العلوم الاجتماعيةفكر وفلسفة

روح رقمية تسبح في فضاء الإنترنت

قد تعكس صفحتي على فيسبوك جزءًا من هويتي الشخصية، لكنها هل تمنحني خلوداً أبدياً؟

في أحلك سنوات القرن السابع عشر، استطاع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أن يبث شعاع الأمل في بضع صفحات قصيرة فقط ويسلب أرواحنا بعيداً. لقرون عديدة، جاءت فكرة الروح لتُضفي سحرها الأنيق لهذه المعضلة: إذ كيف للبشر بأجسادهم الهشة والقابلة للتحلل أن تنجو من حتمية الموت؟ لقد تصارع آباء الكنيسة الأوائل حول سُبل تخفيف القيامة الجسدية التي وعدهم بها إيمانهم، والتحلل الحتمي للجثث. فقبضة الله  أقوى بالتأكيد، لكن كيف بإمكانه إعادة تجميع الغبار المتناثر من جسد الإنسان الميت؟ ماذا عن الجثث التي تنتشلها الحيوانات المفترسة أو آكلي لحوم البشر؟

في القرن الثاني، سلط اللاهوتي اليوناني أثيناغوراس الضوء على هذه القضية من خلال ادعائه بأن لحم الإنسان غير قابل للهضم. وفي مواجهة نفس أسئلة القيامة والهوية، ادعى الكُتَّاب اليهود أن العمود الفقري لدينا يحتوي على عظم غير قابل للتدمير – اللوز – ليكون المحور الأساسي في الحفاظ على هوية الإنسان الجسدية في الحياة والموت والقيامة.

لكن الفكرة اليونانية عن الروح غير المادية جعلت كل هذه التكهنات في العناصر البيولوجية لا داعيَ لها، يدور لبُّ القضية وجوهرها على أن كل واحد منا له روح تتكون من مادة تبعث الحياة في الجسد وتنجيه من الموت المحتوم، وفي نفس الوقت تأخذه لحياة جديدة دون فقدان الهوية الأصلية.

حتى جاء الفيلسوف لوك ليدحض ذلك ويؤكد أن الإنسان لا روح له ولا جسد، بل يكمن جوهره في وعيه ومعرفته. إذ يزعم لوك أنه يمكن للمرء أن يبادل روحه مع شخص آخر وسيظل كما هو لأن وجوده لم يكن يوماً يتعلق بالروح. وفي سيناريو مغاير، أنه لو قمت بتبديل عقلك مع شخص آخر، فإن هويتك ستنتقل إلى جسده والعكس صحيح. وبهذا، وُلد المفهوم التعددي الحديث للهوية الشخصية. بدلاً من الذات الواحدة، لدينا الآن  ذوات متعددة- الذات الجسدية، والذات النفسية ، والذات الحيوانية ، والذات السردية، وغيرها الكثير- لكل منها نظريتها الخاصة ومؤيديها. كما سلط بيتر غولدي في كتاب  (2012,The Mess Inside)، الضوء على هذه الأسئلة التي تدور حول الهوية الشخصية على أنها “مستعصية وفي موقع جدل مثلها مثل أي قضية فلسفية”. وهذا يفسر الكثير.

في فترة ليست بالقصيرة، امتد الصراع بين المؤيدين الجدد للفيلسوف لوك، من يعدّون الهوية مسألة وعي، وبين أولئك الذين جادلوا بأن هويتنا الشخصية تقتصر على وجودنا المادي. في الآونة الأخيرة، توصل بعض الفلاسفة إلى تقبُّل فكرة أن الهوية الشخصية غير محصورة على عنصر واحد فحسب، بل تتسع لتشمل عناصر مختلفة المكان والزمان. وقد أثار لوك الموضوع من خلال التمييز بين الهوية كعنصر مادي مكون من ذرات، كحيوان بشري، وبين مفهوم مختلف للهوية كشخص أو ذات. ما حدث في السنوات الأخيرة هو أن الكُتّاب أصبحوا يرون أن لوك كان من المقرر له أن يفتح آفاقاً أسرع ويسهب في التمييز بين الوجود المادي والذات الإنسانية.

من السهل تحديد موقع الإنسان ومحدودية قدراته وهيئته المادية ومتى تبدأ كحيوان بشري (عند الولادة، أو قبل ذلك بقليل) وأين تنتهي (بالموت). لكن الأمر يختلف عندما يتم تصنيفك كذات أو مركزٍ للوعي، إذ يصعب تحديد موقعك وامتداد وعيك، إلا إذا قمنا بتقليل عمليات الوعي داخل عقلك ، وعند هذه النقطة يبدو أننا لم نعد نتحدث عن الوعي على الإطلاق –  كأن أتحدّث عن ابتسامة الموناليزا مثلاً وفجأة أبدأ بالحديث عن جزيئات الألوان التي تتكون منها. ومع ذلك، فنحن نعلم أن الذات مرتبطة بمنظور جسدي إلى حد ما.

كونك ما أنت عليه اليوم- لا ينبع من تجربتك الفردية فحسب، بل الشيء الذي أصبحت عليه في محيطك – هو أكثر تعقيدًا مما تظن. الإنسان هو هوية أخلاقية واجتماعية وعملية، كائن يتصرف ويتحمل مسؤوليات مختلفة ويعترف إليه الآخرون ويرتبط بهم. ولا يتقصر كيانه على مجرد كونه كائنًا ماديًّا فحسب؛ بل يمتد ليكون كائنًا اجتماعيًّا أيضاً.  ذاتك هي ما يراه الآخرون وليس أنت أو ما تشعر به عندما تكون على سجيتك المعتادة. وانطلاقًا من هذا المعنى، فإنه ليس بالضرورة أن يكون جميع الأفراد متواجدين في نفس المكان والزمان، بل يمتد وجودهم الملموس ضمن شبكة من الأجسام والعقول والأفكار والكماليات المادية التي تجسد الشخص نفسه بدرجة أو أخرى.

قد تبدو هذه الفروق الدقيقة والنقاشات التي تدور حولها بعيدة كل البُعد عن حياتنا اليومية. يمكن أن تكون الهوية الشخصية موضوعًا مثيرًا للجدل ويلقى اهتماماً ملحوظاً بشكل خاص في الفلسفة، إذ يُعد مادة خصبة بالتجارب الفكرية الرائعة التي لا يمكن إنكارها. ماذا لو انقسم دماغي إلى قسمين وزُرع كل نصف في جسدين مختلفين؟ هل سيكون النقل الآني شكلاً من أشكال النقل أم انتحارًا؟ إذا عشت 1000 عام فهل سأظل أنا؟ إن هذه الأفكار ليست من النوع الذي يثير حفيظة العامة.  ولكن اليوم، غيّر الإنترنت كل ذلك. أصبحت هذه الفروق بين هذه الأنواع المختلفة من الذات مؤخرًا أكثر وضوحًا في حياتنا اليومية.

ومع الوقت، أصبحت فكرة الإنترنت كعالم منفصل وأن الفجوة الواسعة بين “الفضاء الإلكتروني” و”الحياة الحقيقة” في عداد التاريخ. لم يمض وقت طويل على كون الإنترنت منصة مجهولة ومفصولة إذ يمكنك أن تلعب دور أي شخص ترغب به ولا يمت بصلة بواقعك، دون عواقب إلى حد كبير. ما يزال هذا العالم المجهول موجودًا بالطبع. كما ما يزال بإمكانك التظاهر بأنك أصغر سناً وأكثر  حماساً، أو أنك تنحدر من سلالة العائلة الملكية النيجيريَّة، أو مُدوّنٌ يحتضر. ولكننا وصلنا إلى نقطة تقلصت فيها هذه الادعاءات بسرعة. أصبح معظمنا يرتبط بشكل متزايد بهويّته عبر الإنترنت، ولأن الكثير من نشاطنا عبر الإنترنت يقع في بيئات تُستخدم فيها أسماؤنا الحقيقية ومسمياتنا الوظيفية. فقد أصبحت أجسادنا متصلة بالإنترنت أيضًا. تتجسد كل من صورنا وأصواتنا ومواقعنا على الخريطة بشكل متواصل في منصات الوسائط الاجتماعية. وخير مثال على ذلك، بأن يدمج هواة الألعاب الإلكترونية أصواتهم الحقيقية بشخصياتهم الرقمية. لا يمكننا الجزم تماماً أن الإنترنت يعكس هويتنا، ولكن يبدو جليًّا بأنه مع الوقت أصبح أكثر ارتباطاً بحياتنا الواقعية اليومية. قد يبدو خيال الهروب إلى العالم السفلي الإلكتروني محتفظًا بجاذبيته، ولكن ما يزال التمييز بين عالم الإنترنت والعالم الواقعي أمراً مثيراً للجدل.

 

لا توجد كلمات أخيرة يصل صداها للأعماق، ولا إشارات تحمل في مضمونها تفسيرات لتصرفات البشر الدرامية. لا يوجد سوى ثرثرة خافتة وفارغة للحياة اليومية.. ثم  كل شي ينتهي بصمت.

 

سيكون من المجحف أن نقول إننا ببساطة نتصرف على سجيتنا في عالم الإنترنت،  دون مبالغة أو تهويل. لربما لا يلجأ الكثيرون منا إلى رسم شخصيات خيالية على الإنترنت، لكننا على الأرجح نقوم بتحوير حياتنا إلى حد ما.  وجد شانيانج زو  وزملاؤه من علماء الاجتماع في جامعة تمبل في فيلادلفيا عبر دراسة “بناء الهوية في الإنترنت” (2008) التي نُشرت في مجلة Computers in Human Behavior، بأن ملفات تعريف المستخدمين على الفيسبوك لم تكن متطابقة تمامًا مع هوياتهم خارج الإنترنت، بل كانت بالأحرى الهويات التي يرغبون في تأسيسها في العالم الحقيقي.  ولعل مقولة  الفيلسوف الأمريكي ستانلي كافيل “الذات القادمة” ما هي إلا دعوة صريحة لنُحضر شخصيتنا الافتراضية إلى الواقع ونسعى لإيجاد الحياة التي نطمح إليها وليس تلك التي نحيكها على الفضاء  الرقمي .

على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعية قد شهدت تغييرات هائلة على مدار السنوات العشر الماضية، لكنها ما تزال الوسيلة الأمثل لإبراز شخصياتنا على الإنترنت. بفضله، أصبحنا نرسم انعكاس مثالي لذواتنا دون أي عيوب، لنكون أقرب لنجوم لامعين مما نحن عليه في أرض الواقع. وعلى هذا الطريق، تتكاثر الخيبات والاغتباط في ظل الفروقات بين الواقع والافتراض، وقد لا يكون ذلك أمرًا سيئًا بالضرورة. تنطوي مخاطر تصورنا المثالي لهويتنا الحقيقية على خداع الذات النرجسي، وفي نفس الوقت، يمكن أن يكون دافعًا للتطوّر والتقدّم في الواقع. “الذات القادمة” كما أطلق عليها  الفيلسوف كافيل هي ذاتنا الأفضل، مما يعني أن الشخص الذي نراه على موقع فيسبوك قد يكون النسخة التي نطمح للوصول إليها.

إذا كنت من مستخدمي موقع فيسبوك، ألقِ نظرة على ملفك الشخصي عن كثب: هل هذا أنت؟ أو مُعرفك الشخصي يمثلك، وهل حسابك هو جزء منك ومن هويتك، وما أنت عليه؟ قد يبدو من الجنون أن نقول: كيف يمكن أن  تتجسّد هويّتك في مجموعة من الصور على شاشة الكمبيوتر؟

بناءً على ما تم ذكره في الأعلى، فإن الأفراد يمكن تصنيفهم ضمن كيانات اجتماعية ومادية. ولا تقتصر هويتهم في بنيتهم الجسدية وخصائصهم البشرية فحسب؛ بل تمتد لتشمل ذكريات وأفكار الآخرين، وكذلك الحقائق كشهادات الميلاد والصور والمذكرات. لربما ملفك الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي كـ فيسبوك وإنستغرام وتويتر مجرد قطعة أثرية لها بصمتها الخاصة، ويتيح لدائرتك الاجتماعية أن تمتد وتتوسع – وهذا ما أسماه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر “الوجود من أجل الآخرين”. ويجب التنويه، أن هذا الأمر خارج عن السيطرة في ظل تأثير من حولك. فمن خلال هذه الأدوات الرقمية، أصبح بإمكانك أن تمد أواصر الترابط مع الآخرين، أو تنهي حبل الوصل أو ربما تعيد بناء ما قمت بهدمه، وتُرسّخ مكانتك في مختلف الشبكات الاجتماعية والسياسية والدينية أيضًا. إنها طريقة فعالة للغاية وواسعة النطاق لتكون ذاتك الشخصية ملموسة في العالم. وعند القول أن شخصيتك الافتراضية ما هي إلا جزء أصيل منك ومن هويتك، فعلى الأقل لن يبدو ذلك ضربًا من الجنون.

لعل السبب الأساسي الذي جعل الفلاسفة يقضون العقود القليلة الماضية في الحديث عن الهوية الشخصية هو نفس السبب الذي جعل الفيلسوف أثيناجوراس يلخص أن الهوية الشخصية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأشياء التي نهتم بها بشكل أساسي ولا مفر منها. لا ننفك نهتم بما يحدث لنا، خاصة عندما يتعلق الأمر بتهديد بقائنا على قيد الحياة.

في خضم انشغالي في كتابة هذا المقال، تلقيت خبر وفاة نورمان جيراس، مُنظِّر سياسي ومُدّون بارز. لم أكن أعرف جيراس على الصعيد الشخصي، كنت أتابعه فقط على موقع تويتر لمدة عام تقريبًا بعد أن غرّد عن موضوع كتبته على موقع   The Conversation الإلكتروني. بعد وصول خبر وفاته، قمت بتصفح حسابه الشخصي في تويتر مباشرة، ولا أدري ما السبب، كان لدي فضول عارم لقراءة تغريداته الأخيرة، والبحث عن طلبات للأصدقاء والعائلة للتحقق مما إذا كان هاتفه يعمل للتواصل معه. لا توجد كلمات أخيرة يصل صداها للأعماق، ولا إشارات تحمل في مضمونها تفسيرات لتصرفات البشر الدرامية. لا يوجد سوى ثرثرة خافتة وفارغة للحياة اليومية.. ثم  كل شي ينتهي بصمت.

لطالما بحث العديد من الأفراد عن طرق لملء هذا الصمت، باستخدام التقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي لمواصلة تقديم المحتوى لمستخدم ميت جسديا، وحي يرزق على وسائل التواصل الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، يقدم تطبيق LivesOn خدمة تتيح الاستمرار في إرسال التغريدات بعد وفاة صاحب الحساب في تويتر.  طوّرت وصممّت  وكالة إبداعية وجامعة كوين ماري وجامعة لندن التطبيق لتحليل التغريدات الحالية للمُستخدم والتعلم من تركيبها واستخدام كلمات مُشابهة لإنشاء تغريدات جديدة تشبه شخصية المستخدم. بينما  طوّرت  شركة Virtual Eternity، ومقرها في ألاباما، تجسيدات متحركة للموتى، بحيث يمكن لأحفادهم من الأجيال القادمة التواصل معهم.

حتى الآن، لا تبدو أيًّا من هذه الجهود مثيرًةً للإعجاب، ولكن من المثير للاهتمام أن نرى صناعة صاعدة تقدم للناس الفرصة لتوسيع وكالتهم الرقمية إلى ما بعد موتهم البيولوجي. بعضها بسيط مثل التأكد من توفر المستندات الرئيسية وكلمات المرور لمنفذي الوصايا وأقارب المتوفين، بينما يرسل البعض الآخر رسائل معدة مسبقًا في الوقت الذي يختاره المستخدمون. البعض الآخر يُفضل المواقع التذكارية، وقلة قليلة تستهدف الحياة الآخرة نفسها. تقدم شركة تسمى LifeNaut، ومقرها فيرمونت، خدمة جمع وتخزين جميع البيانات التي تجعلك على طبيعتك. تنص الأسئلة الشائعة عبر موقع LifeNaut الإلكتروني على أن “الهدف طويل المدى للموقع هو اختبار ما إذا كانت تتوفّر قاعدة بيانات شاملة مشبعة بالجوانب الأكثر صلة بشخصية الفرد، وستكون البرامج الذكية المستقبلية قادرة على تكرار وعي الفرد”.

 

لم يتمكن أحد حتى يومنا هذا من جمعها وتنظيمها كإجابة تضم كيانًا ميتافيزيقيًّا صغيرا مثل الروح. بدلاً من ذلك، انتهى بنا الأمر بإيجاد إجابات مُحتملة لا نهائية.

 

في النهاية، لا يهم مدى جودة هذه الخدمات أو سوءُها، إذ تذكّرنا أنه بغض النظر عن تجسيدنا لهوياتنا عبر الإنترنت ، فإن شكل البقاء الذي  تقدّمه  لا يريح أنفسنا أو يريحنا على الإطلاق. قد يكون من المُطمئِن أن أعرف أنه عندما أموت، ستتلقى زوجتي رسالة بكل كلمات المرور لحساباتي، وسيحصل أعدائي اللدودين على رسائل بريد إلكتروني سيئة للغاية. قد يكون من الجيد أن أعرف أن أصدقائي وعائلتي سيكون لهم صوتي ليذكروني، وذلك بفضل شركةRemembered Voices  ومقرها نيو هامبشاير، أو صوري التي لا تنتهي على فيسبوك – ومثل ما خلصت إيلين كاسكيت، عالمة النفس بجامعة لندن متروبوليتان، في مقالها “الوجود نحو الموت في العصر الرقمي” (2011)، أن الناس يعودون كثيرًا إلى صفحات فيسبوك الخاصة بالموتى كجزء من عملية الحداد.

لكن،  لنعِدْ صياغة ما جاء على لسان  وودي آلن: لا أريد أن أعيش في صفحتي على موقع فيسبوك، أريد أن أعيش في شقتي. كما أشار مارك جونستون في كتابه Surviving Death (2010)، إلى طريقتين للخوف من الموت: الخوف من ألا يكون هناك من ينفذ مشاريعي ويعيش حياتي ، والخوف من أن هذا المجال من الخبرة الذي أبرع فيه الآن ، فإن “ساحة الوجود والعمل” هذه كما قالها جونستون ، لن تكون موجودة بعد الآن.

وقد تجسّد الاختلاف الحقيقي بين تجسيد الذات/ والأنا. قد يتواجد ذاتي في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن لا توجد طريقة تتيح للأنا بأن تسطع على فضاء الإنترنت. ببساطة، لا يوجد شيء يشبه أن تكون ملفًا شخصيًا على فيسبوك، ولا توجد تجربة تويتر أتطلع إليها، وبالتالي لا يمكنني البقاء على قيد الحياة من أجل إرضاء ذاتي.

ومع ذلك، قد أعيش من أجل الآخرين بطريقة ما، لأنه لا تعتمد جميع جوانب هويتي الشخصية على كون جسدي على قيد الحياة للاستمرار. لهذا السبب، على سبيل المثال ، ستظل تهينني من خلال إساءة معاملة جثتي، على الرغم من أنني لم أعد موجودًا بمعنى آخر. لكن لا يمكنني العيش لنفسي. إنه تمييز دقيق، لكنه حاسم للتعامل مع أحد أقدم الأسئلة الفلسفية وأكثرها إلحاحًا: من نحن؟

لقد ذكرتُ آنفًا فشل الفلاسفة في الوصول إلى إجابة واحدة لهذا السؤال. لم يتمكن أحد حتى يومنا هذا من جمعها وتنظيمها كإجابة تضم كيانًا ميتافيزيقيًّا صغيرا مثل الروح. بدلاً من ذلك، انتهى بنا الأمر بإيجاد إجابات مُحتملة لا نهائية: عشرات الطُرق غير الواضحة للعيش. ولكن في ضبابية وسط هذا الارتباك ، يمكننا أخيرًا أن نبصر النور للمضي قدمًا: لسنا مجرد عناصر مادية أو كتلة دماغ أو ذواتٍ أو حيوانات بشرية،  بل ينطوي داخلنا عالم مترابط بمنظور مختلف لا يمكن اختزاله في تصنيف واحد. المهمة الآن هي فهم كيفية تفاعل هذه الكيانات في كيان واحد يمثلنا، وتشير أنماط حياتنا وموتنا الجديدة على الإنترنت أن المهمة قد لا تكون من الأمور التي يمكننا تجنبها.


بقلم: باتريك ستوكس | ترجمة: مريم الغافرية | تدقيق: منال الندابية | المصدر

مريم الغافري

مترجمة وكاتبة محتوى إعلامي. أترجم هنا في مختلف المجالات، والأدب شغفي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى