العلوم الاجتماعيةعلم الإنسان

مالينوفيسكي مؤرِّخًا نفسه عبر الكتابة الأنثروپولوجية

قبل عامٍ من الآن، رأت أعمال برونيسلاف مالينوفسكي – مؤسِّس علم الأنثروپولوجيا الحديث (علم الإنسان الحديث) – النور على النطاق العام في عديد من الدول حول العالم. سبر مايكل و. يونغ أغوار الأزمة الشخصية التي عانى منها عالم الأنثروپولوجيا بولندي الأصل إبان انغماسه في دراسة إثنوغرافية (علم الإنسان التطبيقي) لسكان جزر تروبرياند؛ أي مرحلة انعدام ثقته في نفسه، التي ألمح إليها في يومياته؛ والتي تُعَدُّ التدوينات الأكثر خزيا وصراحةً في تاريخ علم الأنثروپولوجيا الاجتماعي.

نُشِرت في: 22 يناير 2014 م

صورة لبرونيسلاف مالينوفسكي عام ١٩٢٠م تقريبا، عقبَ عودته إلى إنگلترا بعد مهمته الإثنوغرافية الأولى والأهم في جزر تروبرياند

“ليست لي شخصية حقيقية”، بهذه الكلمات المكتوبة في الثامن عشر من يوليو 1918م، اختتم برونيسلاف مالينوفسكي بولندي الأصل – بشكل صادم وغير متوقع-  دفتر يومياته الذي رافقه في مهمته الميدانية في جزر تروبرياند الواقعة شرق غينيا الجديدة. عُثر على هذا الدفتر، ومذكِّرات أخرى عديدة في مكتبه في جامعة ييل، عقبَ وفاته.

كُتبتْ هذه اليوميات باللغة البولندية؛ إذ لم يكن ثمة نية لنشرها رأسًا، بيد أن أرملته نشرت نسخة مترجمة عنها تحت عنوان “يوميَّاتٌ بكل ما لهذه الكلمة من معنى”، بالرغم من معارضة بناته للفكرة، وتحذيرات العديد من زملائه ممن بلغتهم شائعات حول محتواها المثير للجدل.

ربما تكون هذه اليوميَّات الأكثر خزيا وصراحة فاضِحةً من نوعها على مر تاريخ علم الأنثروپولوجيا الاجتماعي.

أبرزت لنا هذه اليوميَّات بما تحويه من صراعات مالينوفسكي الأخلاقية ونزعاته الدوستويڤسكية وتلميحاته الكونرادية ومشاعر حب يكنّها لأمه وشهوته الجنسية المكبوتة نحوها، ومقته للإنسانية وعنصريته، جوانبَ شائنة من شخصيته.

وبعد إماطة اللثام عن نقاط ضعفه الشخصية وتعصُّبه، اتضح أن صورته المهنية كباحث ميداني متعاطف مع الغير يردد بأن شعاره المنهجي “الملاحظة التشاركية” ليست إلا كذبة انطلتْ علينا.

أيْ باختصار، كان نشر تلك اليوميات بمثابة فضيحة ساهمت في تعجيل وقوع كارثة للضمير الأنثروپولوجي الذي تطلع إلى نقلةٍ نوعية في السلوك إبان ما بعد الحداثة.

لم يُرتَقْ هذا الشرخ في سمعة مالينوفسكي إلا بعد انقضاء جيل طلابه، ببزوغ وعيٍ أن هذه اليوميات إنما هي أيقونة أنثروپولوجية تُفضي إلى فهم أفضل لعلاقة الأنثروپولوجيا بعلم النفس والنظرية الانعكاسية الذاتية في علم الأنثروپولوجيا.

يُعَدُّ مالينوفسكي من أهم علماء القرن العشرين ممن تمتعوا بحيوية فائقة وكاريزما، ومؤسِّسًا لعلم الأنثروپولوجيا الاجتماعية في بريطانيا بين الحربين العالميتين. وبمكانته المرموقة هذه وقتئذٍ، سلبَ ألباب مريديه، إذْ عَدُّوهُ مثالًا أعلى في السلوك؛ ومعيارًا لقياس إنجازاتهم.

أحدث مالينوفسكي ثورة في طرق البحث الميداني؛ بالسير على نهج أطلق عليه هو نفسه “المعيار النظري للنظرية الوظيفية”؛ فقد أتى بأسلوب تدوين أنثروپولوجي لم يسبقه أحدٌ إليه، وخاض غمار الكثير من المناظرات الأكاديمية والقضايا العامة.

وعند وفاته عن عمرٍ يناهز الثامنة والخمسين في الولايات المتحدة الأميركية عام 1942 م، أصبح شخصية مثيرة للجدل على النطاق العالمي؛ رحَّالة إنساني كرَّس سنوات حياته الأخيرة في معركة أيديولوجية ضد الاستبداد النازي.

مالينوفسكي مع سكان جزر تروبرياند الأصليين عام ١٩١٨م

ما يزال ذِكرُ مالينوفسكي خالدًا ومُحْتَفىً به بسبب أعماله الإثنوغرافية الكاملة عن سكان جزر تروبرياند، وما تزال كتبه تُطبَع وتُدرَّس وتُنتَقدُ حتى الآن، بل وتُدْرَسُ أنموذجًا للحداثة الأنثروپولوجية.

يتميز أسلوب كتابته الإثنوغرافية بالوصف الحيِّ، والسَّردِ الذي يسترجع الأمور ويربطها ببعضها، وبمنهجية وصفية وجانبٍ نظري.

وبخلاف ما هو سائد، لم يلتزم مالينوفسكي بالتحَفُّظ الذي دعا إليه العقلانيون بشأن الموضوعية العلمية، وذلك بإدخال نفسه شاهدَ عيانٍ في سرده؛ فالإثنوغرافي في كتبه إنما هي شخصية أجنبية إلى حد ما (“البولندي البدائي” في إحدى صورها) والتي لن تتيح للقارئ بتاتًا نسيان حضورها كمُلاحِظٍ مُشارك في المشهد، بل وكونها المتحدث الوحيد في السياق بأتمه، ومَن يكتبه كذلك.

ظهرتْ شخصية مالينوفسكي الإثنوغرافية – الفضولية والصبورة والمتعاطفة، بل والساخرة مع ذلك – على نحوٍ خجول في أول تقرير إثنوغرافي له “سكانُ مالينو الأصليون (1915 م)”، بيد أنها أصبحت جلية تمامًا في عمله “بالوما (1916 م)؛ مقالة طويلة ومفصلة عن دين التروبرياند.

إن تدخُّل ذات مالينوفسكي المؤلفة موَّهَ الخطَّ الفاصل بين الرحلة الرومانسية والدراسة الإثنوغرافية.

في علم الأنثروپولوجيا، “الكاتب هو مؤرخ نفسه”، وهو يذكرنا بذلك، ويؤنب أولئك الذين ينتجون أعمالا “يطلقون فيها تعميمات كأنما يبيعون بالجملة” بدون وضع القارئ في الصورة عما “كابده الكاتب بالفعل في تجاربه ليصل إلى ما خَلُصَ إليه أخيرًا”.

إن أول دراسة للتروبرياند، والأكثر احتفاءً بها بين أعمال مالينوفسكي هي مغامرو غرب المحيط الهادئ (1922 م)، وهي قصة تُفَصِّلُ في طقوس تبادل الأشياء الثمينة المصنوعة من الصدف لتوطيد علاقة سكان جزيرة تروبرياند بالجماعات الأخرى التي تقطن جزرِ شرقِ غينيا الجديدة. يأخذ المغامرون القراءَ في رحلة بحرية علمية مُثرية بواسطة زورق إلى جزر يُطلَق عليها “حلقة الكولا”. تنضوي مقدمة الكاتب (والتي تعد سِفْرَ التكوين ضمن إنجيل الباحثين الميدانيين) على الصفحات الخمس والعشرين الأكثر تأثيرًا في تاريخ علم الأنثروپولوجيا الاجتماعي.

شارع القرية في كاسان، من كتاب “مغامرو غرب المحيط الهادئ (١٩٢٢م)”
مشهد لوليمة سنوية ضخمة على شاطئ سيلو سيلو، من كتاب “مغامرو غرب المحيط الهادي(١٩٢٢م)”

عزم مالينوفسكي على النهوض بمجال البحث الميداني الإثنوغرافي وتصييرهِ مهنةً فنيةً. فجوهر الأمر برمته – كما أكَّدَ – دراسةَ “ثقافة العشيرة من كل النواحي”؛ إذ لا فرق بين ما هو سائد أو مُضْجِرٍ أو اعتيادي، وبين ما يبدو استثنائيًا أو مدْهِشًا أو عظيمًا. ومهمة الباحث الإثنوغرافي الرئيسة أن يراقب العادات اليومية في الأوساط الاجتماعية ويصفها كما هي، وأن يحاول الحصول على تبريرٍ لتلك التصرفات من الناس أنفسهم.

إن الهدف الأسمى لعلم الأنثروپولوجيا الاجتماعية أو الثقافية، إنما هو تسخير المعرفة بأساليب الحياة الأخرى للاهتداء إلى الحكمة، لعلَّ ذلك يمنحنا ولو لوهلة فرصة الولوج إلى روح البشري البدائي، ورؤية العالم الخارجي عبر عينيه، وأن يختلج في داخلنا شعورٌ شبيه بما ينبغي أن يُحِسَّه هو لكونه هو، إلا أن هدفنا في نهاية المطاف، أن نُثري نظرتنا لعالمنا نحن ونجعلها أعمق، وأن نفهم طبيعتنا؛ لنشذِّبها على الصعيدين: الفكري، والفني.

لا يتمخض عن الإلمام بأُفُقِ الآخرين الجوهرية حتى الخاصة بأولئك البدائيين -مع احترامها وفهمها التام- من ناحيتنا عدا توسُّع آفاقنا نحن.

وبعَدِّهِ مشروعًا تنويريًا، يجب أن يتأتى عن علم الإنسان “تسامحٌ ومروءةٌ مستمدان من فهم لوجهات نظر الآخرين”.

عرَّف مالينوفسكي “الهدف الأسمى” للباحث الإثنوغرافي على أنه: “تقصٍ لوجهات نظر السكان الأصليين، وربطها بالحياة، ليستوعبَ الباحثُ منظوره الخاص نحو العالم.”

عقب إصداره “المغامرون“، نشر مالينوفسكي الجريمة والعُرف في المجتمع البدائي (1926 م)، وهو كتاب صغير الحجم، لكنه غير مسبوق؛ إذ يصف طريقة تطبيق “القانون” والحفاظ على “النظام” في جزر تروبرياند عبر فرض العقوبات، ومن بينها: التهديد بالسحر. إن نظرته الثاقبة فيما يخص تطبيق مبدأ “الجزاء من جنس العمل”، في التبادلات اليومية وابتكاره فكرة رفع القضايا، كانا بمثابة حجر الأساس لعلم الأنثروپولوجيا القانونية.

أما كتابه الجنس والكبت في المجتمع البدائي (1927 م) فهو يتصادم مع اعتقاد فرويد بأن عقدة أوديب النفسية شائعة على نطاق عالمي. أشار مالينوفسكي إلى أن نظام الأمومة في التروبرياند يقضي بأن السلطة بيد خال الابن، أكثر من والده، واعتبار الأخت أيقونة للرغبة في المحارم. ومع أن فرويد لم يتطرق لهذا التفسير، إلا أن مالينوفسكي بدأ مناظرة لمَّا تنتهِ بعد.

الحياة الجنسية للبدائيين (1929 م) هو كتاب يتناول حياة العائلة لسكان جزر التروبرياند بصورة مطوَّلة ومفصَّلة؛ أي كل ما يتعلق بالتودد والزواج والطلاق والحمل والولادة. يسهب فيه مالينوفسكي في وصفه للسلوك الجنسي -بما في ذلك المصور في التراث الشعبي والمستمد من وحي الخيال- إلا أن الرقابة المفروضة على الكتب ضيَّقتْ الخِنَاق عليه؛ إذ ولسنين عديدة ظلَّ هذا الكتاب يُغلَّف بقماش الفسكوز ويُخبَّأ تحتَ مناضد المكتبات؛ لأنه يعدُّ هادمًا للحشمة المنَادى بها في أواخر الحقبة الڤيكتورية أيامَ محاربة الإباحية آنذاك، وبما أن الأعراف تتغير بمرور الزمن، عُدَّ هذا الكتاب فيما بعد نداءً للتحرر بمعية أعمال برتراند راسل وألدوس هاكسلي وديڤد هربرت لورنس.

 ولا داعٍ للذكر بأن كتابه هذا هو باكورة الدراسات حول الجنس في حياة البشر والعوامل الاجتماعية التي تقولبه والثقافية كذلك.

تفاصيل مأخوذة من الصفحتين: ٣٤٠-٣٤١في كتاب مالينوفسكي الحياة الجنسية للبدائيين (١٩٢٩م)، التي تُظهِر نوع الصراحة الجنسية التي صدمت الكثيرين، وأوشكت أن تتسبب بحظر الكتاب.

أما آخر أعمال مالينوفسكي الكلاسيكية عن جزر التروبرياند فهو  حدائق المرجان وسحرها (عددان، 1935 م) الذي يتناول كل ما يتعلق بأنشطة البستنة وطقوس الزينة الخاصة بها وسياسات حيازة الأراضي وأسسها الميثولوجية (البُعْد الأسطوري)، والشاعرية المذهلة للسحر. يُعَدُّ العدد الثاني إسهاما نظريا مهمًا لعلم اللغة الأنثروپولوجي، بيد أنه كان سابقًا لأوانه؛ وهذا ما دفع مُريدو اللغة في أمريكا حينئذ للتصرف إزاءَه ببرود؛ أي جهلهم بعلم الدلالة الذي يتناوله هذا العدد. يعتقد مالينوفسكي بأن عمله هذا هو أفضل أعماله على الإطلاق، وأهداه إلى زوجته المريضة وقتئذٍ، التي ساعدته ليشق خطواته الأولى في مشوار الكتابة، إلا أن إيليز – للأسف – لقيت حتفها قبل نشره بأسابيع قليلة.

استغرق كتابه حدائق المرجان منه وقتًا طويلًا، وكلفه الكثير من الجهد والمال، وعلى الرغم من أن مالينوفسكي عدَّهُ عمله المفضل على الصعيد الشخصي، عدا أنه ارتاب في أمر هذا الكتاب وأنَّ ثمة لعنة حلت عليه؛ إذ بِيعَت منه نُسَخٌ قليلة مقارنة بأعماله الأخرى.

وبالإضافة إلى دراساته المطولة عن التروبرياند، تضمنت أعماله الكاملة عدة أعمال باللغة الإنجليزية، والتي كان لها وزنها وتأثيرها آنذاك بالفعل، إلا أن الحال لم تعد كما كانت عليه.

مُنِح مالينوفسكي الدكتوراه الفخرية في العلوم من جامعة لندن لجهوده التي بذلها في أطروحته الأسرة في حياة سكان أستراليا الأصليين (بالإضافة لتقريره عن ماليو).

كان ثمة أربعة كتب قيد التحضير عندما لقيَ مالينوفسكي أجله، وقد نُشِرتْ بعدئذٍ: الحرية والحضارة (1944) والنظرية العلمية للثقافة ومقالات أخرى (1944) وديناميكية التغير الثقافي (1945) ونظام الاقتصاد في السوق المكسيكي (عمل مشترك مع خوليو دي لا فوينتي) (1982).

لا يسعنا هنا ذكر ما نُشِرَ من كتب مالينوفسكي الكثيرة، ولا سلاسل محاضراته أو مقالاته أو دراساته -الأكاديمية منها والعامة- ولا أن نُعَدِّدَ كتبه عن التروبرياند التي خطط لها ثم عدل عن كتابتها، أو المناهج الدراسية المتعلقة بعلم الأنثروپولوجيا التي انتوى إكمالها وتعاقد من أجلها مع عدَّةِ ناشرين.

مما يخوِّلنا للقول بأنه لو عاش مدة أطول، لأنتج بلا شك أعمالًا فارقة أخرى، وأردف مجده الراهن البرَّاق بمجدٍ أعظم.

دعونا نسترجع ذلك اليوم المشؤوم في جزر التروبرياند، 18 يوليو 1918م، الذي كتب فيه مالينوفسكي الفصل الأخير ليومياته.

 ما فحوى تقريعه لنفسه على ذلك النحو؟

كانت لديه أسباب جمة ليستحسن نفسه في حال تنبأنا بما سيؤول إليه؛ فأعماله التأسيسية في مجال البحث الميداني كانت على وشك الاكتمال، وبالتالي طريقه ممهد إلى مهنته التالية، كان ليغادر غينيا الجديدة بعد فترة وجيزة عائدًا إلى أستراليا بكنزٍ إثنوغرافي ( “مُحَمَلًا بعتاده؛ جَمَل على سبيل المثال”، ويومياته أيضًا)، ولربما يتزوج بخطيبته إيليز ماسون، وحالما تنتهي الحرب في أوروبا، قد يعود إلى إنگلترا ليحظى بوظيفة مرموقة في كلية لندن للاقتصاد بعَدِّه عالمًا وكاتبًا ومُدَرِّسًا وناقِدًا ومؤسسا لمدرسة الأنثروپولوجيا الحديثة. لماذا إذن؟ تحسَّر قائلا إنه عديم شخصية؟

صورة فوتوغرافية لمالينوفسكي حوالي عام 1930. المصدر

لا يجب الخوض في الإجابة على هذا السؤال إلا بفهم إشارة مالينوفسكي المنهجية ومراجعةِ سياق الموقف الذي وجد نفسه فيه ساعةَ كتابته للفصل الأخير. قبل ذلك بخمسة أسابيع، بلغته أنباء – بعد انقطاعِ عدة شهور – عن وفاة أمه الحبيبة في كراكوف القَصِيَّة، فتته الألم وشعرَ بالذنب، وانزلق في “حالة من عدم الاستقرار الذهني”؛ إذ أحسَّ بأنه “منفصل” تمامًا عن العالم حوله. وبعدها بأسابيع قليلة، تعرض لصفعة أخرى؛ فقد ورده مكتوبٌ من نينا ستيرلنغ – حبيبته السابقة وربةُ إلهامه في إديليد – التي صاحبها لأكثر من عام، دون أن تكون لديه الجرأة المعنوية الكافية ليصرِّح لها بحبه لإيليز ماسون؛ المرأة التي طلب يدها للزواج.

لا بُد أن نينا قد اكتشفت خيانته، وكاتبته لإنهاء “صداقتهما”. كُشِف الغطاء عن “افتقاره للشخصية والجدير باللعن”. “أشعر بأنني بهيمة، وغير جدير بصداقة أحد، ناهيك عن أن أُحَبَّ حتى”، كتب إلى إيليز.

كِلتا المرأتين كانتا ابنتا عالِمَينِ بارزَين ونبيلين، وشكَّل مالينوفسكي معهنَّ ثالوثَ حبٍ خَشِيَ بشدة أن يتسبب له بفضيحة تُدمِّر مسيرته المهنية.

عضَّ أصابعه ندمًا على ما فعله بِنِينا أضعاف ندمه على وفاة أمه، ولهذا ساءَ حاله. “راودتني أحلام مُحزِنة ذات ليلة، كتلك التي مررت بها في طفولتي… كل شيء حدثتني به نفسي وأنا مع أمي“.

يُعد الفصل الأخير من يومياته– أكثر من صفحة بقليل – عمومًا تأملًا في الفقد والموت، وهو مكتظٌ بذكريات طفولته البولندية ومُدَرِّسيه في كراكوف وأقاربه في وارسو علاوة على ذكرياته مع أمه وقضائه للمساء الأخير لهما معًا في لندن مع عشيقته عوضًا عنها. يبدو فناؤه الآن ممكنا. “أن ألحقَ بأمي، وأصبح عدمًا مثلها”. إلا أنه للحظة ما، أحس بأن شعوره ذاك ليس إلا موتَ شيء بداخله فقط.

كتبَ: “لدي طموحات ورغبات كفيلة بجعلي أتمسك بالحياة جيدًا؛ لربما أحظى بالمتعة والسعادة والنجاح والرضى الوظيفي”.

كان آخر ما دونه مالينوفسكي عن طفولته وأمه وأبيه (الذي مات عندما كان صبيًّا ولم يأتِ على ذكره في اليوميات برمتها عدا هذه المرة). وكتب عن آخرين أيضًا ممن “اختفوا” من حياته: عشيقته السابقة آني (التي تسكن جنوب إفريقيا الآن) وصديقه المفضل ستاس وتكيويز (قضى في حربِ وارسو) وصديقته التي زجرته نينا (في بيتها في إديليد).

جملته تلك كانت خُلاصةَ تجربته الفاشلة لبناء ذاته . “تعوزني شخصية حقيقية”

ما الذي عناه مالينوفسكي بـ”ـشخصية”؟

في أحدث رسائله إلى إيليز ماسون، أخبرها بأنه لا يمكن أن يستغني أبدًا عن كرَّاس يوميات يرافقه؛ فقد جعله ذلك يراقب ضميره وشخصيته بصورة يومية، ومكنه من ضبط مزاجه والتحكم بهفواته الأخلاقية على نحو أفضل.

كتبَ: “أظن بأن “شخصية” قد تُعرَّف بأنها “ثبات الذات الحقيقية نفسها بداخل الشخص نفسه”.

أضحى احتفاظه بكرَّاسِ اليوميات تجربةً لتحليل ذاته على نحو متقطع على مدى عقدٍ من الزمن، إذْ بدأتْ في جزر الكناري، ثم ها هي الآن تبلغ خط نهايتها. لقد دوَّن يومياته لينقِّب عن مكنونات عقله وليواسي شخصيته وليذكر نفسه يوميًّا بما أراد أن يكون: شخصٌ كُفْءٌ وسليم وذو عزيمة ومثالي. إلا أن اليوميات صوَّرتْ رجلًا متشظيًا تمامًا ومُجَزَّأ، ورهينةً لاندفاعه ومزاجه العارضْ.

ما أنقذ هذه الصورة المثيرة للشفقة هو صدق الكاتب الدائم؛ ليس لديه أي أسرار يخفيها عن نفسه، واستطاع في النهاية تقبل تعذُّر عثوره على هوية خاصة به، وكل المستحيلات التي تلي ذلك بعد ما صرَّح به فرويد.

وبهذا نخلُص إلى أنَّ جملته الختامية تلك إنما هي حُكمٌ أخلاقي ألقاه على نفسه، وهو ما يُمكن أن يُسْتَوْضَحْ من مقولته هذه: “لقد فشلت في استجماع نفسي لخلق ذات متوحدة بجوهر راسخٍ ومُستقل. إنني تشكيلة من الاحتياجات المتناقضة وجمعٌ من طبائعَ متضادة ومجموعُ رغبات وشهوات؛ بعضها دنيء وبعضها رفيع، لكن ليس أيًا منها ثابتٌ أو حقيقي. في النهاية، أنا محضُ إنسان”.


بقلم: مايكل و. يونغ | ترجمة: آلاء الراشدية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى