التاريخ والآثارالعلوم الاجتماعية

أسطورة غير قابلة للغرق

مترجم من اللغة الإنجليزية

يشهد هذا الأسبوع الذكرى المائة لغرق سفينة آر إم إس تايتانك، وهي واحدة من أكثر الكوارث عنفاً في زمن السّلمِ في البحر. قام ريتشارد هاولز مؤلف كتاب “أسطورة التايتانك” باستكشاف الأساطير المختلفة عن أكثر السفن شهرة حول العالم.

Nearer, My God, To Thee was said to be played by the ship’s band as it sank. Illustration for the Toledo News-Bee via Marshall Everett, Story of the Wreck of the Titanic

لا يمكن لأحد أن يقرأ هذا المقال ولم يسمع قط عن سفينة تايتانك أو كيف آلت نهايتها. عندما نفكر في ذلك؛  فإنها حقاً جديرة بالذكر، لم يبقَ أحدٌ على قيد الحياة اليوم ممن عاش تجربة سفينة تايتانك، فجميع الناجين من الكارثة قد ماتوا. أما بالنسبة للبقية فهناك احتمال ضئيل للغاية أن تكون الكارثة قد أثرت عليهم بشكل مباشر، سواءً كان شخصياً أو تاريخياً.

ومع ذلك … ها نحن ذا نحتفل بالذكرى السنوية المائة لغرق السفينة في 15 أبريل 1912 التي ما يزال العالم مليئا بها. وغالباً ما يتردد على مسامعنا “تذكر تايتانك” على الرغم من أنه لا يمكن لأحدنا أن يتذكرها بحذافيرها. ولو سألت الناس سيخبرونك بعض التفاصيل ليس فقط عن الجبل الجليدي بل من المحتمل أيضاً أنهم سيصفون قوارب النجاة و “النساء والأطفال أولاً” والفرقة التي كانت تعزف “إلهي قربني إليك” حتى أودى غرق السفينة أخيراً بفقدان حوالي 1500 شخص ومن ضمنهم القبطان الذي غرق مع سفينته.


لكن الأهم من ذلك كله أنهم سيخبرونك بأنها “السفينة التي لا يمكن أن تغرق” ، وهي أكبر وأجود ما تم بناؤه على الإطلاق وهي أرقى شيء قد غرق في رحلتها الأولى والوحيدة.  فقد قالوا عنها “أن الله نفسه لن يستطيع إغراق هذه السفينة” ولكن في رحلتها الأولى قد تمزقت إرباً إرباً.


هناك شيئان لافتان للنظر حول هذا الموضوع، أولهما استمرار سرد قصة يبلغ عمرها 100 عام، وثانياً؛ العديد من عناصر هذه القصة غير صحيحة. ولكن أبرز هذه الأمور والجديرة بالذكر هو أنه قبل مغادرة السفينة من ساوثامبتون، احتفى الجميع بتايتانك باسم “السفينة غير القابلة للغرق” و لكنها غرقت! إذن كيف نفسر كل هذا؟ الجواب هو أنه بعد مرور 100 عام أصبح غرق تايتانك أسطورة بعد كونه شيئاً تاريخياً.

RMS Titanic and its identical sister ship RMS Olympic under construction at Harland Wolff shipyards, Belfast, ca. 1910


و كما هو شائع فالأسطورة تُعد كذبة أو على الأقل فكرة خاطئة قد ترسخت في ذهن الجميع. ولكن من الناحية الفكرية فإن الأسطورة أكثر تعقيدًا ووحشية من ذلك بكثير. وعلى وجه التفصيل الأسطورة هي  قصة أو مزيج من القصص قد تكون (أو لا تكون) صحيحة تاريخياً ولكنها تحتوي على سلسلة من الحقائق الثقافية المضمنة في شكل سردي. وبهذه الطريقة، قد لا تكون (الحكاية أو المثل) صحيحة بالمعنى الحرفي، ولكن ما زال بإمكاننا القول بأن هناك الكثير من الحقيقة في هذه القصة. وأكثر من ذلك، فإن محتوى القصة يميل على حد سواء لإطراء راوي القصة – وبشكل حاسم – ليصبح العالم العشوائي أكثر منطقية. هذا هو بالضبط الحال مع تايتانك.


عندما ندرس الأساطير من منظور أنثروبولوجي ونستمر في تحويل النظرة العلمية إلى أنفسنا ، يمكننا أن نرى أنفسنا المتغيرة والمختلفة تنعكس في ذلك، في حين أن الأساطير لا تقتصر على الشعوب البعيدة أو الغريبة  أو “البدائية” فقط، و “تايتانك” هي مجرد أسطورة حديثة متطورة نواصل الحديث عنها لأنفسنا. وهي أيضاً قصة متنقلة يتم إعادة صياغتها في مجموعة متنوعة من وسائل الإعلام من الطباعة إلى البطاقات البريدية، والكتب، والموسيقى، والتلفزيون، والإعلان، وألعاب الكمبيوتر. ومع ذلك لا يوجد وسيط يمثل هذا أفضل من الفيلم الروائي.


نموذجياً تتلقى أفلام تايتانك ادعاءات كبيرة عن دقتها، ولكنها في الواقع تفقد طابعها التاريخي. فعلى سبيل المثال كان لدى فيلم تايتانك السيء الذي يُدعى “نازي” في عام 1943 الجرأة على اختراع ووضع ضابط ألماني على متن الطائرة والذي شرع في تقديم تحذيرات قاسية للطاقم البريطاني عن عدم الكفاءة والإهمال في كل شيء. حتمًا كان هو من اكتشف جبل الجليد أولاً وعاش ليعطي أدلة دامغة في التحقيق الرسمي – ولكن ليس قبل أن ينقذ طفلًا صغيرًا من سريره المائي. و عُرض أول  فلم “تايتانك” في هوليوود (1953) لعائلة أمريكية خيالية بالكامل في سعيها لتحقيق قيم الغرب الأوسط المتينة، في حين تم عرض فلم “ليلة للتذكر” في بريطانيا (1958) و كان يدور حول مهارة الملاحة البحرية.


و كان فيلم “إحياء التايتانك” لرئيس المؤسسة الإعلامية لو جراد عام (1980) هو مثال خيالي تمامًا للحرب الباردة. و من ناحية أخرى قدم فيلم “تايتانك” الحائز على العديد من الجوائز لجيمس كاميرون عام 1997 ادعاءات كبيرة عن صحته التاريخية إلا أنه ركز على مجموعة من الشخصيات المخترعة التي ليس لها وجود. ومع ذلك فقد تُركنا مع التوهج الدافئ للإنجازات الشخصية والإمكانيات عبر الطبقات المختلفة ومتعة كوننا فقراء والأهم من هذا فقد تركنا الحب الحقيقي لأجل المال. وإذا أتينا للتلفزيون أخيرًا فإن مسلسل جوليان فيلوز المئوي المصغر للذكرى السنوية “تايتانك” هو مزيج من الشخصيات الحقيقية والخيالية التي تتفاعل كما لو أنه لن يحدث أي شيء مستحيل. وبالطبع فإن الإعداد لهذا الشيء يحمل نكهة مميزة لبريطانيا ليس في عام 1912 وإنما في عام 2012.

Illustration from Sinking of the Titanic, most appalling ocean horror (1912) by Jay Henry Mowbray
Postcard featuring an inset of Mr W Hartley, the ship’s bandmaster whose band apparently played Nearer, My God, To Thee as the ship sank


عندما ندرس العروض الثقافية الشعبية لتايتانك في أي وسط قريب فإننا نرى قيم الثقافة والعصر والمجتمع التي تترك انطباعا واضحا، فعلى سبيل المثال تكشف دراسة تايتانك في الثقافة الشعبية البريطانية من عام 1912 إلى بداية الحرب العالمية الأولى ، يرجع إدراك الإدوارديين وفهمهم عن العرق والدين والطبقة والجنس للكابتن عندما احتفل ببهجة و آخر جملة قالها لطاقمه “كن بريطانيًا!” (ولكن لم يتم التحقق من هذا تاريخياً).
هذه اللقطات التاريخية ذات قيمة هائلة لعالم الاجتماع الثقافي، أما بالنسبة لعلم العلامات والرموز فإن العلاقة المرنة تظهر بطبيعتها بين الدال والمدلول، حيث تغرق سفينة تايتانك باستمرار في الخيال الشعبي، لكن القيم التي تسير معها تبقى لفترة طويلة وتختلف وفقاً لوجهات النظر خاصةً ورواةَ الحكاية حسب الزمان والمكان.


الأمثلة الفردية يُكشف عنها بشكل منفرد بينما تم ذكر هيكل علماء الأنثروبولوجيا مثل كلود ليفي شتراوس من أجل الحصول على شرح مفصل لأسطورة يجب علينا أن نتعامل معها كمركب ونحن بحاجة إلى جميع النُسخ لمكونات هذا المركب. فبالإضافة إلى الاختلافات الخاصة و المحلية ، يجب أن نرجع خطوة للوراء و نتجرد من عواطفنا و نُقيّم المواضيع العالمية. إن ما يُبقي أسطورة تايتانك متماسكة للآن هي فكرة أنها و بالرغم من كونها السفينة “غير القابلة للغرق” فقد غرقت و في رحلتها “الأولى”. ولا تكتمل أي نسخة من الأسطورة بدون هذا المُكون الأساسي، وهو مُكون سيكون أكثر من مألوف لطلاب الأساطير الكلاسيكية كإعادة لصياغة المواضيع الإغريقية في (هبريس (الكبرياء) و(نيمسيز(الانتقام)، وهم آلهة في الأساطير الإغريقية.


في الأساطير الإغريقية، يعتبر هبريس فخرًا – نوع من الأشخاص الذي يتفاخرون  بالتعالي على الإله. هذا هو الحال عندما يسعى الإنسان إلى التغلب على الطبيعة التي هي أحد أفعال الآلهة. حيث نرى بروميثيوس المميت يسرق سر النار من زيوس ، ويهرب إيكاروس من روابط الأرض عن طريق الطيران بأجنحة الشمع، لذا وبسرعة فائقة نرى نتائج هذه الغطرسة هو الانتقام لأن الآلهة ذوو انتقام. وينقر كبد بروميثيوس نسر بشكل يومي ، بينما يطير إيكاروس بالقرب من الشمس و يذوب جناحاه فيسقط في البحر.

Illustration showing size of Titanic compared to the world’s tallest buildings at the time, from Sinking of the Titanic, most appalling ocean horror (1912) by Jay Henry Mowbray


يمكننا أن نتصور إذن العواقب الأسطورية لبناء سفينة والادعاء بأن “الإله نفسه” لا يستطيع أن يغرقها. لذا إن تسمية “تايتانك” كانت تضيف فقط غطرسة للحكاية، وهكذا فإن البطانة “المشؤومة” تجد أصلاً خصمها على أيدي جبل الجليد في رحلتها الأولى والوحيدة. و إن حجم ورفاهية السفينة المُبلّغ عنها تضيفُ قوة معنوية وأهمية للحكاية فقط.


ولكن هنالك نقطة أساسية لا يجب تجاهلها في كل مرة يتم فيها سرد أسطورة التايتانك بشكل جيد وهي أنه لم يُطلق أحد على تايتانك إنها “غير قابلة للغرق” فعلاً إلا بعد غرقها. و في الأصل إن عدم قابلية تايتانك للغرق المزعومة هو اختلاق ثقافي شائع تابع لتقديم حدث أخلاقي – في ما معناه – أنه حدثٌ رهيب ولكنه في نهاية المطاف كان عشوائياً. وبهذه الطريقة أصبحت تايتانك التاريخية أسطورة خلال أيام من غرقها. حيث تلعب الحقائق في هذه الأيام دورًا ثانويًا في المجال الثقافي الحديث.


ولإثبات هذه النقطة؛ يجب أن نتذكر أن تايتانك كانت في الواقع ثاني سفينة من بين ثلاث سفن “شقيقة” مطابقة لها تقريبًا،  حيث تم بناؤها من قِبل شركة “وايت ستار لاين”، و كانت الأولى تُدعى “أولمبيك” التي سبقت تايتانك في الخدمة على نفس الطريق ومع ميزات السلامة نفسها تمامًا مثل أختها الثانية. لكن أولمبيك لم تغرق لذا لم يطلق عليها أبداً “غير قابلة للغرق”. ومن ناحية أخرى،  فإن غرق تيتانك جعل منها أسطورة ، من خلال محاولة “تفسير” هذه الكارثة – التفسير الذي من شأنه أن يضفي لمسة من الكمال للأسلاف الكلاسيكية والثقافية لدينا. وبعد مرور مائة عام على الحادثة، فإن انبهارنا المستمر بتايتانك يذكرنا بأن الأسطورة – خلافاً لتايتانك الفعلية- ما زالت بخير وعلى قيد الحياة حتى يومنا هذا.

Propellers of the Titanic’s sister ship RMS Olympic in drydock, 1911
RMS Titanic prior to painting, and prior to the A-deck promenade’s being enclosed. Photographer: Robert Welsh
Detail from a photo showing the survivors of the Titanic on the rescue ship Carpathia, from the Bain News Service, 1912

 

بقلم | ريتشارد هاولز  | المصدر

ترجمة | زيانة الرقيشي

تدقيق الترجمة | فاطمة الدلالي و مريم الغافري

تدقيق لغوي | أفراح السيابي

زيانة الرقيشي

خريجة ترجمة عن حب من جامعة السلطان قابوس أميل لترجمة النصوص الأدبية ولدي تجارب في الترجمة العلمية والقانونية أسعى لأكون غدا أفضل مما أنا عليه اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى