حافظ الشيرازي: الشاعر الصوفي الذي يمكنه أن يفضي بك لحياة أفضل
ليست قصائد الشاعر الفارسي “حافظ” الذي عاش في القرن الرابع عشر رائعة فحسب، بل هي أيضًا نافعة. بإمكان حافظ أن يعلمنا كيف نصل إلى أقصى مستطاع في حياتنا، كتب دانيل لادنسكي.
شمس الدين محمد حافظ (1320-1389) أحد أكثر الشعراء الفرس المحبوبين، يعتبره الكثيرون –من مختلف الثقافات- أحد عجائب الدنيا في الأدب. يشترك في هذا الرأي كل من رالف والدو أمرسون ويوهان والفغانغ فون غوته. إذ قال عنه أمرسون: “إنه لا يخشى شيء، إنه يرى بعيدًا جدًا، إنه يسبر الأغوار وكمثل هذا الرجل فقط أتمنى أن أرى أو أكون.”
كما امتدحه أمرسون بمقولته الشهيرة: “حافظ هو شاعر الشعراء.”
حافظ ليس له نظير –غوته
كما نالت قصائد حافظ إعجاب شخصيات بارزة مختلفة مثل نيتشه وآرثر كونان دويل الذي اقتبس من قصائد حافظ وجعلها على لسان شخصيته الرائعة شارلك هولمز، وتأثر يوهانس براهمس جدًا بأبيات حافظ واستخدم العديد من أبياته في مقطوعاته الموسيقية، كما قيل أنه حتى الملكة فكتوريا لجأت لكتب حافظ في وقت الحاجة لتستقي منها النصح والإرشاد الروحي وكان ذلك عرفًا امتد لعدة قرون في المسائل المتعلقة بالشرق الأوسط.
بقي “فأل/ديوان حافظ” تقليدًا قديمًا يلجأ إليه القراء طلبًا للنصح عند مواجهة الصعاب أو عند عبور أي مرحلة مهمة وتعامل كتبه كما لو كانت وحيًا مُقدسًا يفتحونه راجين من أعماق أرواحهم أن يجدوا فيها النصح والإرشاد.
صورة: حافظ
بلاطة خزفية –على الأرجح أنها رسمت بعد عدة سنوات من وفاته- تظهر شبيهًا للشاعر حافظ (المصدر: دي أوجستيني Getty Images)
في الحقيقة، قصائد حافظ الصوفية مذهلة ومثيرة للجدل في بعض الأوقات.
أنا ثقبٌ في ناي
تعبر منه أنفاس المسيح
أنصت لتلك الموسيقى
ويقول في قصيدة أخرى:
انظر للابتسامة التي تتلألأ على شفاه الأرض هذا الصباح
فقد نامت معي مرةً أخرى ليلةَ الأمس
أرى أن حافظ معلم فريد من نوعه؛ إذ أنه يجيد منحنا القدرة على الانتفاع بجمال الضياء والشمس والأبعد من ذلك القدرة على الانتفاع بجمال الفن. شعره ينثر الخير ويبعث الراحة والحياة والأمل للنفوس المتعبة. هو كذلك الفن لا بد أن يكون كالحبيب، ضياءً للروح، يمنحك الدفئ متى ما أحسست بالبرودة. لابد للفن من أن يروي عطش روحك، ويُذهب سغبها. وبدراسة حياوات والغوص في بحور أشعار الرومي Rumi ومايكلأنجلو Michelangelo وسانت فرانسيس St Francis وكبير Kabir ومارا Mira وحافظ Hafiz وغيرهم من الشعراء العظماء الآخرين من الشرق والغرب عرفت أن هناك قاسمًا مشتركًا رائعًا بين أعمالهم ساعدني على تكوين تعريف للفن من ثلاث كلمات أعتقد أنها مقياس النجاح الحقيقي لأي قصيدة أو كتاب. حدث وإن انغمست فيه بما في ذلك قصائدي. وفي حين رأى أمريسون حافظ مقياسًا حقيقيًا لنفسه في جميع تجلياتها، أنا أيضًا أحرص على أن أبقي حافظ أمامي في جميع تعاملاتي سواءً مع البشر أو الحيوانات أو المخلوقات وحتى النباتات. ومثلما يُصَب الماء على الثوب لتنقيته من الشوائب، كذلك أشعار حافظ وصوره تَنسكبُ على نفسي.
في لحظة الانغمار
تلك الكلمات الثلاثة التي جسَّدها حافظ، والتي استلهمتها من دراسة حيوات وأعمال أولائك العظماء الذين ذكرتهم من قبل تمثل تعريف مهم لدور الفن وهي المعيار الذي التزم به وتتمثل في:الإثارة والعطاء.
صورة: من المجموعة الشعرية للشاعر حافظ “القرن 19).
تُظّهِر الصورة الشاعر حافظ وهو يعرض مجموعة من قصائده على أحدهم ليرعاه أدبيًا “المصدر: ويكيبيديا”.
تكمن أعظم ميزة وقيمة للفن في أنه يأسر انتباه الشخص ويؤثر فيه؛ فعندما يفعل بنا جمال الفن ذلك، فالشاهد أو المتلقي دومًا يجني الفائدة. وكما قال حافظ:
وجه الجبل أخذني أعلى من ذُرَاه
وغمزةُ أُغنيةٍ وحدتني بالفرح
فعرفت ترانيم الفردوس
الغابةُ التي تركتني أمشي بين أطرافها العارية
أركعتني بخشوع مرةً أخرى
هاتفًا: نعم، نعم صديقتي المقدسة
دعي روعتك تلتهمني
عندما يثار شعورك بواسطة معلم حقيقي مثل حافظ، يعني ذلك أنه يغذى ذهنك بعناصر دائمة والتي عندما تنضج بالتأمل تفضي بنا إلى حياة أفضل.
أن تثير اهتمام وشغف شخص ما يعني أن تبث فيه الحياة واليقظة. ومع ما نمر به في كثير من الأحيان من معاناة وألم على حوادث الماضي، أو ما يجتاحنا من قلق بشأن المستقبل، فما أروع أن تتحول تلك اللحظات إلى هدية، بالأخص إذا دسها الفن كجوهرة ثمينة في جيبك بخفة بواسطة ضربة فرشاة، أو عمل كتابي، أو منحوتة، أو معزوفة موسيقية، أو خطوة في رقصة باليه. يُمكّننا حافظ من العثور على الكنوز المكنونة بداخلنا أصلًا، المنقوشة فيها منذ ولادتنا، وهو يتحدث عن ذلك بصراحة في بعض قصائده، – فيعلمنا كيف ننتزع حقوقنا!؟
مذاق خمر السماء
نشرت لحافظ حوالي 700 قصيدة مترجمة في 6 كتب، وكان الدافع وراء كل سطر كتبته لحافظ هو أن أشعل شمعة في قلبك أنت عزيزي القارئ، أن أشبع حاجتنا الغريزية للمتعة، بأن نضحك ونرقص، “أن ادفع ثغرك للتبسم.”
فالعبئ الذي نحمله فوق طاقتنا في ساعة أو يوم، يأتي حافظ ليرفعه عنا. حبه لنا أزلي، جُرِبَ طويلًا، يشجعنا دومًا ومصدر إلهام لنا. يساعدنا حافظ على الصفح عن أولائك الذين لم نغفر لهم بعد. ونقدر أولائك الذين لم نقدرهم بعد. ويمكن لقوة حافظ الخارقة وبصيرته الملهمة أن تزيح عنك كل قسوةٍ حتى أنت نفسك ستتمنى أو بالأحرى ستكتشف أنك غير قادر على أن تؤذي أحدًا بصوتٍ أو بحركة. حتى قيل أن حافظ في حياته أصبح غير قادر على الإتيان بأي فعل جائر.
يتوق حافظ إلى مساعدتنا على الوصول إلى أسمى الجوانب فينا والتي بدورها ستحرك بقية الجوانب الأخرى.
بمئات الطرق، يرشدنا حافظ إلى ما يعيقنا عن التمكن من عيش حياة مجيدة. وبالاستعارات الفريدة الرائعة التي يُمطِرُ بها شعره من الألف إلى الياء، يتوق حافظ إلى الوصول بنا إلى أسمى ما فينا، لتتحرك كل الأجزاء الأخرى فينا إلى مكان ما يمكننا التنفس فيه بسهولةٍ وارتياح حتى نقول: “آه! هذا العالم ليس بالسوء الذي اعتقد، بل بالعكس من ذلك –إنه مذهل.”
صورة: قبر حافظ في شيراز، إيران
(المصدر: Getty Images)
يقول حافظ:
إن لم تنثنِ ركبتيك الواقفتين
من نشوةِ حجابٍ يُزاح
إن لم تطفر دمعة الامتنان الغالية مترنمةً من عينيك.
إن لم يمكنك ما تلمسه راحة يدك من كشف الأسرار الدفينة.
الجأ إلى شعري، كلماتي زاخرة بالأسرار الذهبية ولن يستعصي عليك فك شفرتها، ستزيح عنك أي خوف وسقم.
وكذلك، فإن معظم قصائد حافظ تتمحور بالضبط حول تحرير الحواس من المآسي والآلام، وتعزيز الإرادة، من أجل أن نمنح أنفسنا فرصة لنستلذ بمذاق خمر السماء، إنه يساعدنا على أن نحتضن بحنان –سواءً في خيالاتنا، أو بأيدينا- الأشياء التي نعشقها لتكون بمثابة أثمن غذاء لأرواحنا، باختصار: حافظ يطلق العنان لأجنحة أرواحنا الزمردية للتحليق عاليًا.
قصص عن المعلم العظيم
وتبادرت لذهني قصتان عن حافظ أخبرني بهما معلمي، وهاتين القصتين تظهر لنا مرة أخرى مدى عظمة حافظ وبالنسبة لي، تظهر مدى قدرته المذهلة التي لا تضاهى أبدًا قدرته في التأثير والعطاء باستمرار، وإلهام الناس بإبداع.
تحكي لنا وتقول القصة الأولى في يوم ما أتت امرأة إلى حافظ وقالت:
“ما هو دليل معرفة الله؟”
صمت حافظ طويلًا، ووقف جامدًا لقرابة دقيقة، ناظرًا إلى عين المرأة بحب وحنان بعدها نطق برقة:
عزيزتي، هم أولائك الذين أسقطوا السكين من أيديهم، من يعرف الله ذلك الذي يترك السكين التي يغمدها البعض غالبًا في ذواتهم الرقيقة أو يشهرونها في وجوه الآخرين..
أما القصة الثانية فهي تحاكي الشهوة الحسية وهي جزء مهم في الديناميكية البشرية التي يتبناها حافظ بشكل كبير، ويرى أن الجسد وكل رغباته غالبًا ما يستخدمها كنقطة انطلاقة للوصول إلى الجنة ورويت القصة على النحو الآتي: “في إحدى المرات جاء طالب جامعي من إحدى الدول وهو جاد، أو بالأحرى جادً كثيرًا، وطلب من حافظ الأذن شخصيًا بأن يسمح له بترجمة بعض قصائده في كتيب، فقال لحافظ: “ما هي الصفات الأساسية في قصائدك التي ينبغي علي أن أضمنها في ترجمتي حتى أجعلها صادقة وأصيلة؟”
ارتسمت على وجه حافظ ابتسامة، ووضع يده على كتف الطالب وقال: هل فعلًا تريد أن تعرف؟، فأجاب الطالب “بكل تأكيد” “حسنًا” بدأ حافظ مواصلا إجابته:
قصائدي ترفع جانبي الثغر ثغر الروح، وثغر القلب وتنسل داخل كل ثغر ينساب إليه الحب.
وكما هي الحياة المذهلة دومًا، هدية الشمس والأرض وجوهر عطائهما، كذلك يمكن للشاعر أو الفنان أن يشارك في ذلك في بعض الأحيان، ويمنح جمال شعره وفنه لأي إنسان مفعم بشغف جامح تجاه أمر ما أو ذلك الذي يمكن أن يضحي بنفسه من أجل قضيةٍ ساميةٍ أو من أجل مثل عليا.
ومثل الطبيعة والفن يمكن للعقل الذي يدرك جميع الأشكال أن يكون جزءً من ذات مطلقة فيتعامل معها جميعًا باحترام. تمتد قدسية حافظ من حكمتهِ ورأفتهِ العميقة، وربما يمكننا استشعار غمرته الحانية من خلال روحه الحاضرة، وتقودنا لآلئ الحكمة المنثورة على فسيفساء الوعي المستنير الموجودة في شعره إلى الوعي الذاتي، والقوة والحرية. إن عبقرية حافظ المرحة التي تستأثر بقارئه تجعل قراءة قصائده أشبه بالوقوف أمام منجم ذهب. إن من يحتضن كتب حافظ بحب وشغف، هو من يعرف طريقه إلى الرومانسية الرائعة.
بقلم : دانييل لادنسكي | المصدر