الأدب

فهم الشعر أسهل مما تظن

هل تتذكر -كما أنا أفعل- كيف كنا نعتقد في غرفة الفصل أن القصائد كما لو أنها أشبه بالألغاز؟ ما الذي يحاول أن يقوله الشاعر هنا حقًّا؟ ما موضوع أو مغزى هذه القصيدة؟ ما الذي تعنيه حقًّا كلمة “بنفسجي” أو “وردة” أو “عشب” هنا؟! أصبح الشعر مَطْمُورَ الصيت لِما يتطلب من تدريب وتعليم خاصين لتقديره، تمامًا كالموسيقى الكلاسيكية، ليأخذ القرّاء بعيدًا عن دهشته ويخلق شعورًا لدى أغلبنا بأننا لم ندرس بما يكفي لقراءته.

هذا الموقف واسع الانتشار، ولنأخذ مثالًا واحدًا فقط، كتب هارولد بلوم في مقدمته لكتاب (The Best Poems of the English Language): “يبدأ فن قراءة الشعر بإتقان التشبيه في قصائد معينة، من الأبسط إلى الأكثر تعقيدًا منها”. هذا يبدو معقولًا تمامًا، لكنه خاطئ كليًّا. في فن قراءة الشعر، لا يخطر للقارئ اللحظات التاريخية أو الفلسفات العظيمة وراء القصيدة ، إنما يباشر بقراءة كلمات القصيدة ذاتها.

بقدر استمتاعنا بقراءة (وكتابة) الشعر عندما كنا أطفالاً ، فقد تعلمنا في المدرسة أن الشعر “صعب” بطبيعته، وهذه الطبيعة هي التي تكسب الشعر معنى ضمنيًّا؛ لذا فإن جهودنا في قراءة الشعر تصبح عكس هذا، لكن اتضح أن باب الوصول إلى الدهشة يبدأ من خلال فهم المعنى الحرفي. كوني معلمًا، وجدت أنه بغض النظر عن مدى انفتاح أو مقاومة الطلاب للأدب في البداية، فإن التقدم الحقيقي يبدأ بفهم الكلمات في الصفحة. طلبت من الطلاب اختيار كلمة واحدة مثيرة للاهتمام، ثم التوجه إلى المكتبة والتقصي عن تلك الكلمة.

إن مجرد ممارسة التعمق بأكبر قدرٍ ممكن من الكلمات يدل على أن المعنى والإمكانية يأتيان من هذا الفعل -وليس من البحث عن تفسير- غالبًا ما يكون شخص آخر قد قام به.

يتسم الشعر ببعض الغموض، وهذه المشكلة التي يعاني منها القراء الشباب. يتعمّد العديد من الشعراء الشباب الجدد إضفاء نوع من الغموض في قصائدهم؛ لجعل القصيدة تبدو وكأنها لغز محير. بينما في الجانب الآخر، الشعراء الجيدون لا يتعمدون تعقيد شيء ما فقط لجعله صعب الفهم من قبل القارئ. لسوء الحظ، يتعلم الكثير من القراء الشباب، والشعراء الشباب كذلك، إن هذا بالضبط ما يفعله الشعراء. وهذا بدوره يخلق عادات معينة في كتابة الشعر الحديث المعاصر. تنتج العديد من ردود الأفعال المغالطة عن الشعر بسبب الصور النمطية المنتشرة للشعر الحديث؛ الشعر الذي يحوي بين طياته معلومات سيئة، سينتج عنه شعر سيء. غالبًا ما يستغرق الشعراء وقتًا طويلاً للتخلص من هذه العادات، وبعضهم لا يتخلص منها أبدًا، بل استمروا في الكتابة بهذه الطريقة، غموض متعمّد ومبطّن، لأنه اختصار لكونه غامضا، وهو ما يسمى اعتماد تأثير قصائدهم على المعنى الخفي، مع الاحتفاظ بشيءٍ ما بعيدًا عن القارئ.

لا أعلمُ ماذا يرغب كتّاب القصص والروايات والبحوث في اكتشافه في نهاية المطاف، لكن يمكنني القول أن الشعراء عاجلًا أو آجلًا سيدركون أن لا أفكار جديدة في ذلك، نفس الأفكار القديمة فقط، وليس هنالك محبٌّ للشعر سيقرأ الشعر الغامض ليعجب به، وإنما سيقرأه من أجل التجربة والشعور والفهم بطرق يمكن للشعر أن يستحضرها.

إنني متعاطفٌ مع الشعراء الشباب الذين يشعرون بدافع قوي لإخفاء ما يقولونه. في وقتٍ مبكرٍ من حياتي كشاعر، كانت لديّ كذلك صعوبة لأكون مباشرًا وواضحًا. شعرت بالوعي الذاتي ، وكأنني بحاجة إلى إثبات موهبتي مع الفن في كل سطر. استغرق الأمر وقتًا طويلًا مني للتغلب على هذا الشعور، وبدأت في كتابة الشعر الذي كان يعد جيدًا عندما تخلصت من ذلك الشعور فقط.

وقد رأيت هذا الميول كثيرًا، نوعًا ما، في عمل طلابي. في كثير من الأحيان ، وبدون وعي، سيكتبون شيئًا غامضًا في بداية قصائدهم التي تُظهر، وفقًا لمعاييرهم الخاصة التي يتبنونها، أنهم شعراء، وكما لو أنهم يعرضون مؤهلاتهم الشعرية للتجربة. على سبيل المثال، سيفعلون شيئًا غريبًا ومدمرًا في بناء الجملة، وبعضهم سوف يلقي كلماته في مجموعة من الصور والاستعارات على الفور حتى قبل أن نعرف عما تتحدث القصيدة. غالبًا ما يكون هناك امتناع عن تقديم المعلومات الأساسية نحو -ماذا يجري؟ أين نحن؟ من يتحدث؟ وما إلى ذلك- كما لو أن القيام بذلك، سيؤدي إلى تدمير كل ما هو شاعريّ حول القصيدة. لكن هذا النوع من التقديم السطحي المُربِك لا يكمن في كيفية صنع الشعر العظيم، ولا كيف نقترب أكثر مما يصعب قوله.

واحدة من المتع العظيمة في قراءة الشعر هي أن تشعر بمعاني الكلمات كما تبدو في حياة كل شخص، وكذلك البدء في الانتقال إلى عالم أكثر نشاطًا وكَلفًا. الشعر يشعرنا بأن لغتنا المعتادة لها دلالة، وأنها أكثر حيوية حتى أنها يمكن أن تكون كلمات نبيلة. الكلمات التي نستخدمها في حياتنا اليومية تحمل في طياتها مستودعات عميقة للتاريخ (الشخصي والجماعي) يمكن إحياؤها من خلال قصيدة.

في القصيدة، لا تتغير اللغة ومع ذلك تخلق شعورًا مختلفًا في كل مرة ، حتى لو كانت لغةً قدسية، كما لو أن لكل قصيدة سحرًا خاصًا؛ ليعطي القصيدة معنى أعمق من المقصود. على سبيل الذكر، بعض الكلمات لها وقع بديهي على العقل الباطن، لكن عند التعمق في القصيدة ستجد أن الكلمة سلكت منحى آخر تمامًا غير المخطط لها لتكون مثل المكافأة لكونك شاعرًا أو قارئًا للشعر. من خلال وضع هذه الكلمة في قالب القصيدة، يمكن أن تحيا اللغة مرة أخرى. في موضعٍ ما في كل قصيدة، هناك كلمات تلمع وتضيء، كما لو أنها موصولة بكهرباء، وهذا ما يمكن أن يفعله الشعر بنا وباللغة.

 

بقلم : ماثيو زابرودير | ترجمة : موزة الريامي | تدقيق الترجمة : مريم الغافري | ضبط لغوي : أفراح السيابي | المصدر

موزة الريامي

مُحرّرة ومترجمة، خرّيجة قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس - 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى