العلوم الاجتماعيةعلم النفس

البقاء مستيقظاً: الطريقة المفاجئة التي أثبتت فعاليتها لمعالجة الاكتئاب

قد يكون استخدام طريقة الحرمان من النوم كعلاج للاكتئاب الحاد أمرًا غير متوقع، ولكنها الحل الوحيد الفعال مع بعض الأشخاص، كما أشارت ليندا غيدز.

كانت العلامة الأولى التي أشارت إلى حدوث أمرٍ ما هي يدا أنجلينا؛ فحينما تتحدث مع الممرضة بالإيطالية، كانت قد بدأت تومئ وتلكز وتشكِّل وتُدير أصابعها في الهواء! وبعد دقائق، تزايدت حيوية أنجلينا، لاحظتُ حينها نغمةً مميزة في صوتها، كنتُ متأكدةً من عدم وجودها مسبقاً، والخطوط في جبهتها بدت ناعمة، كما أن شفتها المزمومة والمشدودة والتجاعيد البادية تحت عينيها أخبرتني الكثير عن حالتها العقلية.

تعود أنجلينا للحياة، عندما يبدأ جسدي أنا بالانطفاء، إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ونحن في المطبخ المضاء في جناح الطب النفسي بميلانو نتناول السباغيتي. أشعر بألم مزعج خلف عينَيّ، وكنتُ قد بدأت أفقد التركيز، ولكن أنجلينا لن تذهب للنوم قبل 17 ساعةٍ على الأقل؛ لذلك هيأتُ نفسي لليلةٍ طويلة. عندما كنتُ أشكُ في إصرارها على السهر، كانت أنجلينا تُزيل نظارتها، وتنظر إليَّ مباشرةً، تستخدم إصبعي الإبهام والسبابة لتشد الجلد الرمادي المترهل حول عينيها وتقول “Occhi aperti”  “عيون مفتوحة.”

هذه الليلة الثانية التي تُحرم فيها أنجلينا من النوم بشكلٍ متعمد، وبالنسبة لإنسانة تعاني من متلازمة ثنائي القطب، أمضت السنتين الماضيتين تعاني من اكتئابٍ حادٍ ومرهق، قد يبدو أن هذا هو آخر شيء تحتاجه، ولكن أنجلينا -والأطباء الذين يعالجونها- يأملون بأن يكون في هذا خلاصها. على مدار عقدين من الزمن، ظل فرانسيسكو بنديتي- الذي يترأس وحدة الطب العقلي والنفسي في مستشفى سان رافاييل في ميلانو- يبحث في ما يُسمى بعلاج اليقظة ودمجه مع  التعرض للضوء الساطع والليثيوم، كطرقٍ لعلاج الاكتئاب حيث فشلت العقاقير الطبية في ذلك. تأسيسًا على ذلك، بدأ بعض الأطباء النفسيين في أمريكا وبريطانيا والدول الأوروبية الأخرى ملاحظة هذه الطريقة من خلال إدخال تغييرات عليها في عياداتهم. يبدو أن هذه “العلاجات الزمنية” (علاج سلوكي يتمثل في تأخير وقت النوم) تعمل من خلال إبطاء الساعة البيولوجية، وعندها فإنهم يسلطون الضوء كذلك على علم أمراض الاكتئاب، وعلى وظيفة النوم بشكل عام.

يقول بنديتي: “إن الحرمان من النوم له تأثير معاكس على الأشخاص الأصحاء، مقارنةً بالأشخاص الذين يُعانون من الاكتئاب”. إذا كنت تتمتع بصحة جيدة ولم تنم؛ فستشعر بمزاجٍ سيئ، ولكن إذا كنت ممن يعانون من الاكتئاب؛ فإن عدم النوم سيساعدك على تحسين مزاجك وقواك الإدراكية بشكل سريع. يضيف بنديتي بأن هنالك عيبًا خفيًا؛ فعندما تذهب للنوم وتعوض ساعات النوم الفائتة؛ فإن فرصة تعرضك لانتكاسة ترتفع إلى نسبة 95%.

نُشر تقرير عن أثر الحرمان من النوم على مرضى الاكتئاب لأول مرة في ألمانيا في سنة 1959 ، وقد شغل هذا الموضوع خيال بوركارد فلوج، أحد الباحثين الواعدين من توبنغن بألمانيا، والذي اختبر أثره في أطروحته للدكتوراه وفي دراساته اللاحقة في فترة السبعينات، وأكد أن حرمان مرضى الاكتئاب من النوم بطريقة منهجية، و قضاءهم ليلة واحدة مستيقظين قد يُبعدهم عن الاكتئاب.

أصبح بنديتي مهتمًا بهذه الفكرة كطبيب نفسي واعد منذ بداية التسعينات، وبعد سنوات قليلة ظهر عَقار بروزاك محققًا ثورةً في علاج الاكتئاب. ولكن لم يتم اختبار هذا النوع من العقاقير على مرضى متلازمة ثنائي القطب إلا ما ندر. تعلّم بنديتي من تجربة بيتر أن مضادات الاكتئاب غير فعَّالة بشكل كبير على مرضى متلازمة ثنائي القطب على أية حال. كان مرضاه في حاجة ماسة لعلاج بديل، وكان المشرف عليه، إنريكو سميرالدي، يحمل فكرةً في جعبته. بعد قراءته لبعض البحوث السابقة المتعلقة بالعلاج باليقظة، جرَّب نظرياتها على مرضاه، وحصل على نتائج إيجابية. يقول بنديتي: “لقد علمنا بأنها نجحت،” ثم يضيف “الأشخاص الذين لديهم تاريخ مرضي فظيع كانوا يتحسنون مباشرةً، كانت مهمتي إيجاد طريقة لجعلهم يبقون في تحسن”.

اتجه بنديتي وزملاؤه إلى المصادر العلمية للحصول على بعض الأفكار. اقترحت مجموعةٌ من الدراسات الأمريكية أن الليثيوم قد يُطيل من تأثير الحرمان من النوم، لذا جربوا الليثيوم، وتوصلوا إلى أن 65% من المرضى الذين تناولوا جرعة من الليثيوم أظهروا استجابةً دائمة للحرمان من النوم عند تقييمهم بعد ثلاثة أشهر، مقارنةً بنسبة 10% من المرضى الذين لم يتم إعطاؤهم هذا العقار.

في حين أن قيلولة قصيرة قد تُضعف من فعالية العلاج، بدأوا بالبحث عن طرق جديدة لإبقاء المرضى مستيقظين خلال الليل، وقد استلهموا الفكرة من الطرق المستخدمة في الطيران، إذ يُسلَّطُ ضوءٌ ساطع على الطيّارين لإبقائهم يقظين، وقد كان له أثرٌ كبير على الحرمان من النوم بنفس الحجم الذي حققه الليثيوم.

قال بنديتي: “لقد قررنا إعطاءهم الحزمة كاملةً، وكان التأثير رائعًا”. في نهاية التسعينات كانوا يعالجون المرضى بشكل روتيني باستخدام العلاج الزمني الثلاثي (triple chronotherapy) الحرمان من النوم، والليثيوم والضوء. الحرمان من النوم يمكن تطبيقه ليلة بعد ليلة في الأسبوع، والتعرض للضوء الساطع يمكن تطبيقه لمدة 30 دقيقة كل صباح، ويمكن أن يستمر لأسبوعين آخرين، وما زال الأطباء يستخدمون هذا البروتوكول إلى يومنا هذا. صرّح بنديتي: “يمكننا النظر لهذه الطريقة ليس بأنها حرمان الناس من النوم، ولكن كتعديل أو توسيع دورة النوم والاستيقاظ من 24 إلى 48 ساعة. يذهب المرضى للنوم كل ليلتين، ويستطيعون النوم بقدر ما يشاؤون”.

أُدخل العلاج الزمني الثلاثي لمستشفى سان رفاييل لأول مرة في سنة 1996، ومنذ ذلك الحين، جرَّبه الأطباء على ما يُقارب ألف مريض يُعانون من اكتئاب ثنائي القطب، لم يستجيبوا للعقاقير المضادة للاكتئاب. تتحدث النتائج عن نفسها: وفقًا للمعلومات الحالية، 70% من المرضى الذين يعانون من اكتئاب ثنائي القطب ولديهم مُقاومة ضد عقاقير الاكتئاب استجابوا للعلاج الزمني الثلاثي خلال الأسبوع الأول، و55% منهم كان لديهم تطور مستمر في حالة الاكتئاب بعد مرور شهر واحد.

إذ كانت مضادات الاكتئاب – في حال عملها – تتطلب شهرًا كاملًا ليظهر مفعولها، لكنها تزيد من احتمالية الانتحار في الوقت نفسه، على عكس العلاج الزمني الذي يُنتج عادةً انخفاضًا فوريًا ومستمرًا للأفكار الانتحارية، حتى بعد الحرمان من النوم لليلة واحدة فقط.


شخَّص الأطباء حالة أنجلينا بمتلازمة ثنائي القطب لأول مرة منذ 30 عامًا، يومها كانت في أواخر الثلاثينيات. تلا التشخيص فترة من التوتر الحاد، إذ كان زوجها يواجه محاكمة قضائية في العمل، وكانوا قلقين بشأن الحصول على المال الكافي لدعمهم ولدعم أبنائهم. أُصيبت أنجلينا بالاكتئاب الذي استمر لقرابة الثلاث سنوات. منذ ذلك الحين، أصبح مزاجها متذبذبًا، وكانت مكتئبةً في أغلب الأوقات. تعاطت كميةً كبيرة من الأدوية -مضادات الاكتئاب، محسنَّات للمزاج، حبوب مضادة للتوتر، وأقراص منومة- الأمر الذي لم يُعجبها؛ لأنها كانت تشعر وكأنها مريضة، ومع ذلك فإنها تقرُّ بهذا.

قالت لي بأنني لو التقيتُ بها قبل ثلاثة أيام، فإنني على الأغلب لن أتعرف عليها. لم ترغب بعمل أي شيء، كانت ستتوقف عن غسل شعرها أو وضع مساحيق التجميل، وستكون رائحتها كريهة. كانت متشائمة جداً من المستقبل؛ فبعد ليلتها الأولى من الحرمان من النوم، شعرت بطاقة كبيرة، وقد هدأ كل هذا بعد أن عوّضت نومها بشكلٍ كبير، وعلى الرغم من ذلك؛ فقد شعرت بالحماسة لزيارة مصفف شعر وهي تترقب زيارتي. عندما أثنيتُ على مظهرها، ربتت على شعرها المتموج الذهبي، شاكرةً لي على الملاحظة.

في الساعة الثالثة صباحًا، ننتقل إلى غرفة الإضاءة، والدخول إليها يشبه الانتقال إلى منتصف النهار. أشعة الشمس الساطعة تنبعث من إضاءة السقف العلوية، وتسقط على خمسة أرائك، صُّفَت مقابل الحائط. هذا خداع بصري بالطبع، فالسماء الزرقاء والشمس الساطعة لا شيء سوى قطع بلاستيكية ملونة وضوء ساطع، وعلى الرغم من ذلك كان التأثير مبهجًا. أستطيع الجلوس في متسكع شمسي في منتصف النهار؛ ولكن الشيء الوحيد الذي سأفتقده هو الحرارة.

عندما كنتُ أجري معها مقابلة في الساعات السبع الأولى، بمساعدة المترجم، كان وجه أنجلينا خاليا من التعابير عندما تجيب على الأسئلة. أما الآن، في الساعة 3:20 صباحًا؛ فإنها تبتسم وتبدأ بعض الحوارات معي باللغة الانجليزية، والتي ادعَّت سابقاً بأنها لا تتحدث بها. وعند الغروب، أخبرتني أنجلينا بتاريخ العائلة الذي بدأت بكتابته، والذي أحبت أن تجمعه مجددًا، ودعتني للبقاء معها في صقلية.

كيف يمكن لشيء بسيط كالبقاء مستيقظًا طوال الليل أن يُحدث هذا التغيير؟! فهم الآلية غير واضح، وتعليقًا على ذلك يقول بنديتي “ما  زلنا لا نفهم تمامًا طبيعة علاقة الاكتئاب بوظيفة النوم، إذ إن كلاهما يحدثان في مناطق متعددة في الدماغ، ولكن الدراسات الحديثة استنبطت بعض الأفكار”.

© Eva Bee for Mosaic

 

يبدو نشاط الدماغ خلال النوم واليقظة مختلفًا لدى الأشخاص المصابين بالاكتئاب مقارنةً بالأشخاص الأصحاء؛ فخلال النهار، يُعتقد بأن علامات تعديل اليقظة الصادرة من النظام اليومي -ساعتنا البيولوجية الداخلية- قد تُساعدنا في مقاومة النوم، وذلك عند استبدالها بعلامات تعديل النوم في الليل. خلايا أدمغتنا تعمل في دوائر أيضًا؛ فنشعر بالحماسة الزائدة كردة فعل لأي مثير خلال اليقظة، بينما تتبدد هذه الحماسة عندما ننام، ولكن مع الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب ومتلازمة ثنائي القطب يبدو بأن هذه التقلبات خامدة أو غائبة.

يرتبط مرض الاكتئاب أيضًا بالتغيير اليومي لتوازنِ إفراز الهرمونات ودرجة حرارة الجسم؛ فكلما كان المرض شديدًا، كانت درجة الاضطراب أقوى. ويتبع هذا النظام في المستوى الهرموني ­­­-مثله مثل إشارات النوم- ساعة الجسم البيولوجية. وتتحكم بها مجموعة من البروتينات المتفاعلة الناتجة عن جينات ساعة الجسم البيولوجية، والتي تظهر بنمط متواتر خلال النهار، كما أن هذه البروتينات تتحكم بمئات العمليات الخلوية المختلفة، والتي تمكنها من التواتر والتزامن وإعادة التشغيل والإيقاف مع بعضها. إن الساعة البيولوجية تدق في كل خلية في جسمك، بما فيها خلايا الدماغ، والتي يتم تنظيمها عن طريق منطقة في الدماغ تُدعى النواة فوق التصالُبية، وهي المسؤولة عن الاستجابة للضوء.

يُشرِف ستين ستينجريمسون -طبيب نفسي في مستشفى جامعة ساهلجرينسكا في غوتنبرج السويدية- على برنامج تجريبي في العلاج باليقظة، ويرى أنه “عندما يكون الناس مكتئبين بشكلٍ حاد؛ فإن نظُم ساعتهم البيولوجية يكون خامدًا، ولا يحصلون على الاستجابة الطبيعية من ارتفاع الميلاتونين في المساء، وترتفع لديهم مستويات الكورتيزول بشكلٍ ثابت بدلًا من انخفاضها في المساء”.

ترتبط عملية الشفاء من الاكتئاب بطبيعة هذه الدورات، ويوضح بنديتي “أعتقد بأن الاكتئاب هو أحد الآثار المترتبة من الإحباط الأساسي لنظُم الساعة البيولوجية والاستقرار الداخلي للدماغ؛ فعندما نَحرم مرضى الاكتئاب من النوم؛ فإننا نستعيد هذه العملية الدورية.”

ولكن كيف تحدث عملية الاستعادة؟ تشير بعض الاحتمالات إلى أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب يحتاجون فقط لضغطٍ إضافي للنوم لبدء تشغيل النظام البطيء، ويُعتقد أيضًا بأن ضغط النوم -حاجتنا للنوم- يظهر بسبب الإفراز المتدرج للأدينوزين في الدماغ، حيث ينمو خلال النهار ويرتبط بمستقبلات الأدينوزين في الأعصاب، وهو ما يجعلنا نشعر بالنعاس. إن الاقراص التي تحفز هذه المستقبلات لها نفس التأثير، بينما الأقراص التي تحبطها -كالكافيين- تجعلنا أكثر يقظةً.

لاكتشاف ما إذا كانت هذه العملية تعزز تأثير مضادات الاكتئاب في فترات الاستيقاظ الطويلة، أجرى باحثون من جامعة تافتس في ماساتشوستس تجربة على فئران لديها أعراض شبيهة بالاكتئاب. أعطيت الفئران جرعات عالية من مركب يثير مستقبلات الأدينوزين، كنوع من محاكاة ما يحدث خلال عملية الحرمان من النوم. بعد 12 ساعة، تحسنت حالة الفئران، وذلك بقياس المدة الزمنية التي استغرقتها في محاولة الهرب عندما أُجبرت على السباحة أو عند تعليقها من ذيلها.

نعلم أيضًا أن الحرمان من النوم يقوم بعمل أمور أخرى للدماغ المكتئب، حيث يقوم بتعزيز التغييرات في توازن الناقلات العصبية في مناطق تساعد في ضبط المزاج، ويستعيد النشاط الطبيعي في مناطق معالجة المشاعر في الدماغ، ويقوي الروابط بينها. وقد اكتشف بنديتي وفريقه أنه إذا كان علاج اليقظة يُحفز نُظُمَ الساعة البيولوجية البطيئة؛ فإن الليثيوم والضوء يساعدان على تخفيض ذلك. استُخدم الليثيوم باعتباره ضابطًا للمزاج لسنوات، ولم تُفهم كيفية عمله، ولكننا نعلم أنه يحفز إفراز بروتين Per 2، والذي يُحفِّز الساعة الجزيئية في الخلايا.

وفي الوقت نفسه؛ فإن الضوء الساطع يُعرف بتأثيره في تعديل أنظمة النواة فوق التصالُبية، بالإضافة إلى تحفيز نشاط مناطق معالجة المشاعر في الدماغ بطريقةٍ مباشرة. في الواقع، اعترفت جمعية الطب النفسي الأمريكية بأن العلاج بالضوء له نفس تأثير معظم مضادات الاكتئاب في معالجة الاكتئاب غير الموسمي.


© Eva Bee for Mosaic

 

على الرغم من النتائج المبشرة للعلاج باليقظة ضد متلازمة ثنائي القطب، إلا أنه انتشر بشكل بطيء في الدول الأخرى. يقول ديفيد فيل، مستشار الطب النفسي في المؤسسة المتحدة للخدمات الصحية الوطنية في جنوب لندن ومودسلي: “يمكنك أن تقول ساخرًا، إنك لا تستطيع تسجيله كبراءة اختراع”.

لم يحصل بنديتي إطلاقًا على الدعم الدوائي ليُكمل تجاربه في العلاج الزمني، وبدلًا من ذلك كان وما زال يعتمد على الدعم الحكومي، والذي يكون عادةً دعمًا بسيطًا، ويدعم الاتحاد الأوروبي بحثه. لو أنه اتبع الطريقة التقليدية في قبول مالٍ بطريقة تجارية ليُجري تجارب الأدوية مع مرضاه -يضيف مازحًا- فإنه على الأرجح لم يكن ليسكن في شقة بغرفتي نوم ويقود سيارة هوندا سيفيك موديل 1998.

إن الحياد تجاه الحلول الدوائية أبقى العلاج الزمني بعيدا عن اهتمام العديد من الأطباء النفسيين، ومتأسفًا يقول فيل: “الكثير من الأشخاص لا يعلمون عنه”.

كما أنه من الصعب الحصول على العلاج الوهمي (بلاسيبو) المناسب للحرمان من النوم أو التعرض للضوء الساطع، مما يعني أن تلك التجارب العشوائية المضبوطة باستخدام العلاج الوهمي للعلاج الزمني لم تُنفَّذ، وبسبب ذلك فقد نتجت بعض الشكوك في مدى فعاليتها. يقول جيدز: “بالرغم من ارتفاع نسبة الفائدة كما أوضح جون جيدز، بروفيسور في الطب النفسي الوبائي بجامعة أوكسفورد، لا أعتقد أن العديد من العلاجات القائمة على هذه الطريقة قد تُستخدم بطريقة روتينية. يجب أن يكون الدليل أفضل وهناك العديد من المعوقات العملية في تطبيق بعض الأمور كالحرمان من النوم”.

ومع ذلك فإن الاهتمام بالعمليات التي تدعم العلاج الزمني قد بدأ بالانتشار. ويضيف: “تزودُ بعض الأفكار الحالية في بيولوجيا النوم وأنظمة الساعة البيولوجية أهدافًا واعدة لتطور العلاج. إن الأمر يتجاوز الأدوية، إن استهداف النوم بالعلاج النفسي قد يعالج أو يمنع الاضطرابات العقلية”.

يُجري الأطباء النفسيون في المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، والدنمارك والسويد تجربة العلاج الزمني كعلاج للاكتئاب العام، وصرَّح فيل “إن العديد من الدراسات التي أجريت على المدى القريب ما زالت في نطاق ضيق”. يخطط فيل حالياً لدراسة جدوى في مستشفى مودسلي في لندن، ويعلِّق قائلًا “يجب أن نثبت أن هذه الطريقة مجدية ويمكن اتباعها”.

أما كلاوس مارتيني، والذي يبحث في الوسائل غير الدوائية لعلاج الاكتئاب بجامعة كوبنهاغن بالدنمارك، فيرى أن “الدراسات التي أُجريت حتى الآن خرجت بنتائج مختلطة”، وقد نشر تجربتين لملاحظة تأثير الحرمان من النوم، بالإضافة إلى ضوء الصباح الساطع اليومي وأوقات النوم الاعتيادية على حالات الاكتئاب العام. في الدراسة الأولى، تناول 75 مريضً دواء دولوكستين المضاد للاكتئاب، إضافةً إلى العلاج الزمني أو التمارين اليومية. بعد الأسبوع الأول، 41% من المجموعة التي خضعت للعلاج الزمني لم يعانوا سوى من نصف الأعراض، مقارنةً بنسبة 13% من المجموعة التي عولجت بالتمارين اليومية. وخلال 29 أسبوعًا، تخلص 62%  من جميع الأعراض عبر علاج اليقظة، مقارنةً بـ 38% من المرضى في مجموعة التمارين.

في دراسة مارتني الثانية، قُدِّمت نفس حزمة العلاج الزمني بالإضافة إلى الأدوية والعلاج النفسي لمرضى الاكتئاب الحاد الذين ناموا في المستشفى. وبعد أسبوع واحد تحسنت المجموعة التي تلقت العلاج الزمني بشكل أفضل من المجموعة التي تتلقى العلاج الأساسي، وبالرغم من ذلك؛ فإن المجموعة الضابطة أدركت العلاج في الأسابيع اللاحقة.

وحتى اللحظة، لم يقم أحدٌ بمقارنة العلاج باليقظة مع العلاج بالأدوية وجهًا لوجه، كذلك لم يُجرَّب ضد العلاج بالضوء الساطع والليثيوم، كلٌ على حدة. وعلى الرغم من فعاليته لدى بعض الأشخاص، إلا أن فكرة العلاج من دون أدوية تبدو مغرية للعديد من مرضى الاكتئاب بالإضافة للأطباء النفسيين.

من المتحمسين لفكرة هذا العلاج الدكتور، جوناثن ستيوارت، بروفيسور في الطب النفسي السريري في جامعة كولومبيا بنيويورك، والذي يجري حاليًا تجربة العلاج باليقظة في معهد ولاية نيويورك للطب النفسي، يقول ستيوارت “أنا من الأطباء الذين يشجعون على تناول الأدوية لكسب لقمة العيش، ولكن دائمًا يثير اهتمامي القيام بأمورٍ لا تتطلب اللجوء إليها”.

بعكس بنديتي، يحرص ستيوارت على إبقاء المرضى مستيقظين لليلةٍ واحدة، ويشرح فكرته بقوله “لم أتمكن من لقاء العديد من الناس الذين يوافقون على البقاء في المستشفى لمدة ثلاث ليالٍ، ويتطلب ذلك الكثير من الرعاية الصحية والموارد”، عوضًا من ذلك، أستخدم ما يُسمى بطور النوم المتقدم، وهو يتضمن الأيام التي تلي ليلة الحرمان من النوم، فيزيد الوقت نوم المرضى استيقاظهم بطريقة منهجية. عالج ستيوارت حوالي 20 مريضًا متبعًا هذا البروتوكول حتى الآن، وقد أظهر 12 مريضًا منهم تحسنًا ملحوظًا خلال الأسبوع الأول.

قد تنفع هذه الطريقة كإجراء وقائي، وتوضح الدراسات الحديثة أن المراهقين الذين يهتم آباؤهم بتطبيق وفرض وقت مبكر للنوم، أقل عرضةً للاكتئاب والتفكير الانتحاري. ومثل العلاج بالضوء والحرمان من النوم؛ فإن الآلية الدقيقة غير واضحة، ويعتقد بعض الباحثين أن المقاربة بين وقت النوم ودورة الضوء والعتمة الطبيعية مهمة جدًا.

لقد فشل تقديم مرحلة النوم في التوافق مع الاتجاه السائد، وأقر ستيورات بأن هذه الطريقة لا تنفع للجميع، وعن ذلك يقول “إنها معجزة شفائية لأولئك الذين استفادوا منها، وهي كالبروزاك (فلوكستين) لا يستفيد منه جميع مستخدميه” وأضاف “مشكلتي الوحيدة أنني لا توجد لدي أدنى فكرة مقدمًا عمن سيستفيد منها”.


إن أيّ شخص معرض للإصابة بالاكتئاب، ولكن هنالك أدلة قوية على أن التغيرات الجينية قد تعطل الساعة البيولوجية لدى بعض الأشخاص مما يزيد من فرصة إصابتهم به، وهناك ربط للعديد من التغيرات الجينية للساعة البيولوجية مع الارتفاع الحاد في تطور الاضطرابات المزاجية.

وقد تتضاعف المشكلة بسبب الضغط، ويقوم هرمون الكورتيزول بتنظيم ردود أفعالنا بشكل كبير، والتحكم به يجري عن طريق الساعة البيولوجية. يؤثر الكورتيزول كذلك مباشرةً على توقيت ساعاتنا البيولوجية، ولذلك إذا كانت ساعتك البيولوجية ضعيفة؛ فإن الضغط الزائد قد يكون كافيًا لدفع نظامك لحافة الهاوية.

بكل تأكيد يمكنك إثارة أعراض الاكتئاب لدى الفئران عن طريق تعريضها لمؤثرٍ مؤذٍ بشكلٍ متكرر -كالصعقة الكهربائية التي لا تستطيع الهرب منها- وتُدعى هذه الظاهرة بالعجز المكتسب. في نهاية المطاف، تستسلم الحيوانات لمواجهة هذا الضغط المتكرر، وتُظهر سلوكيات شبيهة بالاكتئاب. عندما حلل ديفيد ويلش؛ طبيب نفسي في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو، أدمغة الفئران التي لديها أعراض الاكتئاب، اكتشف وجود اضطرابات في نظم الساعة البيولوجية في منطقتين حرجتين في دائرة الكفاءة بالدماغ، وهو النظام المتورط بشكل كبير في الاكتئاب.

© Eva Bee for Mosaic

وقد أظهر ويلش أن نظام الساعة البيولوجية المضطرب قد يسبب أعراضًا شبيهة بالاكتئاب، وعندما أخذ بعض الفئران الصحيحة وأزال الجين الرئيسي في ساعة الدماغ البيولوجية الأساسية، بدت تمامًا كالفئران المكتئبة التي درسها سابقًا، ويقول ويلش “لم تكن بحاجةٍ لتتعلم كيف تكون عاجزة، لقد كانت عاجزة من قبل”.

إذا كانت اضطرابات نظم الساعة البيولوجية إحدى مسببات الاكتئاب، فما الذي يمكن عمله لمنعها عوضًا عن علاجها؟! هل من الممكن تقوية ساعتك البيولوجية لزيادة المرونة النفسية، عوضًا عن علاج أعراض الاكتئاب بواسطة الامتناع عن النوم؟

يتفق مارتيني مع ما سبق ويجري حالياً تجربة حول ما إذا كان الاستمرار بالجدول اليومي العادي سيمنع مرضى الاكتئاب المنومين من الانتكاسة بعد التعافي وخروجهم من عنابر الطب النفسي. علّق مارتيني: “تبدأ المشكلة عادةً في تلك اللحظة، عندما يخرجون، يصبح اكتئابهم أسوأ مجددًا”.

بيتر البالغ من العمر 45 عامًا، مساعد رعاية من كوبنهاغن، حارب الاكتئاب منذ سنوات مراهقته المبكرة. حاله كحال أنجلينا مع الاكتئاب وغيرها الكثير، نوبته الأولى تلتها مرحلة من الإجهاد الشديد والهيجان. أخته ربته قليلًا أو كثيرًا، غادرت المنزل عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وتركته مع والدته ووالده اللامباليين واللذَين يعانيان أيضًا من الاكتئاب الشديد. بعد ذلك توفي والده إثر إصابته بمرض السرطان -صدمةٌ أخرى- وذلك بعد أن أخفى توقعات سير مرضه إلى الأسبوع الذي سبق وفاته.

أصبح بيتر نزيلًا بالمستشفى بسبب الاكتئاب لست مرات، إضافة إلى شهر أبريل الماضي، وصرّح قائلًا “إن البقاء في المستشفى يعد راحةً في بعض الأحيان”، لكنه يشعر بالذنب حيال تأثُر أبنائه البالغين من العمر 7 و9 سنوات بهذا الأمر. يعلق قائلًا “أخبرني ابني الصغير أنه يبكي كل ليلةٍ أقضيها في المستشفى؛ لأنني لستُ بجانبه لأحتضنه”.

لذلك عندما أخبر مارتيني بيتر عن الدراسة التي يجريها حاليًا ويضمّ متطوعين إليها -وقد أطلق عليها “علاج تعزيز الساعة البيولوجية”- وافق بيتر مباشرةً على المشاركة. تدور الفكرة حول تقوية نظُم الساعة البيولوجية للأشخاص، عن طريق تشجيع الانتظام في أوقات نومهم واستيقاظهم ووجباتِهم وتمارينهم، بالإضافة إلى دفعهم لقضاءِ وقتٍ أطول في الخارج وتعريضِهم لضوء النهار.

بعد مغادرة بيتر لعنبر الطب النفسي، ولمدة 4 أسابيع في شهر مايو، ارتدى جهازًا يراقب نشاطه ونومه، وسجل كذلك استبيانات حول المزاج الطبيعي، وإذا حدث أي تغيير في الروتين؛ فإنه قد يتلقى مكالمة هاتفية لمعرفة ما الذي يحدث.

عندما ألتقي ببيتر؛ فإننا نتمازح بشأن خطوط التان حول عينيه، حيث يتبين بأنه يأخذ النصائح على محمل الجد؛ فيقول ضاحكًا “نعم! أنا أخرج إلى الحديقة، وإذا كان الجو رائعًا؛ فإنني أصطحب الأطفال إلى الشاطئ للتنزه أو لساحة اللعب؛ لأنني حينها سأحصل على بعض الضوء مما يحسن من مزاجي”.

هذه ليست كل التغييرات؛ فهو الآن يستيقظ في الساعة السادسة كل صباح لمساعدة زوجته في رعاية الأولاد. ويتناول إفطاره حتى وإن لم يكن جائعًا، والذي عادةً ما يكون زبادي مع حبوب الفطور. لا يأخذ أي قيلولة ويحاول بأن يذهب إلى النوم في حدود الساعة العاشرة مساءً، وإذا استيقظ خلال الليل، فإنه يقوم بالتدرب على التركيز الكامل للذهن (إحدى التقنيات التي تعلمها في المستشفى).

سحب مارتيني بيانات بيتر في حاسوبه وأكدت التغييرات في الأوقات المبكرة للنوم والاستيقاظ، ووضحت تطورًا في طبيعة نومه، ما انعكس على نتائج مزاجه. بعد خروجه مباشرةً من المستشفى أصبح متوسط هذه النتائج حوالي 6 من 10، وبعد أسبوعين زادت هذه النتائج لتثبت على 8 و9، وفي إحدى الأيام استطاع الوصول إلى 10 وفي بداية شهر يونيو عاد إلى وظيفته في بيت الرعاية؛ فكان يعمل لمدة 35 ساعة في الأسبوع، واعترف “لقد ساعدني وجود الروتين في حياتي كثيرًا”.

© Eva Bee for Mosaic

حتى هذه اللحظة، ضمَّ مارتيني 20 مريضًا إلى برنامجه التجريبي، بينما كان يهدف إلى ضم 120 مريضا؛ ولذلك فإن الوقت ما زال مبكرًا لمعرفة عدد الأشخاص الذين سيستجيبون للعلاج كبيتر، أو بالتأكيد ما إذا كانت صحته النفسية ستبقى مستقرة. ومع ذلك فهناك أدلة قوية على أن روتين النوم الجيد يحسِّن من صحتنا العقلية؛ فوَفْقًا لدراسة نُشرت في المجلة الطبية Lancet Psychiatry في سبتمبر 2017 -أكبر تجربة عشوائية في تدخل الطب النفسي حتى الآن- أظهر المرضى المصابون بالأرق الذين خضعوا لدورة علاج إدراكي سلوكي لمدة عشرة أسابيع لعلاج مشاكل النوم لديهم انخفاضًا ثابتًا في تجارب الهذيان والهلوسة، كذلك أظهروا تحسنًا وتخلُّصًا من أعراض الاكتئاب والقلق، كوابيس أقل، وصحة نفسية وأداء يوميا أفضل، وكانوا أقل عرضةً لنوبات الاكتئاب واضطرابات القلق خلال برنامج هذه التجربة.

النوم والروتين وضوء النهار، هي معادلة بسيطة ومن السهل الوثوق بها. ولكن تخيل لو كان يقلل فعلًا من احتمالية الإصابة بالاكتئاب ويساعد الناس على التعافي منه بطريقة أسرع؛ فإنه لن يحسن فقط من طبيعة حياة عدد غير محدود من الناس، ولكنه سيحافظ كذلك على أموال أنظمة الصحة.

في حالة العلاج باليقظة، فإن بنديتي يحذر الأشخاص من تطبيقه بأنفسهم في بيوتهم. خصوصًا للأشخاص الذين يُعانون من اضطراب ثنائي القطب؛ لأن هنالك خطورة في أن يتسبب ذلك في إثارة الجنون على الرغم من أن الخطورة تبدو أقل من تلك التي تظهر عند أخذ مضادات الاكتئاب. كذلك فإنه من الصعب إبقاء نفسك مستيقظًا طوال الليل، حيث تتراجع حالة بعض المرضى للاكتئاب وتشوش الحالة المزاجية، وهو أمر خطير. يقول بنديتي: “أود أن أكون حاضرًا لأحدِّثهم عنها عندما تحدث لهم؛ فعادةً ما تسبق محاولات الانتحار حالات التشويش”.

بعد أسبوع من قضاء الليل مستيقظةً مع أنجلينا، اتصلتُ ببنديتي لمتابعة تطور حالتها، وأخبرني أنه بعد تعرضها للحرمان من النوم للمرة الثالثة، أحست بخمود تام للأعراض وعادت إلى صقلية مع زوجها. في ذلك الأسبوع كانا يخططان للاحتفال بذكرى زواجهما الخمسين، وعندما سألتها إن كانت تظن بأن زوجها سيلاحظ أي تغيير في حالتها النفسية، قالت إنها ترجو أن يلاحظ التغيير في مظهرها الخارجي.

الأمل. بعد أن قضت أكثر من نصف عمرها من دونه، أجزم بأن عودته إليها هو أثمن هدية ذهبية لذكرى زواجها على الإطلاق.


 

بقلم: ليندا غيدز | ترجمة: ميثاء الراشدي | تدقيق ترجمة أول: فاخرة يحيى | تدقيق ترجمة ثان: شيخة الجساسي | تدقيق لغوي: محمد الشبراوي | تحرير: بسام أبو قصيدة | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى