دماغُك يتعاطى أدَبًا
قد تبدو قراءة الروايات قيمةٌ غارَ عليها الزمن غورَتَه وشحبت معالم أهميتها في خِضَمِّ النقرات والتنبيهات اللحظية الصادرة عن أجهزتنا الإلكترونية. ولكن حزبًا جديدًا من أنصار قراءة الروايات انبثق من مكان لا يمكن لأحدنا أن يتوقعه: من علم الأعصاب!
تظهر المسوح الحديثة للدماغ البشري تفاصيل دقيقة لما يحدث في أدمغتنا عند قراءة أحد الوصوف المفصلة أو بعض التعبيرات المجازية أو ربما حوارًا تتخلله العاطفة في رواية ما. وتَبين من خلال هذه الدراسة أن للقصص القدرة على تحفيز الدماغ بما يصل إلى تغيير طرق تفكيرنا وتصرُّفنا في مواقف الحياة المختلفة.
وقد وجد الباحثون منذ فترة طويلة أن المناطق التقليدية في الدماغ مثل البروكا ومنطقة وِرنيك تؤثران فعليا في كيفية تفسير أدمغتنا للكلمات المكتوبة. ما زاد على هذا اكتشاف العلماء أن السياق الذي تظهر على شاكلته هذه الكلمات يفعِّل مناطق أكثر في الدماغ مما يفسر الشعور المصاحب للقراءة والموصوف بأن الفرد يشعر أثناءه وكأنه ” على قيد الحياة”. كما إن لعددٍ من الكلمات مثل “الخزامى” و”قرفة” أو “صابون” القدرة على حث مناطق في الدماغ على الاستجابة، ولا تقتصر هذه المناطق على تلك المعنية بمعالجة اللغة، بل الحواس والروائح خاصة.
وفي دراسة نُشرت عام 2006م بمجلة نوروايماج العلمية، طلب عدد من الباحثين في إسبانيا من عينة من الناس قراءة كلمات تتوافق وروائح قوية وأخرى لا ترتبط بموضوع بعينه، بينما كانت أدمغتهم موصلة بأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي تستخدم لتعيين وظائف معينة يؤديها بها العضو المصوِّر (وظيفية). وبينت الصور أن قراءة كلمات مثل “قهوة” و “عطر” باللغة الاسبانية أسهمت في إضاءة منطقة القشرَة الشَّمِّيَّة بينما لم يكن لكلمات مثل “كرسي” أو “مفتاح” التأثير ذاته – إذ ظلت المنطقة مظلمة.
كما أسهبت الدراسات في التعمق في تأثير المجاز على الدماغ؛ زعم عدد من العلماء أن التعابير المتعارف عليها مثل “الحياة حلوة” هي تعابير يتعامل معها الدماغ كونها كلمات غير معقَّدة لشيوعها، ولكن الموازين انقلبت الشهر الماضي عندما نشر فريق من العلماء من جامعة إيموري بالولايات المتحدة تقريرًا بمجلة الدماغ واللغة يشير إلى تأثير التعابير المجازية المتعلقة بالملامس على أدمغة مجموعة من المشاركين في تجربتهم: حيث أن تعابير مثل “صوته مخملي” أو “يديها قطنيتين” تفعِّل القشرة الحسية في الدماغ بينما كانت المعاني الحرفية للجمل نفسها مثل “صوته حسن” أو “يديها ناعمتين” لا تفعِّل المنطقة بالتأثير نفسه.
واكتشف العلماء أن الكلمات التي تصف الحركة تحفز مناطق معينة في الدماغ تختلف عن تلك المعنية باللغة. وفي دراسة بقيادة العالمة فيرونيك بولونجي من مختبر أبحاث ديناميكية اللغات في فرنسا التُقِطت عدة صور لأدمغة المشاركين عند قراءتهم لجمل مثل “التقط جون المجسم” و “ركل بابلو الكرة”. من خلال هذه الصور توصل العلماء إلى أن الصدغ الحركي في الدماغ المعنيَّ بحركة الجسم أصبح نشطًا عندما قرأ الأشخاص تلك الجمل بل، وأصبحت أكثر نشاطًا في المناطق المسؤولة عن أعضاء الجسم المسؤولة عن تلك الحركات مثل الذراع عند الالتقاط والساق عند الركل.
لذا، فيبدو أن الدماغ لا يستطيع التفريق بين القراءة عن تجربة وبين الخوض في غمارها؛ حيث أن مناطق الدماغ المعنيّة تنشط في كلتا الحالتين بصورة متساوية. واقترح الپروفيسور كيث أوتلي – بروفيسور علوم نفس إدراكية بجامعة تورنتو (وكاتب معروف) – أن القراءة قادرة على إنتاج صور حية للواقع بما “يحفِّز أدمغتنا بوصفنا قراء كما تحفِّز البرمجيات الحاسوب.”
لذا فإن الروايات بتفاصيلها الدقيقة وتعابيرها المتخيلة وسردها المتروّي، الشامل لكل وصف يُكتَب وكل فعل يُشاهَد تعطي القارئَ حياةً – أو نسخة مطابقة – أخرى.
فمن جانب، فإن الرواية تتجاوز فعل التحفيز والتنشيط بل وتُلبس القارئَ رداءَ إنسانٍ آخرَ وتُهديه عقلًا وأفكارًا ومشاعرَ أُخر.
وبطبيعة الحال فلا يضاهي الرواية شيء في نقل حياة الإنسان الاجتماعية والعاطفية وتقصِّيها، والدليل الجلل هو ردة فعل الدماغ لوصف الروائح والملامس والحركات كما لو كانت واقعًا؛ فيعامل الدماغ المعاملات بين الشخصيات الخيالية كما لو أنها حوارات واقعية وتجارب اجتماعية حقة.
واستخلص ريموند مار، طبيب نفسي في جامعة يورك بكندا في دراسة نشرها في المجلة العلمية السنوية لعلم النفس بعد تحليل 86 دراسة لمسوحات صور التقطت بأجهزة لتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي – استخلص أن هناك حركة متداخلة في شبكات الدماغ بين الوظائف المختصة بتحليل المواقف الاجتماعية ومحاولة فهم مشاعر الطرف المقابل وأفكاره وفهم القصص والروايات.
ويطلق العلماء مصطلح “نظرية العقل” على قدرة الدماغ على بناء خريطة تشكّلها نوايا الأفراد من حولنا، ولذا يعد السرد المتمثل في الأدب والروايات فرصة لتحريك هذه القدرة أثناء محاولتنا فهم مشاعر الشخصيات من شوق وأسًى، وتخمين نواياهم ودوافعهم وإحصاء أعدائهم من أصدقائهم وجيرانهم من أحبائهم.
وتقول الدراسات إن مثل هذا التمرين يشحذ مهاراتنا الاجتماعية على أرض الواقع؛ فقد اكتشف الدكتور أوتلي والدكتور مار وآخرون في دراستين نشرتا عامي 2006م و2009م أن الأفراد المداومين على قراءة الروايات قادرون على تفهّم الآخرين بصورة أفضل والتعاطف معهم ورؤية الأمور من منظور مخالف لمنظورهم، وقد أكدت هذه النتيجة دراسات أخرى ذات صلة استخلصت أن الأشخاص ذوي الحس المرهف قد يميلون أكثر لقراءة الروايات. وفي عام 2010م، وجد الدكتور مار أن الأطفال في عمر ما قبل المدرسة الذين قرؤوا قصصا أكثر من أقرانهم كانوا متمكنين أكثر من تطبيق نظرية العقل، كما أن التأثير ذاته ظهر على الأطفال الذين يشاهدون الأفلام بكثرة – وليس أولئك الذين يشاهدون التلفاز فحسب (وذلك لأن الدكتور مار يفترض أن معظم الأطفال يشاهدون التلفاز بمفردهم ولكن يصحبهم أولياء أمورهم إلى دور العرض معًا مما يعرضهم لفرصة “حوار الأهل مع الأبناء حول الحالات النفسية المختلفة” فيما يتعلق بمحتوى الأفلام).
ويقول الدكتور أوتلي أن الروايات “أداة مفيدة لمحاكاة الواقع لأن مواجهة المواقف الاجتماعية في حياتنا ليس بالأمر السهل ويتطلب أن نمتلك باعًا من الحكمة في موازنة سببية ونتاج التداخلات المختلفة في الموقف الواحد؛ فكما تساعدنا المحاكيات الافتراضية على حل المسائل المعقدة مثل قيادة طائرة بكفاءة أو التنبؤ بالطقس، فإن الروايات والقصص والمسرحيات قادرة على مساعدتنا على مواجهة مواقف الحياة المعقدة.”
وتؤكد هذه الخلاصة على مكنونات خواطر عدد كبير من القراء الذين ساعدتهم الروايات وأنارت دروبهم في مواجهة مسألة متعبة بالتصرف مثل إدوارد كازوبون أو من خلال مقارنة أنفسهم بشخصية امرأة يافعة مثل إليزابيث بينيت.
خلاصة القول أن قراءة الدرر من الأدب العالمي تجعل منا كائنات بشرية أفضل وأكبر على عدد من الأصعدة، وهذا ليس بزعم متخيل بل بشهادة علوم الدماغ، حليفنا الأحدث!
بقلم: آني ميرفي پـول | ترجمة: سحر عثماني | تدقيق: عهود المخيني | المصدر