحت ضوء القمر.” في وصفه لإحدى مقطوعاته. كان شوبان ضئيل الجسد سقيم الصحة وكثير الأسى، توفي عن عمر يناهز التاسعة والثلاثين بسبب السلِّ. وبالرغم من صداقاته العديدة إلا أنه أحب الروائية جورج ساند في علاقة امتدت لعشر سنوات، وقد التقى الاثنان في حفل حين كان شوبان يمر بحالة حزن بسبب فتاة بولندية لم تخلص له وانعكست حالته هذه على معزوفته الحزينة التي قبَّلَتْهُ بعدها جورج ساند، وهنا بدأت علاقتهما الأسطورية.

تميزت الحقبة الرومانسية بتركيزها على الحب والمشاعر، لذلك نجدها مليئة بقصص الحب، إليزابيث باريت براونج وروبرت براونج، كلارا شومان وروبرت شومان، ماري وبيرسي شيلي، اللورد بايرون والسيدة كارولين لامب والقائمة لا تنتهي.

في الحقبة الرومانسية كان الموت شكلا من أشكال الرومانسية حيث كان يعتبر أرض الأحلام والمهرب من قسوة ورمادية الواقع، حينما ننام نحلم وحين نموت نكون في حلم أبدي، فنحن حين نحلم نرى أفكارنا الداخلية والرغبات وعندما نموت نحلم للأبد، لذلك لا يجب أن نخاف الموت. كان الشعراء في الحياة بائسون مغتربون ووحيدون مثقلون بالظلم الاجتماعي وعاجزون عن مواجهة الأعراف الاجتماعية والأخلاقية الراسخة، وكانوا يجدون الراحة الوحيدة في النوم، في الأحلام. بالنسبة لوردزورث، الموت شكل من أشكال الكمال والبقاء المقبول، ويعتبر كيتس الموتَ حلما أبديًّا، وبإمكاننا جعله جميلًا بتكوين الصور التي نرغب. ولا توجد مخاوف في الموت إلا تلك التي نخلقها لأنفسنا، الموت هروب من الواقع وسوء فهم المجتمع، الموت يجعلنا غارقين في الطبيعة لنصبح جزءًا من الكون مرة أخرى، وبالنسبة للفلسفة الروحية الرومانسية كانت تعتبر الحياة صعبة جدًا، إذ أنها تعايشت مع زمن الثورة الصناعية التي سيطرت المادية على قيمها ومبادئها.

جون كيتس في قصيدته

عندما ينام الموت، هل تصبح الحياة محض حلم عابر؟

  وأن سيماء النعيم تصبح خديعةَ وهمٍ

ومع ذلك،  نُصرّ أنَّ أفجعَ الآلامِ هو أن نموت !

كان الشاعر الأول بيرسي شيلي مفتونًا بالموت والأحلام بشكل خاص، كان حساسًا للغاية ويكره الحياة وتفاهاتها والعقد المجتمعية، فقد كرَس نفسه في الجمال والسلام اللذان كان يعتقد وجودهما في الموت والأحلام، كان قريبًا جدًا من الانتحار كما أنه دائمًا ما كان يرغب بخسارة حواسه وكل ما يتعلق بالحياة وما يجعله متصلًا بالمجتمع، دائمًا ما أراد أن يخرج للأبد إلى عالم السحر والجمال اللذان يراهما في الموت، حتى أنه قد كتب قصيدة رثاء أعرب فيها عن رغبته وشوقه الشديد للموت.

أيها العالم، أيتها الحياة، أيها الموت

يا من أقف الآن على عتباتك الأخيرة

مترنحاً حيثما كنت منتصباً من قبل

متى يرجع مجد عنفوانك؟

أبداً، آه ، لن يعود.

أنا مفتون جدًا بمفهوم الموت في الحقبة الرومانسية، هناك شيء ساحر وغريب في موت كل هؤلاء الشعراء والمؤلفين في عمر صغير، ربما الحزن والهدوء هما السبب، أو أنهم قد حفزوا موتهم بأنفسهم، شيلي، بايرون، كيتس وشوبرت كل هؤلاء ماتوا في عمر الشباب موتًا مأساويًا ولم يجنبوا الطبقة الأرستقراطية من نوع الموت هذا، فالدوقتين الروسيتين ألكساندرا وإلينا بافلوفنا توفيتا بطريقة مأساوية. والجدير بالذكر أنه في وقت لاحق توفيت الدوقة ألكساندرا نيكولايفنا عن عمر يناهز التاسعة عشرة، وفي صورتها هذه تنظر للمشاهد بنظرة حزن واستسلام مرتدية ثوبًا أنيقًا من حرير يظهر جمالها وبراءتها، وعنقها الهش الذي يحمل وجهًا جميلًا بضفائر شعرها الداكن، هالة من الحزن كانت تظهر في صورها كظلٍ يتبعها، ماتت وجمالها سيبقى محفوظًا في حلم أبدي.

 

بقلم : بايرنز ميوز | المصدر

فاخرة يحيى

خريجة آداب لغة إنجليزية من جامعة السلطان قابوس، شغوفة بالشِعر والأدب، أُترجم هُنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى