من المحتملِ أنك قد سمعتَ مؤخرًّا الكثيرَ عن الثَّورةِ الصِّناعيةِ الرابعةِ، أو ما يطلِقُ عليها بعضُهم الصناعةُ 4.0؛ الطَّفرةُ التكنولوجية الأخيرةُ التي نشأت من التَّقدمِ الملحوظِ الذي أحرزَه الذَّكاءُ الاصطناعيُّ وتعلُّمُ الآلةِ.
وربَّما قد سمعتَ أيضًا أن بإمكانِها تحقيقُ مدينةٍ تكنولوجية بمثابةِ الحلم…
أو أن نهايةَ العالمِ ستكونُ على أيدي الروبوتات.
لا تخف، فكما هو المُعتاد، يكمنُ الواقعُ في الوسطِ، ونحن هنا لموافاتِك بمُستجدَّاتِ الأمرِ برُمَّتِه.
الذَّكاءُ الاصطناعيُّ وتعلُّمُ الآلةِ هما المكافِئان الحديثان لآلةِ الطِّباعة، وآلةِ النَّسيج الميكانيكية، والمحرِّكِ البُخاري، وشرائحِ الخبز،…إلخ. فكلٌّ منها أحدثَ ثورةً في مجالِه أو مجالاتٍ عِدَّة. وكلُّ تطوُّرٍ صناعي ظهرَ في التاريخِ جاء باختراعاتٍ جديدةٍ ساهمت في تحسينِ جودةِ الحياةِ، وبالطَّبعِ بمشكلاتِها المتزايدة.
ودائمًا ما تعاودُ مشكلةٌ واحدة الظُّهور: أدَّت هذه الاختراعات إلى استبدالِ العمالةِ البشريَّة، عادةً بمجموعاتٍ كبيرة. ونادرًا ما كانوا سعداءَ حيالَ ذلك.
التَّهديد: استبدالُ أعدادٍ هائلةٍ
وأظهرت دراسةٌ لأكسفورد لعامِ 2013 أن 47% من الوظائفِ الأمريكيةِ ستكونُ عرضةَ التَّشغيلِ الآلي خلالَ العشر أو العشرين سنةً القادمة، وهو أمرٌ أبعد ما يكونُ عن دائرةِ الرَّاحة.
إذن، فالسؤالُ ليس ما إذا كان الذَّكاءُ الإصطناعيُّ وتعلُّمُ الآلةِ سيستبدلان العمالةَ البشريَّة؛ فالأمرُ قد حدثَ فعلًا وبشكلٍ مُتسارع. السؤالُ هو كيف سنتعاملُ مع الأمرِ هذه المرة؟ ومن سيكونُ المسؤولُ عن التَّعاملِ مع هذا التحوُّل؟
تاريخيًّا، الحكومةُ بطيئةٌ بعضَ الشَّيءِ
قانونُ المصانعِ لعامِ 1833 كان أولَ لائحةٍ قانونيَّةٍ في المملكةِ المتحدةِ لتحديدِ السنِّ الأدنى للعملِ في المصانعِ لأولِ مرَّة، ليكون 9 سنواتٍ فقط، (إذن فمعظمُ المصانعِ تُعدُّ مصانعَ استغلاليَّةً بمعاييرِ العصرِ الحديث).
إذا كانت فكرةُ أن يُشغِّلَ طفلٌ بعمرِ 9 سنواتٍ آلاتٍ صناعيَّةٍ خطيرةٍ تثيرُ قلقَك، فلا تقلق لأن العمرَ الأدنى قد تمَّ رفعُه إلى 12 بعد 68 سنة.
ماذا عن قضايا أكثرَ حداثة؟ هل تتذكرُ فضيحةَ بيانات فيسبوك-كامبريدج أناليتيكا التي انفجرت في مارس 2018؟ فالتحقيقُ في أمرِ الوصولِ غير المشروعِ لبياناتِ أكثر من 50 مليون مستخدمٍ وعواقبُ انتهاكِ الخُصوصيَّةِ لا يزالان غير محدَّدين حتى بعد مرورِ سنة.
ليس ببطءِ 68 سنة ولكن ما زال الأمرُ متأخِّرًا في ظِلِّ الابتكارِ التكنولوجي.
ولا عجبَ أن تخشى الطبقةُ الوسطى فقدانَ سُبُلِ كسبِ رزقِها، فوظائف مثل النقلِ البريِّ لمسافاتٍ طويلة، والمستودعات والتَّصنيع، وخدمةِ العملاء، والتشخيصِ الطِّبي وغيرها الكثير من المقرَّرِ أن تُستبدلَ بالحواسيبِ على نحوٍ أسرعَ عن ذي قبل. وما زالت الحكومةُ بطيئة وبيروقراطية في إحداثِ تأثيرٍ على المدى القصير.
هل كتبَ هذا المقال إنسانٌ؟ قد يصعبُ الجزمُ بذلك…
لأن شركة OpenAI غير الرِّبحيةِ، على ما يبدو، قد قامتْ بإنتاجِ نظامِ ذكاءٍ إصطناعيٍّ يمكنُه حتى أن يأخذَ وظيفتي كمُسوِّقٍ وكاتبِ إعلانات، وذلك أمرٌ مرعب. كلُّ ما تَطلَّبَه الأمرُ هو التفاتةٌ غير معقولةٍ وسريعة لكتابةِ مقالٍ كاملٍ في نسخةٍ أقرب للكمالِ من اللغةِ الصحافيَّة. يتحدثُ المقالُ عن حيواناتٍ أحاديَّةِ القرنِ خرافية تتحدثُ الإنجليزية بطلاقةٍ في جبالِ الأنديز، يمكنك قراءته هنا.
إلا أنهم يحتفظون به محبوسا للمستقبلِ المتوقَّعِ بسببِ احتماليةِ تعرُّض البرنامجِ الواضح للتطبيقاتِ الضَّارةِ (هل سمعتم بالنَّشرِ التلقائيِّ للأخبارِ الكاذبة؟). فـ “إيلون ماسك” وهو الشريكُ المؤسِّسُ ومُناصرُ فرضِ لوائح تنظيميةٍ أكثر صرامة للذكاءِ الاصطناعيِّ وتعلّم الآلة انفصل عن الشركة في فبراير 2018 لعدم موافقته على ما كانوا يقومون به.
اتخذت OpenAI القرار الصائب إلا أنها ما تزال تخفق في كسب الثقة. وفي الواقع هي تسلط الضوء بشكل أوضح على الحاجة للضوابط الذاتية فليس هنالك عدد كافٍ من الشركات التي أظهرت هذا المستوى من التكتم.
والكتابة ليست التعبير الفني الوحيد المهدد، بل أصبح الفن النمطي هدفًا لتعلم الآلة. إذ شهدت الشبكات العصبية لتحويل الصور ومقاربتها لأسلوب معين نجاحًا وتطورًا هائلًا، فخلال البضع سنوات الماضية وحدها إلى حدٍ كبير وذلك وفقًا لفريق الأبحاث في deepart.io. حيث يمكنهم أخذ أية صورة ودمجها مع قالب بأسلوب معين وعلى الفور تحويل ذلك الأسلوب إلى الصورة.
1 حمّل الصورة تحدد الصورة الأولى المشهد الذي تود لو أنك رسمته.
2 اختر الأسلوب اختر من بين أساليب معروفة مسبقًا أو حمّل صورة أسلوبك الخاص.
3 ارفع تقوم خوادمنا برسم الصورة لك. سيصلك بريد في حين انتهائها.
لا يختلف عن فلاتر سناب تشات ولكنه أكثر تعقيدًا وتفصيلًَا. وهي أشبه بالكابوس فيما يتعلق بحقوق الملكية، فتخيل أن تطالب بحقوق الملكية لأعمالك الفنية ثم يجب عليك أن تعرّف بالتحديد ما الذي يميز أعمالك عن أعمال الآخرين. ويبدو أن الشبكات العصبية تستنتج هذه الدلالات أفضل مما نفعل، كما تؤدي عملًا أقرب للكمال في إنتاج نسخة مطابقة لها.
أوه، والتزييف العميق! كما تعلم، البرامج التي تأخذ صورة لوجه (حقيقي أو لوحة فنية) وتقوم بدمجها مع مقطع فيديو فعلي.
وتواصلت تداعيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة لتطال مجالات عدة كانت حتى فترة قريبة حكرّا على مجال الإبداع البشري، وكان أقل ما يقال عنها أنها غير معقولة.
الوعد: مدينة تعمل بشكل آلي بالكامل
النظرية المبسطة عن المستقبل الطوباوي هي أن الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة سيصبحان فعّالين وذوا اكتفاء ذاتي حتى تصبح كل العمليات الإنتاجية آلية، ويتمكن المجتمع من الازدهار بوظائف قليلة جدًا يشغلها الإنسان. سيقتصر الأمر على الوظائف التي تتطلب مستوى عمليّا أعلى مثل الإبداع والمنطق المجرد أو اللغة الطبيعة (أو هكذا سيكون الأمر على الأقل إذا لم تهدد الوظائف التي تتطلب مستوى عاليًا من الإبداع أيضًا، حسبما رأينا).
سيعمل التشغيل الآلي على رفع مستويات السلامة والصحة في موقع العمل، إذ ستتولى الروبوتات أداء المهمات الخطيرة والروتينية التي تتطلب عمالة كثيرة، كما ستزيد الكفاءة والإنتاجية. إلا أنها ستساهم في تغيير الوضع الاقتصادي الذي نعهده.
في كتاب نهضة الروبوتات الذي نشر في 2015، حدد مارتن فورد التوجهات السبع القاتلة التي بدأت في السبعينات وتستمر إلى يومنا هذا.
- ركود الأجور
- انخفاض حصة العمال من الدخل الوطني في حين ترتفع أرباح الشركات
- انخفاض مشاركة القوى العاملة
- ارتفاع معدلات عدم المساواة
- تدني الدخل وقلة فرص العمل للخريجين الجدد
- الاستقطاب: استبدال الوظائف ذات الأجور المتوسطة بعدد قليل من الوظائف ذات الأجور العالية وعدد كبير من الوظائف ذات الأجور المتدنية ووظائف بدوام جزئي.
وتشير هذه الدلائل على نحو مطّرد إلى اقتصادٍ تهيمن عليه العمليات الآلية، الأمر الذي يعد جيدًا بالنسبة للازدهار وجودة الحياة. إلا أن المشكلة تكمن في أن الأغلبية العظمى من الذين يمكثون بلا عمل لا تتناسب مع النماذج العصرية لكيفية عمل الاقتصاد وتوزيع الثروة والقيمة النقدية.
وبدون عمل يصبح البشر عرضة لأزمة انعدام الهدف. وحتى في ظل اقتصاد بلا وظائف بنسبة 100% نظريًا ينبغي علينا ملء وقتنا بشيء مفيد، وإلا سنقع ضحايا ضجرنا أو ما هو أسوأ؛ اليأس الكلي، كما يتحدث هذا المقال بتفصيل تقشعر له الأبدان عن وباء الانتحار في الغرب الأوسط الأمريكي (والذي كانت أحد أسبابه العديدة فقدان الوظائف).
الواقع: ثمة حقيقة نابعة من كلا الطرفين
هل سيقضي الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة على جميع الوظائف؟
كلا، لكنهما سيقللان ويحدان من دور البشر في وظائف عدة، ونقل الناس من وظائف لأخرى وخلق وظائف عملية جديدة لم نتنبأ بها بعد.
هل سيتاح للناس حياة حرة وسهلة؟
لا، ستظل الحاجة للبشر للتعويض عن نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وعدم اتساقهما. ونحن نظل في حاجة لفعل شيء لشغل وقتنا.
وعلى الأرجح، يكمن الحل في الأخذ بنهج وسط.
مؤخرًا، تراجع إيلون ماسك عن موقفه المنذر بنهاية العالم حيال الذكاء الإصطناعي، وقال في ظهوره المشهور في برنامج The Joe Rogan Experience “إذا لم تستطع التغلب عليهم، انضم إليهم”. إذ يقترح خلق تداخل مباشر بين الذكاء الإصطناعي والدماغ البشري قادر على نقل معلومات بعرض نطاق ترددي عالٍ، وهو في الواقع شيء نابع مباشرة من الخيال العلمي.
وأسس ماسك شركة نييورالينك Neuralink ليحقق ذلك من خلال تقنية ربط الدماغ. ويؤكد “لقد غدونا رجالًا آليين من خلال هواتفنا، ولكن بكفاءة منخفضة”. هي بالتأكيد فكرة مغرية، ولكن كم من الناس سيختارون الخضوع لعملية جراحية للدماغ لتركيب أجهزة إلكترونية مباشرة في جماجمهم؟ هذا سؤال صعب ولكنه جدير بالطرح إذا أمكنه إيجاد حل لمشكلة الكفاءة تلك. قد تكون نيورالينك واحدة من الحلول العديدة.
الحل: ابتكر بنشاط ولكن انشر بحذر
ومع تقدم الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة المتزايد الذي لا يقهر على ما يبدو، بهدف التشغيل الآلي لبعض المهام البشرية التي تزداد تعقيدًا، لا عجب من أن يخشى العديد فقدان سبل عيشهم. وسيشعر به من في مستويات الوظائف جميعها بدءًا من الوظائف القيادية إلى وظائف المبتدئين في كل الأحوال.
خذ هذا الدرس من OpenAI: كن على علم بأن خوارزمية الصندوق الأسود التي ستعرضها في السوق جيدة جدًا في أداء وظيفتها، وكن على مستوى الحذر نفسه الذي ستتعامل به مع قنبلة نشطة، إذ بإمكان هذه التقنية أن تدمر حيوات، ويجب التعامل معها على هذا النحو.
وإذا كانت الشركات عازمة على توظيف الذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة لتحقيق الفوائد من خلال خفض التكاليف، ليكن ذلك. ولكن عدم الالتزام بالقيود في فعل ذلك سيسبب المزيد من المشكلات أكثر من حلها. وفي ظل غياب الرقابة الصارمة ستكون مسؤولية الشركات والأعمال هامة لتسهيل الانتقال إلى الصناعة 4.0 وأبعد.
بقلم: ستيف بيري | ترجمة: مريم الريامي | تدقيق الترجمة: مريم الغافري | تدقيق لغوي: لجين السليمي | المصدر