الطب والصحةالعلوم التطبيقية

طاعون الرقص في 1518

مقال لـ نيد بينانت راي

قبل خمسمئة عام، وفي شهر يوليو، سيطر جنون غريب على مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ودفع هذا الجنون مئات المواطنين إلى الرقص دونما سبب، وجعلهم يقفزون لعدة أيام بشكل مستمر حتى فقدان الوعي أو الموت في بعض الحالات ، ما عُرف باسم ” طاعون الرقص ” وهو أحد أكثر الأحداث غرابة في التاريخ.

الصورة من نقش هندريك هونديوس 1642 مأخوذة عن بيتر بروغل 1525، يصور فيها مجموعة ممن يعانون وباء الرقص الذي حدث في ذلك العام في مولينبيك البلجيكية.

على عجل، بدأ العرض أمام سوق الخيل المزدحم في ستراسبورغ الفرنسية، إذ رقص عدد كبير من الناس بأنابيب على إيقاع الطبول والقرون، تلفحهم شمس يوليو وهم يرقصون بساق وأخرى، يتحركون في دوائر بصخب وأصوات عالية. يبدون من بعيد وكأنهم يحتفلون في كرنفالٍ ما، لكن المشهد عن قرب مثير للقلق، أذرعهم تتخاذل، وأجسادهم تتشنج تدريجيًا، ملابسهم الرثة ووجوههم المسلوبة مكتسيةً بالعرق، أعينهم جامدة تنظر بعيدًا، تنزف أقدامهم المتورمة دمًا ويتسرب إلى أحذيتهم الجلدية الطويلة ونعالهم الخشبية، هؤلاء ليسوا في احتفال وإنما مصابون بجنون الرقص.

في منتصف صيف 1518 كان جنون الرقص في أوجِهِ يُعذِّب قاطني ستراسبورغ على مرأى ومسمع من الجميع، وتُعرف هذه العدوى باسم “بلاء الرقص”، وتُعدُّ من أكثر الأوبئة فتكًا، والأفضل توثيقًا من بين عشرة أوبئة أخرى قد تفشَت على طول نهري الراين وموسيل منذ عام 1374.

انتشرت روايات عديدة عن تلك الأحداث الغريبة، نقلت إلينا عبر الوثائق والسجلات والمؤلفات التي جمعت في العقود اللاحقة، يقتبس أحد مؤرخي القرن السابع عشر قصيدة من مخطوطة ليوهان شيلتر فُقِدَت الآن:

“بدأ المئات في ستراسبورغ

بالرقص والقفز، من نساء ورجال

في الأسواق العامة، الأزقة والشوارع

ليلًا ونهارًا، والكثير منهم لم يأكل شيئًا

إلى أن غادرهم المرض

سُمي هذا البلاء رقصة القديس فيتوس”

“في عام 1518 تفشى مرض فظيع بين البشر سمي “رقصة القديس فيتوس”، بدأت نوبة جنون تجتاحهم وجعلتهم يرقصون ليل نهار إلى أن فقدوا الوعي واستسلموا للموت”.

بعد ثماني سنوات من تفشي الوباء، زار الطبيب والكيميائي “باراسيلسوس” المدينة وذُهِلَ بمسببات المرض الغريب. وفقا لمجلة أوبس باراميروم ومختلف السجلات، بدأ كل شيء مع امرأة واحدة، إذ بدأت “فراو تروفيا” الرقص بدون أن تصاحبها الموسيقى في الشارع الضيق المرصوف بالحصى خارج منزلها النصف خشبي في الرابع عشر من يوليو، متجاهلة توسلات زوجها لها بالتوقف، واستمرت لساعات طويلة إلى أن صار لون السماء داكنًا ثم انهارت في موجة إرهاق. في صباح اليوم التالي، واصلت تروفيا الرقص على قدميها المتورمتين لساعات طويلة قبل أن يتمكن منها الجوع والعطش. وبحلول اليوم الثالث، تجمع حولها أناس من شرائح مختلفة بأعداد متنامية من الباعة المتجولين، والحمالين، والمتسولين، والحجاج، والكهنة، والراهبات والذين كانوا يتفرجون بطريقة بشعة. سيطر الجنون على تروفيا لمدة تتراوح بين الأربعة إلى الستة أيام إلى أن تدخلت السلطات الخائفة وأرسلتها بعربة إلى سافيرن على بعد ثلاثين ميلَا من ستراسبورغ، تحديدًا إلى مزار القديس فيتوس، وكانوا يعتقدون بأنه لعنها، وقد تتماثل للشفاء بعد هذه الزيارة، ولكن بعد أيام أصيب قرابة ثلاثين شخصَا -ممن شهدوا رقصها العجيب- بالجنون والهوس وتمكن الموت من بعضهم.

منحوت ألماني يصور هوس الرقص في فناء الكنيسة-القرن السابع عشر- لاحظ الذراع المقطوعة التي يحملها الرجل على يسار الدائرة.

 

كلما زادت أعداد المواطنين المصابين بالمرض الغريب، زاد يأس مجلس البلاط الملكي في تجاوز هذه المعضلة. اعتبر رجال الدين أنه انتقام القديس فيتوس، لكن مستشاري المجلس استمعوا إلى رأي نقابة الأطباء الذين أعلنوا أنه مرض طبيعي ناتج عن زيادة تدفق الدم وفقًا للنظرية الخلطية، لذلك يجب جعل المصابين ينزفون، ويكمن العلاج الذي أوصى به الأطباء في ترك المصابين يرقصون بحرية. وحسب تسجيل من القرن السادس عشر -ألفه المهندس المعماري دانييل سبكلين- فإن المجلس أمر النجارين والدباغين بتحويل قاعاتهم إلى طوابق رقص مؤقتة، و”وضع منصات رقص في سوق الخيول وسوق الحبوب”، بُغية السماح بحركة المصابين وتعجيل شفائهم، كما تم استئجار عشرات الموسيقيين ودُفِع لهم من أجل دقّ الطبول والأبواق وغيرها مع مجموعة من الراقصين الأصحاء، لتشجيع المصابين على الرقص، وبهذا أرادت السلطات توفير الظروف المناسبة لجعل المصابين يشعرون بالإرهاق والإعياء.

جاء هذا الإجراء بنتائج عكسية، إذ اُعتُبِرَت هذه الحالة خارقة للطبيعة عن كونها حالة طبية، واعتقد المتفرجون للحالات المسعورة بأنها إثبات لحجم لعنة القديس فيتوس، ولم يسلم أحد من البلاء؛ فقد دُفِعَ العديد من الناس إلى هذا الجنون. وحسب تأريخ عائلة إيميلين؛ فقد تمكن الوباء من أربعمائة فرد في غضون شهر.

تفاصيل من نسخة على ورق أزرق من رسم بيتر بروغل عام 1564 الذي يصور المصابين بوباء رقص حدث في مولينبيك في ذلك العام

 

التفاصيل من نقش 1642 لـ هندريك هونديوس ، استنادًا إلى رسم بيتر بروغل عام 1564 لطاعون الرقص الذي حدث في مولينبيك في ذلك العام

كما أمر المجلس بجمع أسوأ الحالات في عربات وترحيلها إلى ضريح القديس فيتوس، إذ عولجت فراو تروفيا! كما وضع الكهنةَ المصابين الذين كانوا يضربون بأجسادهم كأسماك على اليابسة تحت نقش خشبي لفيتوس، ووضعوا على أيديهم صلبانًا صغيرة وأحذية حمراء على أقدامهم، وسُكِبَت مياه مقدسة وزيت مبجَل على باطن هذه الأحذية، وصاحبت هذه الطقوس أجواء من البخور والتعويذات اللاتينية لجلب التأثير المطلوب. وسرعان ما تناقل الناس هذا الخبر في ستراسبورغ، ما أدى إلى زيادة الحجاج الذين ذهبوا إلى سافيرن طلبًا لمغفرة فيتوس، وقد تضاءل عدد المجانين بالرقص في غضون أسبوع أو نحو ذلك. استمر وباء الرقص لأكثر من شهر، من منتصف يوليو إلى أواخر أغسطس -أو أوائل سبتمبر- وفي أوج البلاء، كان يصل عدد الموتى إلى خمسة عشر شخصًا يوميًا، والحصيلة النهائية غير معروفة، ولكن إذا كان معدل الوفيات اليومي هذا صحيحًا؛ فقد يكون عدد الموتى من هذا البلاء بالمئات.

إذا لم يكن قديسًا غاضبًا أو دمًا محمومًا؛ فما السبب الحقيقي لوباء الرقص؟ برأي باراسيلسوس؛ فقد كان السبب هو رغبة فارا تروفيا في إحراج زوجها هير تروفيا: “ولجعل الحيلة مثالية وشبيهة جدًا بالمرض، قفزت وغنت بطريقة مقيتة للغاية”، ونظرًا لنجاح هذه الخدعة، بدأ العديد من النساء الرقص بنفس الطريقة لإزعاج أزواجهن، طريقة الرقص تلك كانت داعمة لأفكار “البذاءة والوقاحة والحرية”. وحسب باراسليسوس فقد صنف الرقص لثلاثة أنواع، الرقص الحاد والناجم عن الرغبات الحسية دون خوف أو احترام، والرقص الخيالي والناتج عن الخيال والغضب والشتائم، والرقص الطبيعي والأكثر اعتدالًا الناتج عن أسباب بدنية.

بورتريه باراسيلسوس 1530

يعتقد العديد من المؤرخين المعاصرين أن سبب وباء الرقص في العصور الوسطى هو الأرغوت، وهو عفن يؤثر على العقل ينمو على سيقان نبات الجاودار المبللة، والذي يسبب ارتعاشات وارتجاجات وهلوسة، وتعرف هذه الحالة بـ”حريق القديس أنطوني”، وعلى أية حال؛ فقد تحدث المؤرخ “جون والر” عن فرضية الأرغوت في كتابه الرائع عن وباء الرقص “وقت الرقص، وقتٌ للموت” الصادر عام 2009 فقال: “نعم يمكن للأرغوت أن يسبب التشنجات والهلوسة، لكنه يمنع تدفق الدم للأطراف بسهولة؛ فمن المستحيل استمرار المصاب به الرقص لعدة أيام متتالية”.

يأتي تفسير والر لوباء الرقص من معرفته العميقة للبيئة المادية والثقافية والروحية لستراسبورغ في القرن السادس عشر، ويفتتح كتابه باقتباس من “إتش سي إريك ميدلفورت” تاريخ من الجنون في ألمانيا في القرن السادس عشر 1999:

“إن جنون الماضي ليس بكيانات متحجرة يمكن التقاطها من دون تغير مواقعها تحت مجاهرنا الحديثة؛ فهي ربما تشبه قناديل البحر التي تنهار وتجف عندما تُخرج من المياه”.

ووفقًا لوالر؛ فإن فقراء ستراسبورغ كانوا عرضة للإصابة بأي وباء رقص هستيري بسبب الحوادث السابقة؛ فكل وباء رقص ظهر في أوروبا بين العامين 1374 و1518 قد حدث بالقرب من ستراسبورغ على طول الطرف الغربي من الإمبراطورية الرومانية، ثم كانت هناك ظروف سائدة مثل فساد المحاصيل وظهور مرض الزهري وعدم الاستقرار السياسي، فتجلت معاناة الشعب بالرقص الهستيري، وقد كان الناس سريعي التأثر بشكل غير اعتيادي، كما كانوا مؤمنين بأن غضب فيتوس كافٍ لينشر هذا البلاء.

“أن تُلقَى الرؤوس في البحار العنيفة كانت من أعمق مخاوفهم” [والر] في وصفه للروح.

تفاصيل اللوحة مأخوذة عن نقش بيتر بروغل 1564 موضحًا مأساة وباء الرقص في ذلك العام

 

إحدى الطرق لتوضيح طاعون الرقص هو النظر في حالات الغيبوبة (الغَشية) التي يصل إليها الناس اليوم؛ ففي مختلف الثقافات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في البرازيل، مدغشقر وكينيا، يدخل الناس في الغالب في حالات الغيبوبة أثناء الاحتفالات أو لا إراديًا خلال فترات التوتر الشديد. بمجرد إدراك الحالة، يتضاءل الشعور بالألم والإرهاق، ويصف [والر] انتشار وباء الرقص كمثال على العدوى النفسية، ويشبهه بحالة الوباء الضاحك الذي اجتاح منطقة تنجانيقا (تنزانيا المعاصرة) في سنة ما بعد الاستعمار عام 1963. عندما بدأت فتاتان في مدرسة محلية بالضحك وتبعهما زملاؤهما حتى كان ثلثا التلاميذ يضحكون ويصرخون بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وكان لا بد من إغلاق المدرسة بأكملها، لازم التلاميذ منازلهم؛ ما أدى إلى عدوى عائلاتهم ونتج عن ذلك إصابة قرى بأكملها، وقد سجل الأطباء مئات الحالات في غضون أسبوعٍ واحدٍ فقط.

بطبيعة الحال، وباء الرقص له أشكال مماثلة -ثقافة الهذيان الحديثة- وعلى الرغم من أنها تظهر دون وجود الأقدام الدامية والرجاء لطلب الرحمة -مثل ما حدث في القرن السادس عشر- فإنه ليس بنادرٍ على حاضري الحفلات أن يرقصوا لأيام مع استراحات قليلة للأكل والنوم. ولو وُضِعَ أحد هؤلاء في منصة الرقص في سوق الخيل بستراسبورغ لما شعر بأنه في غير مكانه أبدًا.

 

بقلم: نيد بينانت راي | ترجمة: فاخرة يحيى | تدقيق الترجمة: شيخة الجساسي و زيانة الرقيشي | تدقيق لغوي: محمد الشبراوي | المصدر

فاخرة يحيى

خريجة آداب لغة إنجليزية من جامعة السلطان قابوس، شغوفة بالشِعر والأدب، أُترجم هُنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى