عن العيش بتناغم: عندما يتسق العالم الداخلي مع الخارج
تعرفتُ إلى فكرة التناغم لأول مرة في مادة علم النفس خلال دراستي في الثانوية. *عُرّفت حينها* على أنها حالة اتساق وتطابق بين العالم الخارجي- أي الكلمات والأفعال ولغة الجسد، مع الداخل -أي الأفكار والمشاعر والأحاسيس- وإذا ما حدث عكس ذلك يمكن القول بأنك لست منسجماً مع ذاتك. ولعل المثال الأقرب إلى ذلك عندما يسألك أحدهم “كيف حالك؟” وتجيبه بابتسامة مُزيفة وكلمة “بخير” على الرغم من أنك تمر بيوم سيء للغاية، وتشعر وكأن العالم يتهاوى أمامك.
يملك كل فرد منا مستويات مختلفة من التناغم، ودائماً ما نصادف مواقف تستدعي منا ألا نتواءم مع ما يحدث في العالم الخارجي وأن نخفي ما يحوم بدواخلنا. فمثلاً، من المرجح ألا نخبر مستثمرًا محتملا بأنه لا ينال إعجابنا بسبب رائحة عطره السيئة، أو سيحمل الأمر تبعات سلبية.
قناع نرتديه جميعاً
لكل منا قناع مسرحي (Persona) وفقاً لرأي عالم النفس كارل غوستاف يونغ، تلك الشخصية التي نقدمها للعالم، والتي لا يشير وجودها إلى أي مشكلات تتعلق بالصحة النفسية. ومع ذلك تظهر المشكلة عندما نتماهى تماماً مع ذلك القناع، حتى أمام الأصدقاء والأشخاص المقربين، ونفقد القدرة على معرفة ذواتنا الحقيقية. عندما يحدث ذلك، نبدأ بفقدان القدرة على الاختيار الواعي لما نعبّر عنه ونظهر به للعالم، وينتهي بنا الأمر بالعيش في وجود ضحل، وفي حالة شبه آلية.
منشأ المفهوم
ابتكر كارل روجرز، أحد أبرز علماء النفس الأمريكيين ، مفهوم التناغم النفسي لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي. وقد عرّفه بأنه تطابق بين الخبرة والوعي، بينما عرّف غياب التناغم النفسي على أنه استخدام قناع أو واجهة مزيفة كمحاولة لإخفاء مشاعر المرء الحقيقية. شدد روجرز بالتحديد على أهمية وجود التناغم لدى المعالج النفسي، وهذا يُعد منعطفاً عن نموذج “اللوح الفارغ” الذي كان يستخدمه المحللون النفسيون الفرويديون في ذلك الوقت. اعتقد روجرز أن المعالجين الذين اختبأوا وراء ستار الاحترافية لم يكونوا حقيقيين، وبالتالي هم غير قادرين على توفير معطيات مثل الدفء والتواصل الإنساني، وهي مكونات مهمة للشفاء النفسي في منظور روجرز.
لا يمكننا التخفي بشكل مقنع
وفقًا لدراسةً أجراها الباحث ألبرت محربيين، تشكل لغة الجسد 55 بالمائة من التواصل لدى الفرد، ونبرة الصوت 38 بالمائة، فيما يتبقى فقط 7 بالمائة من التواصل يكون بالكلمات. كما، وأوضح الباحث أن الفرد يواجه العديد من التحديات في فهم وممارسة التواصل الجسدي ونبرة الصوت، ويتطلب الكثير من الوعي يتجاوز اختياراتنا للكلمات. ولا شك بأن التلاعب بلغة الجسد ونبرة الصوت أصعب من تقصُّد اختيار الكلمات، بمعنى آخر يجد الصوت والجسد صعوبة في عدم الصدق. لعلك تعرف هذا الشعور المضحك الذي ينتابك عندما يقول لك أحدهم شيئاً، وتشعر بأنه كلامه لا يضيف لك أي شيء، هذا جزء مما هو موجود بالداخل، ويظهر عبر مكونات أكبر من لغة الجسد ونبرة الصوت. في الواقع معظمنا ليس بارعاً في خداع الآخرين بأن شخصيتنا الظاهرية حقيقية تماماً، ولكننا نعيش ضمن ثقافة تدعم كثيراً تصنيع شخصية ظاهرية (Persona) محكمة البناء. إذن ما الذي يحدث هنا؟ لماذا ننفق جميعاً كثيراً من الوقت والجهد لنكون غير متناغمين نفسياً، ونشعر بالاستياء، بينما يمكن للآخرين ببساطة أن يعرفوا بأن ما نظهره ليس الحقيقة الكاملة؟ لعل التخمين الأدق هنا هو أنه على الرغم من أن معظمنا يشعر بالفعل عندما يتواصل معه الآخر بشكل غير متناغم، إلا أننا دربنا أنفسنا على تجاهل هذه الحقيقة، والتماهي مع الصورة الظاهرية على أية حال.
نعيش في مجتمع يفضل على الأغلب إجابات زائفة منمقة على قول الواقع لتفادي أي عوائق أو مشاكل قد تحدث، متجاهلين أن هذا سيسهم في بناء تناقضات .
إحساس مؤلم.. وينبغي أن يكون كذلك
إن الشعور بالارتباك حيال ما تريده حقًا أو تشعر به، ووجود إحساس عميق بالعزلة والإرهاق ، كلها علامات على أنك قد تعيش في حالة من عدم التناغم النفسي. هذه المشاعر المزعجة هي علامة تحذير على وجود خطأ ما. قد تعني بأنك لست على اتصال مع جزء كبير من ذاتك الحقيقية، أو قد تعني أنك تخشى من إظهار ما بداخلك للآخرين خوفًا من أن يتم الحكم عليك سلباً.
على الرغم من أن التناقض يمنحنا احساساً بالامتعاض إلا أنه يُعد دافعاً نحو التغيير.
يعتقد روجرز أن لدى البشر دافعاً فطرياً ليصبحوا أكثر انسجاماً مع أنفسهم، حتى لو لم تكن حالة الانسجام هذه مدعومة أو حتى آمنة في نطاقاتهم الأسرية. من وجهة نظره؛ التناغم الذاتي هو جزء كبير مما يطلق عليه “تحقيق الذات”، أي ذروة التطور البشري الصحي. يعتقد روجرز أيضاً أنه عندما تكون الذات الحقيقية، والذات المُدرَكة، والذات المثالية كلها في تناغم مع ما يمكن للمرء أن يسميه الذات الأصيلة، فإننا نشعر بإحساس عالٍ بالسلام والوضوح. بالإضافة إلى ذلك ، يمكن للجهد الذي تم توظيفه سابقًا للحفاظ على هذه العناصر منفصلة أن يتجه نحو المزيد من الأنشطة الخلّاقة التي تفيد البشرية جمعاء.
الطريق نحو التناغم الداخلي
لعلك مررت بلحظات شعرت فيها بالاتساق بين كل عناصر كيانك، وهي حالة تشعر فيها بقدرتك على أن تكون صادقاً ومنكشفاً على هويتك الحقيقية دون حُكم على الذات. مع أن الانكشاف على الهشاشة غالباً ما يرتبط بالضعف في ثقافتنا، إلا أن هذه الحالة هي حالة من القوة لأنها تتضمن تقبلاً تاماً، مع عدم الحاجة لإخفاء أي شيء. يعرف البعض هذه الحالة من الاتساق لكنهم لا يعرفون كيفية العودة إليها أو البقاء فيها لمدة أطول.
نحو إدراك وفهم أكثر
على طيف يتقلب باستمرار، بالنسبة لمعظم الناس. إذا كنت مهتمًا بتجربة شعور التناغم الداخلي، وربما باتخاذ خطوات باتجاه ذاتك الأصيلة، فإن ذلك يبدأ بالوعي، وبملاحظة مستوى التناغم الداخلي في المواقف المختلفة، امنح هذا المستوى نسبة مئوية بين صفر ومئة. اختر مواقف عدة تعرف أنه سيكون على الصعب عليك فيها أن تكون متناغماً مع ذاتك، موقف مع زميل صعب المراس في العمل، أو مع والديك. في المرة القادمة التي تواجه فيها هذه المواقف في الأسبوع المقبل. لاحظ ما تشعر به في جسمك عندما تكون في تناغم أعلى. هل تشعر براحة أكبر؟ هل تشعر باسترخاء في جسدك؟ لاحظ بالمقابل كيف تشعر عندما تكون في حالة من التناقض مع ذاتك. أعلم أنني على سبيل المثال أشعر بالتوتر في كتفي، يصبح تنفسي سطحياً، وأشعر بالانفصال عن محيطي والإحباط أو الاستياء. الهدف هنا هو البدء في زيادة وعيك بمستوى التناغم الداخلي، لمعرفة الشعور الذي يولده طيفك الخاص من التناغم.
قضاء بعض الوقت مع الحيوانات
ولعل أفضل طريقة لزيادة وعيك بمستوى التناغم الداخلي هو قضاء الوقت مع الحيوانات وعلى وجه الخصوص الأحصنة، وذلك لأسبابٍ عدة:
تًصنف الخيول بأنها كائنات تملك حسًّا عاليا من الارتباط والإدراك، فهي قادرة على الإحساس بمعدل ضربات قلبك – ودائماً ما تكون صادقة بشأن ذلك. فعلى سبيل المثال، إذا اقتربتَ من حصان في مرعى، فغالبًا ما يظهر فضولًا في البداية ثم يُعلمك بما يفكر ويشعر به تجاهك، على الرغم من أن تواصله قد يختلف عن طريقتك. الشيء الوحيد الذي يبدو أن الخيول لا تحبه كثيرًا هو التناقض وعدم الشفافية. من نواحٍ عديدة، تُعد الخيول أكثر إدراكًا من البشر، وبما أنها لم يتم تدريبها لتجاهل تصوراتها، فإنها تُظهر أنها غير مرتاحة مع شخص يقدم شيئًا بخلاف ما هو حقيقي بالنسبة لهم. الخيول ليس لديها قناع مسرحي (Persona).
للأسباب المذكورة أعلاه، يطغى شعور الخوف للكثير عند الاقتراب من الخيول، تتعدى أسباب ذلك الخوف من حجمها الكبير أو كونها حيوانًا ليعزى ذلك بسبب شعور أنهم مراقبون. نتساءل ، “ماذا لو تمكنوا من رؤية ذاتي الحقيقية؟”. وإني على يقين أننا في رحلة طويلة لمعرفة وإعادة التواصل مع ذواتنا، ونكون انعكاساً مماثلاً لشخصياتنا ومعتقداتنا ومبادئنا. وثق أنه عندما يصهل الحصان ويبتعد عنك، فاعلم أنه قد لمس طيفًا من انعدام التناغم فيك، مما يجعل من الصعب أن يثق بك. و اسمحوا لي أن أقدم لكم مثالا.
تجربة في التناغم الداخلي
كنت في مركز علاجي لمدة أربعة أيام في مزرعة خيول، عملت مع طالب علاج نفسي آخر في المراعي، وأدركت وقتها أنني كنت أشعر بالإحباط الشديد وحتى بالغضب، لكنني كنت خائفًا من التعبير عن ذلك والخيول من حولي، اعتقدت أنه قد يخيفها. اقترح زميلي المعالج أن أحاول على أية حال، في محاكاة للخيول عندما ترفع قوائمها وتطلق صهيلاً عالياً. بعد قيامي بذلك بحماس لمدة خمس عشرة ثانية توقفت ونظرت من حولي، لاحظت أن جميع الخيول العشرين في المرعى كانت تنظر إليَّ مباشرة. لم تكن آذانها مشدودة للخلف، علامة على الخوف أو العدوان، بينما كانت المجموعة تتجه نحوي، أصبحت الخيول ببساطة مدركة لوجودي وفضولية نحوه، ثم بدأ عدد قليل بالمشي. تفاجأت جداً، فقد أفرجت لتوّي عن شيء أعتبره قبيحاً وصاخباً وبغيضاً، إلا أن هذه الحيوانات الجميلة الكبيرة تتجه نحوي الآن بتطلّع. وصلتُ إلى حالة من التناغم الذاتي وهي الآن تريد التماهي مع تلك الحالة. في تلك اللحظة شعرتُ بأني أكثر اتصالاً بالحياة؛ بذاتي وبالعالم من حولي. لم تزدني هذه التجربة ارتباطاً بالخيول وحسب، وإنما بالبشر أيضاً.
بقلم: دان إنتماشر | ترجمة: فاطمة إحسان | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر