المدفع | قصة قصيرة لـ غسان كنفاني
لَقَدْ عَرَفَه الجَمِيعُ. وَ كَادُوا أَنْ يَعْهَدُوا وَجْهَهُ كَجُزْءٍ لَا يَنْفَصِلُ عَنِ القَرْيَةِ كُلِّهَا: وَجْهُهُ المُرّبَّعُ يَعْتَرِضُهُ حَاجِبَانِ يَتَّصِلَانِ بِبَعْضِهِمَا البَعْضِ بِأُخْدُودٍ يُعِينُ طَرَفَ أَنْفِهِ العَلَوِيِّ, وَ أَنفُهُ المُفَلْطَحُ تَدُورُ بأسفلِهِ دَائِرَتَانِ وَاسِعَتَانِ فَوْقَ شَارِبٍ رَمَادِيٍّ كَثِيفٍ, يَتَدَلَّى, فَيُخْفِي شَفَتَهُ العُلْيَا. أَمَّا ذَقْنُهُ فَلَقَدْ كَانَتْ عَرِيضَةً حَادَّةً, كَأَنَهَا قُطِعَت لِتَوهَا مِنْ صَدْرِهِ وَمِنْ ثُمَّ, بَرَدَتْ رَقَبَتُهُ الثَّخِينَةُ بَرْدًا..
إِنَّ سَعِيدَ الحَمْضُونِيَّ نَادِرًا مَا يَتَكَلَّمُ عَنْ مَاضِيهِ, إِنَّهُ دَائِمًا يَتَحَدَّثُ عَمَّا سَيَأْتِي, وَمَا يَنْفَكُّ يَعْتَقِدُ أَنْ غَدًا سَيَكُونُ أَحْسَنَ مِنْ اليَوْمِ, وَلَكِنَّ أَهْلَ (السَّلَمَة) يَتَنَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ, بِشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ المُبَالَغَةِ, أَخْبَارَ سَعِيدَ الحَمْضُونِيَّ أَيَّامَ كَانَ يَقُودُ حَرَكَاتٍ ثَوْرِيَّةً فِي 1939, يَقُولُونَ – هُنَاكَ فِي القَرْيَةِ – إِنَّ سَعِيدًا أُطْلِقُ سَرَاحُهُ مِنَ المُعْتَقَلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُدَنْ. وَ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ عَلَيْهِ بَعْدُ, وَ مَهْمَا يَكُنْ, فَهُوَ الآنَ يَمْلَأُ القَرْيَةَ, وَ يَرْبِطُ الصِّبْيَانُ كُلَّ أَحَاسِيسِهِمْ وَتَخَيُّلَاتِهِمُ الَّتِي يَرْسُمُونَهَا لِلرَّجُلِ المُمْتَازِ – وَلِيدِ المُغَامَرَةِ القَاسِيَةِ.
لَقَدْ عَادَ سَعِيدٌ مُؤَخَّرًا مِنْ يَافَا, وَأَحْضَرَ مَعَهُ رَشَّاشًا مِنْ طِرَازِ (الماشينْغَن) كَانَ قَدْ قَضَى قُرَابَةَ أُسْبُوعٍ كَامِلٍ يَجْمَعُ ثَمَنَهُ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ, وَمَعَ أَنَّ سُكَّانَ السَّلَمَة كَانُوا عَلَى يَقِينٍ كَبِيرٍ أَنَّ ثَمَنَ مِدْفَعٍ مِنْ هَذَا الطِّرَازِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ, فَلَقَدْ آثَرُوا أَنْ يَسْكُتُوا, لِأَنَّ وُصُولَ المِدْفَعِ الرَّائِعِ أَهَمُّ بِكَثِيرٍ جِدًّا مِنْ طَرِيقَةِ وُصُولِهِ, فَالقَرْيَةُ فِي أَشَدِّ الحَاجَةِ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ, فَكَيْفَ إِذَا حَصَلْتَ عَلَى سِلَاحٍ مِنْ نَوْعٍ جَيِّدٍ؟
لَقَدْ عَرَفَ سَعِيدُ الحَمْضُونِيُّ مَاذَا يَشْتَرِي! إِنَّ هَذَا المِدْفَعَ, مِدْفَعُ (الماشينْغَن) كَفِيلٌ بِرَدِّ أَيِّ هُجُومٍ يَهُودِيٍّ مَسْعُورٍ, إِنَّهُ نَوْعٌ رَاقٍ مِنْ السِّلَاحِ, وَالقَرْيَةُ فِي أَشَدِّ الحَاجَةِ إِلَيْهِ. فَلِمَاذَا يُفَكِّرُونَ فِي طَرِيقَةِ وُصُولِ المِدْفَعِ؟. وَلَكِنَّ سُكُوتَ رِجَّالَ السَّلَمَةِ, لَا يَعْنِي سُكُوتَ نِسَائِهَا, لَقَدْ بَقِيتْ المُشْكِلَةُ بِالنِّسْبَةِ لِهُنَّ تَلُحُّ إِلْحَاحًا قَاسِيًا, وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ مَنْ يَدُلُّهُنَّ عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ, اِسْتَطَعْنَ أَنْ يُقْنِعْنَ أَنْفُسَهُنَّ, أَنَّ سَعِيدَ الحَمْضَونِيَّ كَانَ قَدْ سُلِّمَ فِي ثَوْرَةِ 1936 مِدْفَعًا مِنْ هَذَا الطِّرَازِ أَبْلَى مِنْ خَلْفِهِ بَلَاءًا حَسَنًا, ثُمَّ خَبَّأَهُ فِي الجِبَالِ إِلَى أَن آنَ أَوَانُ اِسْتِعْمَالِهِ مِنْ جَدِيدٍ. وَلَكِنَّ التَّسَاؤُلَ بَقِيَ مُتَضَمَّنًا فِي أَعْمَقِ أَعْمَاقِ السَّلَمَةِ, لَمْ يَكُنْ مِنْ اليسيرِ أَنْ يَجمَعَ الإِنْسَانُ ثَمَنَ مِدْفَعٍ مِنْ طِرَازِ الماشينْغَن.
إِذَنْ فَمِنْ أَيْنَ أَتَى سَعِيدُ الحمضوني بِهَذَا المِدْفَعِ؟ نَعَمْ
مِنْ أَيْنَ؟
المُهِمُّ. أَنَّ هَذَا المِدْفَعَ الأَسْوَدَ صَارَ قُوَّةً هَائِلَةً تَكْمُنُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ السلمة, وَهُوَ يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ لِهُمْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً, أَشْيَاءَ كَثِيرَةً يَعْرِفُونَهَا, وَأَشْيَاءَ أَكْثَرَ لَا يَعْرِفُونَهَا. وَلَكِنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِهَا, هَكَذَا, فِي إِبْهَامٍ مُطَمْئِنٍ. إِنَّ كُلَّ كَهْلٍ وَكُلَّ شَابٍّ فِي السلمة, صَارَ يَرْبِطُ حَيَاتَهُ رَبْطًا وَثِيقًا بِوُجُودِ هَذَا المِدْفَعِ, وَصَارَ مِنْ صَوْتِهِ المُتَتَابِعِ الثَّقِيلِ, أَثْنَاءَ تَجْرِبَتِهِ فِي كُلِّ أُمْسِيَّتَيْنِ, نَوْعًا مِنْ الشُّعُورِ بِالحِمَايَةِ
وَكَمَا يَرْتَبِطُ الشَّيْءُ بِالآَخِرِ, إِذَا تَلَازَمَا, رَبَطَ النَّاسُ صُورَةَ المِدْفَعِ بِوَجْهِ سَعِيدٍ الحمضونيِّ المُرَبَّعِ, لَمْ تَعُدْ تَجِدُ مَنْ يَفْصِلُ هَذَا عَنْ ذَاكَ فِي حَدِيثِ الدِّفَاعِ عَنْ السلمة, إِنَّ سَعِيدَ الحمضوني أَصْبَحَ الآنَ ضَرُورَةً مُكَمِّلَةً. بَلْ أَسَاسِيَّةً، لِلمِدْفَعِ, وَعِنْدَمَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ عَنْ سَعِيدٍ, كَانُوا يَشْعُرُونَ أَنَّهُ أَدَاةٌ مِنْ أَدَوَاتِ المِدْفَعِ المُعَقَّدَةِ. شَيْءٌ كَحَبْلِ الرَّصَاصِ, كَقَائِمَتَي المِدْفَعِ. كَالمَاسُورَةِ: كُلٌّ مُتَمَاسِكٌ لَا تَنْفَصِلُ أَطْرَافُهُ عَنْ بَعْضِهَا البَعْضِ. بَلْ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ, لَقَدْ صَارَ يَرْبِطُ سَعِيدٌ الحمضوني حَيَّاتَهُ نَفْسَهَا رَبْطًا شَدِيدًا بِوُجُودِ المِدْفَعِ. كَانَ المِدْفَعُ يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ لَهُ شُعُورًا هَادِئًا بِالطُّمَأْنِينَةِ, شُعُورًا يُوْحِي بالمَنَعَةِ: فَهُوَ دَائِمُ التَّفْكِيرِ بِالمِدْفَعِ, دَائِمُ الاِعْتِنَاءِ بِهِ, تَكَادُ لَا تَرَاهُ إِلَّا وَهُوَ يُدَرِّبُ شَبَابَ القَرْيَةِ عَلَى اِسْتِعْمَالِهِ, وَيَدُلُّهُمْ فِي نِهَايَةِ التَّدْرِيبِ عَلَى المَكَانِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ خِرْقَةً لِمَسْحِ المِدْفَعِ, هَذَا المَكَانُ الَّذِي سَيَصيِرُ – فِيمَا بَعْدُ – مُعْتَادًا.
وَمَعَ مُرُورِ الأَيَّامِ بَدَأَ سَعِيدُ الحمضوني يَتَغَيَّرُ. لَقَدْ تَبَدَّلَ لَونَهُ عَنْ ذِي قَبْلُ. وَبدَا كَأَنَّهُ يَضْمُرُ شَيْئًا فَشَيْئًا, وَأَحَسّ شَبَابُ السلمة أَنَّ سَعِيدَ الحمضونيَّ صَارَ يَبْدُو أَكْبَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ, وَأَنَّهُ صَارَ يَفْقِدُ هَذِهِ الحَرَكَةَ الحَيَّةَ فِي وَجْهِهِ وَفِي صَوْتِهِ. إِنَّهُ صَامِتٌ الآنَ, صَامَتٌ إِلَى حَدٍّ يُخَيَّلُ لِلإِنْسَانِ مَعَهُ أَنَّهُ نَسِيَ كَيْفَ كَانَ يَتَكَلَّمُ النَّاسُ, وَصَارَ شَيْئًا مَأْلُوفًا أَنْ يَجِدَهُ النَّاسُ مُنْطَلِقًا إِلَى جَنُوبِ السلمةِ, حَيْثُ رَكَزَ المِدْفَعَ, لِيَجْلِسَ وَحِيدًا بِقُرْبِهِ إِلَى العَشِيَّةِ.
هَذَا الرَّجُلُ الجَبَّارُ. الهَادِئُ. الثَّائِرُ. هَلْ كَانَ يَعْتَقِدُ إِنْسَانٌ أَنَّهُ سَيَرْتَجِفُ كَذَّرَةٍ مِنْ القُطْنِ المَنْدُوفِ عَلَى قَوْسِ المُنَجِّدِ؟ لَقَدْ فَتَحُوا عَلَيْهِ بَابَ دَارِهِ وَالصَّبَاحُ يُوشِكُ أَنْ يَنْبَلِجَ, وتضاخَمَتْ أَمَامَهُ كُتْلَةٌ سَوْدَاءُ, وَضَرَبَتِ الأَرْضَ وَبَرَزَ مِنْهَا صَوْتُ أَحَدِ رِجَالَهِ, يَدُورُ كَالدَّوَامَةِ, لِيَبْتَلِعَ كُلَّ إِحْسَاسٍ بِالوُجُودِ:. – المِدْفَعُ. لَقَدْ أَصَابَهُ العَطَبُ. إِنَّ مَاسُورَتَهُ تَتَحَرَّكُ بِغَيْرِ مَا تَوْجِيهٍ. اليَهُودُ يَتَقَدَّمُونَ.
وَأَحَسَّ سَعِيدُ الحمضونيُّ بِقُوَّةٍ جَبَّارَةٍ تَقْتَلِعُ مِنْ جَوْفِهِ شَيْئًا يَعُزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ مِنْهُ, شَيْئًا كَقَلْبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُتَابِعَ وُجُودَهُ إِلَّا مَعَهُ. كَانَ يَشْعُرُ بِكُلِّ هَذَا وَهُوَ مُنْطَلِقٌ عَبْرَ الحُقُولِ البَاهِتَةِ النَّائِمَةِ فِي آخَرِ اللَّيْلِ. وُوصَلَ إِلَى حَيْثُ كَانَ الرَّشَّاشُ يتكئ كَالطِّفْلِ المَيِّتِ عَلَى الأَغْصَانِ اليَابِسَةِ, كُلُّ شَيْءٍ سَاكِنٌ, إِلَّا طَلْقَاتُ البَنَادِقِ الهَزِيلَةِ, تُحَاوِلُ عَبَثًا الوُقُوفَ فِي وَجْهِ الهُجُومِ. إِمَّا المِدْفَعُ. إِمَّا جَهَنَّمُ.
وَهَزَّ سَعِيدُ الحمضوني رَأْسَهُ وَكَأَنَّهُ يُوَاسِي نَفْسَهُ بِمُصَابِ اِبْنِهِ, ثُمَّ فكَّرَ: أَنْ لَا بُدَّ مِنْ إِجْرَاءٍ. لاَ بُدَّ. شَيْءٌ قَوِيٌّ كالكّلَّابَةِ يَجِبُ أَنْ يُمْسِكَ الفُوهَةَ الهَارِبَةَ إِلَى بَطْنِ المِدْفَعِ. شَيْءٌ قَوِيٌّ.
– اِسْمَعْ. سَأَشُدُّ المَاسُورَةَ إِلَى بَطْنِ المِدْفَعِ بِكَفِّي. وَحَاوَلَ أَنْ تُطْلِقَ. لَا يُوجَدُ أَيَّةُ دَقِيقَةٍ لِتَضِيعَ فِي كَلَامٍ. دَعْنَا نُجَرِّبُ,.
– لَكِنْ.
– أَطْلِقَ.
– سَيرَانَا اليَهُودُ وَأَنْتَ فَوْقَ الحُفْرَةِ.
– أَطْلِقَ.
– سَتَحْرُقُ كَفَّيْكَ بِلَهَبِ الرَّصَاصِ.
– أَطْلِقَ. أَطْلَقَ!
وَبَدَأَ المِدْفَعُ يُهْدِرُ بِصَوْتِهِ المُتَتَابِعِ الثَّقِيلِ, وَمَعَ صَوْتِهِ المَحْبُوبِ, شَعَرَ سَعِيدُ الحمضونيُّ بِنَفْسِيَّتِهِ الَّتِي تَغَذَّتْ طَوِيلًا بِالثَّوْرَةِ وَالدَّمِ وَالقِتَّالِ فِي الجِبَالِ, شَعَرَ بِأَنَّهَا النِّهَايَةُ. نِهَايَةٌ تَاقَ إِلَيْهَا طَوِيلًا وَهَا هِيَ ذِي تَتَقَدَّمُ إِلَيْهُ بِتَؤُدَةٍ, كَمْ هُوَ بَشِعٌ المَوْتُ. وَكَمْ هُوَ جَمِيلٌ أَنْ يَخْتَارَ الإِنْسَانُ القَدْرَ الَّذِي يُرِيدُ. وَسُمِعَ صَوْتُهُ مِنْ خِلَالِ دِقَّاتِ الرَّصَاصِ:
– اسْمَع أُرِيدُ أَنْ أُوصيكَ وَصِيَّةً هَامَّةً.
– وَعَادَ يُصِيخُ إِلَى المِدْفَعِ وَاسْتَخْلصَ مِنْ صَوْتِ الرَّصَاصِ ثِقَةً جَدِيدَةً لِيُتَابِعَ وَهُوَ يُحَاوِلُ أَنْ يَمْضَغَ أَلَمَهُ:. – قُرْبَ قَرْيَةِ (أَبُو كَبِيرٍ) أَبْعَدَ مِنْهَا قَلِيلًا, يُوجَدُ مُسْتَشْفىً لِلسُّلِّ. عَرَفْتَهُ؟ حَسَنًا! لي هُنَاكَ مَبْلَغٌ جَيِّدٌ مِنْ المَالِ, قَالُوا لِي. أَنْ أَرْجِعَ لِأَقْبِضَهُ بَعْدَ أَنْ يَفْحَصُوا الدَّمَ. أَنَا مُتَأَكِّدٌ أَنَّهُ. دَمٌ جَيِّدٌ. فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَفْحَصُوا الدَّمَ كَأنَ دَمَ الإِنْسَانِ يَتَغَيَّرُ فِي خِلَالِ أُسْبُوعٍ وَنِصْفٍ.. اسمع.. إِنَّ ثَمَّنَ المِدْفَعِ لَمْ يُسَدَّدْ كُلُّهُ. سَتَجِدُ اِسْمَ التَّاجِرِ فِي دَارِي. هُوَ مِنْ يَافَا. لَقَدْ دَفَعَتُ قِسْمًا كَبِيرًا مِنْ ثَمَنِهِ مِنْ تَبَرُّعَاتِكُمْ. لَقَدْ أَوْشَكَ ثَمَنُهُ أَنَّ يَتِمَّ. هَلْ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الدَّمَ بِمَبْلَغٍ كَبِيرٍ؟ لَوْ عِشْتُ شَهْرَيْنِ فَقَطْ؟ شَهْرَيْنِ آخِرَيْنِ لَاِسْتَطَعْتُ أَنْ أُسَدِّدَ كُلَّ ثَمَنِهِ. إِنَّنِي أُعْطِيهِمْ دَمًا جَيِّدًا. ثَمَنُهُ جَيِّدٌ. خُذْ حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَاِذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ المُسْتَشْفَى.
أَلَا تُرِيدُ أَنْ يَبْقَى المِدْفَعُ عِنْدَكُمْ؟ إِنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا. وَلَدَاي. يَعْرِفَانِ كَيْفَ يَذْهَبَانِ إِلَى هُنَاكَ. لَقَدْ كَانَا يَذْهَبَانِ مَعَي فِي كُلِّ مَرَّةٍ. إِنَّ دِمَاءَنَا جَمِيعًا جَيِّدَةٌ. جَيِّدَةٌ جِدًّا. القَضِيَّةُ قَضِيَّةُ الحَلِيبِ الَّذِي رَضَعْنَاهُ.
قَضِيَّةُ. أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ لَكَ شَيْئًا آخَرَ. إِذَا تَرَاجَعَ اليَهُودُ هَذِهِ المَرَّةَ. تَكَونُ آخِرَ مَرَّةٍ يَهْجُمُونَ بِهَا مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ. سَيَخَافُونَ. فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَنْقِلُوا المِدْفَعَ إِلَى الشَّمَالِ. لِأَنَّ الهُجُومَ التَّالِيَ سَيَكُونُ مِنْ هُنَاكَ.
وَاِشْتَدَّ شُعُورُهُ بِالنَّارِ تَلْسَعُ كَفَّيْهُ بِقَسْوَةٍ. وَأَحِسَّ إِحْسَاسًا مُلِحًّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي صِحَّتِهِ العَادِيَةِ لَاِسْتَطَاعَ أَنْ يُقَاوِمَ أَحْسَنَ مِنْ الآنِ, وَرَاوَدَهُ شُعُورٌ قَاتِمٌ بِالنَّدَمِ عَلَى أَنَّهُ سَلْكَ فِي شِرَاءِ المِدْفَعِ ذَلِكَ السَّبِيلَ, وَلَكِنَّهُ أَحَسَّ إِحْسَاسًا دَافِقًا أَنَّ المِدْفَعَ طَرَفٌ آخَرُ مِنْ المَوْضُوعِ, طَرَفٌ هَامٌّ. أَنَّ وُجُودَهُ يُحَافِظُ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ هُوَ, وَبَعْدَ أَنْ يَمُوتَ.
فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ, وَحَاوَلَ جَاهِدًا أَنْ يُحَرِّرَ نَفْسَهُ مِنْ سِجْنِ ذَاتِهِ كَيْ يَنْسَى أَلَمَهُ. لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ. فَأَسْقَطَ رُكْبَتَهُ عَلَى الأَرْضِ فِي ثِقْلٍ.
وَعَلَى صَوْتِ الطَّلْقَاتِ المُتَقَطِّعَةِ بِاِنْتِظَامٍ وَعُنْفٍ. أَحَسَّ سَعِيدُ الحمضونيُّ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. كَأَنَهَا مَلَايِينُ الإِبَرِ تَدْخُلُ فِي شَرَايِينِهِ فَتَسْلُبَهُ مَا تَبْقَّى مِنْ دَمِهِ, ثُمَّ شَعَرَ بِأَطْرَافِهِ جَمِيعِهَا تَنْكَمِشُ كَأَنَهَا وَرَقَةٌ جَافَّةٌ فِي نِهَايَةِ الصَّيْفِ. وَبِجُهْدٍ شَرِسٍ حَاوَلَ أَنْ يَرَفَعَ رَأْسَهُ لِيَشُمَّ الحَيَاةَ, إِلَّا أَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ فَجْأَةً فِي تَنُّورٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي يَكَثُرُ فِي السلمة، وَالَّذِي عَاشَ إِلَى جِوَارِهِ فَتَرَاتٍ طَوِيلَةً مَنْ صِبَاهُ, وَجَدَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ مَعَ الأَرْغِفَةِ السَّاخِنَةِ تُحَمَّرُ تَحْتَ أَلْسِنَةِ اللَّهَبِ، وَرَأَى بِعَيْنَيْهِ فقاقيعَ العَجِينِ المُلْتَهِبَةِ, تَطِيرُ عَنْ رَغِيفِ المَرْقُوقِ وَتَلْتَصِقُ عَلَى شَفَتَيْهِ, وَشَعَرَ بَيْدٍ قَاسِيَةٍ تَشُدُّ رَأْسَهُ إِلَى أَدْنَى. إِلَى أَدْنَى. إِلَى أَدْنَى. فَيَسْمَعُ لِفَقَرَاتِ رَقَبَتِهِ صَوْتًا مُنْتَظِمًا ثَقِيلًا وَهِيَ تَتَكَسَّرُ تَحْتَ ثِقَلِ رَأْسِهِ. وَأَحِسَّ أَنَّهُ فِعْلاً لَا يُرِيدُ أَنْ يَمُوتَ, وَأَعْطَتْهُ الفِكْرَةُ دَفْقَةٌ أُخْرَى مِنْ الحَيَاةِ. فَأَكْتَشَفَ أَنْ صَوتَ تَكَسُّرِ فَقَرَاتِ رَقَبَتِهِ هُوَ صَوتُ الرَّصَاصِ الَّذِي يَنْطَلِقُ مِنْ المِدْفَعِ الرَّشَّاشِ, وَشَعَرَ بِمُوَاسَاةٍ مِنْ نَوْعٍ غَرِيبٍ, مُوَاسَاةٍ تُشْبَهُ تِلْكَ الَّتِي يَرَاهَا الوَالِدُ فِي وَلَدٍ عَاشَ بَعْدَ مَصْرَعِ أَخِيهِ, فَابْتَسَمَ بِاِطْمِئْنَانٍ, وَخَرَجَ مِن (التَّنُّورِ), لَكِنَّهُ شَعَرَ أَنَّهُ لَمْ يَلْمُسْ الأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ.
وَشَيَّعَتْهُ القَرْيَةُ كُلُّهَا إِلَى مَقَرِّهِ الأَخِيرِ. أَوْ الأَوَّلِ. سِيَانِّ.