وفيك انطوى العالم الأكبر
إن قضية حرية الإرادة هي حجر العثرة الأساسي فيما يتعلق بالتصور المادي للوعي. يميل الإنسان العصري المطّلع إلى الشعور برفض المفهوم الصوفي اللامادي للروح الأبدية نظير فهمٍ علمي بحت للوعي والذات بما أنه ينشأ من مليارات الخلايا العصبية في أدمغتنا مع مليارات من وصلاتها العصبية والعمليات الكيميائية والكهربائية المعقدة، غير أن حقيقة وجودنا المادي البحت، ومن ثم خضوعنا لقوانين النتيجة والسبب يقودنا إلى القلق من احتمالية أن تكون حياتنا مُسيَّرة كليًا. هل يمكن أن تكون تجربتنا في اتخاذ القرار – انطباعنا حول صنع القرارات، بل وجود قرارات لاتخاذها والتي تكون صارمة أحيانًا- محض أوهام؟ هل يمكن أن تدفعنا العمليات الطبيعية في أجسادنا وعقولنا إلى التصرف بالشكل الذي نقوم به، أيا كانت العملية التي مررنا بها؟
في حديثٍ لي مع ريكاردو مانزوتي – أستاذ الفلسفة النظرية بالجامعة الحرة للغات والاتصالات بميلانو تطرقنا لنظريته هوية العقل والجسد، وهي فرضية تنص على أن الموضع المادي للوعي ليس في الدماغ وخلاياه العصبية. تنص نظرية مانزوتي على أن العقل لا يعالج المعلومات القادمة من الحواس من أجل إنشاء وصف وهمي للواقع الخارجي الذي لا يمكنه التعرف عليه إطلاقًا (وهي الفرضية التي يدعمها معظم علماء الأعصاب والعديد من الفلاسفة)، بدلًا من ذلك يُتيح اتصال الجسد (بما في ذلك الدماغ والحواس بالطبع) بالكون أن يكون العالم موجودًا بطريقة ما ليصبح عنصرًا مرتبطًا بالجسد. إن هذا الوجود وهذا العنصر المرتبط بالجسد هو ما نطلق عليه الإدراك والوعي وهو يبقى تحديدًا في مكانه أي خارج أجسادنا . إن معرفتنا وعقلنا هما عبارة عن الكون المرتبط بأجسادنا. ولا ترتبط “الذات” بالعقل ولا بالجسد على نحو أوسع، إنما ترتبط بمعرفتنا التجريبية المتمثلة في الكون المتصل بأجسادنا.
على كلٍ إذا كان هذا هو الحال، إذا كانت الذات والموضوع أو بالأحرى العقل والعنصر المرتبط هما الأمر ذاته في معرفتنا التجريبية، ألا يجعل هذا الأمر تفسير انطباعنا تجاه حرية الإرادة أكثر تعقيدًا ؟ أليس وعينا لحظة بلحظة باتخاذ القرارات هو على وجه التحديد ما يثبت أننا أشخاص مستقلون وذوو سيادة نمضي في عالم من الأشياء التي تظل مختلفة تمامًا عنا ونحن نسعى إلى السيطرة عليها؟
تِيم باركس: ريكاردو، كيف يمكننا أن نقرر دائما القيام بأمر ما بدلًا من آخر، أو النظر فقط إلى شيء ما بدلًا من غيره إذا كان العقل والوعي هما الشيء ذاته مثلما ذكرت؟
ريكاردو مانزوتي: السؤال هو: عندما نختار القيام بأمر ما، هل يمكننا في الواقع فعل غير ذلك الأمر؟
باركس: بالطبع يمكننا ذلك، مثلا أنا متأكد تمامًا أنه كان بإمكاني أن أجيب على سؤالك بصورة مختلفة.
مانزوتي: هل تستطيع فعل ذلك حقًا؟ إذا أُعيد الكون للحظة، بالنظر إلى أفكارك ومشاعرك وظروفك، هل ستغير شيء؟ وإذا فعلت، لماذا قد تفعل ذلك وأنت هو ذاتك تمامًا؟ إذا فعلت شيئًا مختلفًا بالطبع ستكون مختلفًا، فالأفكار والمشاعر وما إلى ذلك لن تكون هي ذاتها. لذلك قد يكون السؤال المناسب هو: من نكون حين نختار القيام بأمر ما؟ وما مسوغات أفعالنا؟
باركس: حسنًا، يخبرنا العلم السائد أننا في الأساس عبارة عن عقولنا. ألم يقل عالم الأحياء البريطاني فرانسيس كريك (1916-2004) إننا لسنا سوى خلايانا العصبية وما تقوم به من عمليات؟ يدعي عالم الأعصاب الأمريكي ديـڤـد إيجلمان في كتابه The Brain: The Story of You (2015) أن: “ماهيتك تعتمد على ما تفعله خلاياك العصبية لحظة بلحظة”.
مانزوتي: صحيح. إن كريك والعديد من علماء الأعصاب الآخرين مقتنعون بأننا خلايا عصبية وأن هذه الخلايا العصبية والتي هي بالطبع عناصر فيزيائية تحدد قراراتنا بطريقة ما. المشكلة هي أنه عندما نستخدم المجاهر الحديثة لرؤية الخلايا العصبية لن نجد دليل على أنها هي من يتحكم بقراراتنا، كل ما نراه هو مرور الشحنات الكهربائية والتغيرات الكيميائية المعقدة. يعزو بعض الناس السبب وراء اقترافهم للذنوب إلى مادة الرمادية؛ حيث كانوا في الماضي يلقون اللوم إما على الشيطان أو القدر. أوضح إيجلمان في الكتاب الذي ذكرته بشيء من القناعة كيف أن رجلًا انغمس في إطلاق النار، مما أسفر عن مقتل 13 شخصًا مباشرة على حد قوله بسبب ورم دماغي صغير “بحجم النيكل” حيث ضغط على اللوزة وأدى إلى اضطراب جميع الخلايا العصبية هناك. نلقي اللوم في هذا السيناريو على مجموعة من الخلايا، لكن من الصعب مواءمة هذا مع تجاربنا الفعلية في الواقع وأفعالنا. لا نشعر بأن خلايانا العصبية هي هوياتنا، ولكننا نشعر بأننا مسؤولون عما نفعله، لذلك مرة أخرى: ما هي ماهيتُنا؟
باركس: ألاحظ أنه عندما أقول إن لدي انطباعًا غريزيًا قويًا عن شيء ما فإنك تضع تجربتي موضع شك. لكن عندما يقول عالم أعصاب أننا خلايا عصبية فإنك تلجأ إلى الغريزة والخبرة لإنكارها.
مانزوتي: يمكن أن تشكل معرفتنا نقطة الانطلاق. نملك هذا الانطباع أو ذاك، حسنًا فلنختبره علميًا كريك ليس لديه خبرة ولا علم عندما يدعي أننا خلايا عصبية. لا تقدم معرفتنا دليلاً على أننا عبارة عن خلايانا العصبية، ورغم سنوات البحث إلا أنه لم يُثبت ذلك.
باركس: أنا متأكد من أن علماء الأعصاب سيختلفون معك. ألم يبرهن مثلا العالِم الأمريكي بنيامين ليبت (1916-2007) منذ أمد بعيد بعد الثمانينات على أن أدمغتنا تستبق معرفتنا المدروسة في اتخاذ قرار بفعل شيء ما؟ عندما نضغط على زر مثلا هناك نشاط عصبي على وشك القيام بهذا الأمر بقدر ثانية أو ثانيتين قبل أن نتمكن من الإبلاغ عن “قرار الضغط عليه”.
مانزوتي: بالتأكيد. في الحقيقة أكدت الأبحاث الحديثة التي أجراها عالم الأعصاب الإدراكي باتريك هاغارد في جامعة كوليدج لندن والتي أجراها – بشكل مستقل – جون ديلان هاينز في مركز برلين لتصوير الأعصاب المتقدم نتائج ليبت. قبل أن ندرك إرادتنا الواعية فإن الخلايا العصبية منشغلة بهذا الشأن. حينما قرر جون فجأة تقبيل ماري، كان عقله قد تهيأ لذلك الأمر بالفعل.
نحن متطابقون مع معرفتنا وليس مع عقولنا أو أجسادنا
باركس: لكن بلا شك هذا يؤكد ادعاء عالم الأعصاب بأننا خلايا عصبية؛ لأن الخلايا العصبية هي التي تلقي الأوامر.
مانزوتي: مطلقًا. أنت تستبعد أمرًا مهمًا. في حالة الضغط على الزر على سبيل المثال قد تكون نسيت الزر، بينما في حالة قُبلة جون قد تكون نسيت شفتي ماري. أنت تتحدث كما لو أن الدماغ منفصل تمامًا عن العالم الخارجي لأجسادنا. آمل أن نكون قد أثبتنا في محادثاتنا السابقة أن الأشياء التي أصبحت معرفتنا ليست “مطلقة” بل “نسبية” ؛ تبقى هذه الأشياء مثلما عرفناها لأن أجسادنا ببنيتها العرضية لنظامه الإدراكي ينحتها من كتلة الذرات والفوتونات من حولها. يتعلق العنصر بجسمنا سواء كان زرًا على وشك الضغط عليه أو فم على وشك تقبيله وعلى هذا النحو فقط تكون معرفتنا. نحن متماثلون مع معرفتنا وليس مع عقولنا أو أجسادنا.
باركس: أعتذر، أعلم أننا أسهبنا في الحديث عن فكرتك حول الهوية بين العنصر والمعرفة؛ لكني لم أدرك كيف يمكن لهذا أن يفسر القيام بتصرف ما. لا تقل لي بأن الزر هو من يقرر أن يتم الضغط عليه أم لا إذا كان الأمر يتعلق بالزر، أما بالنسبة لماري فيمكنها أن تصفع جون على وجهه عندما يهم بتقبيلها.
مانزوتي: لنتناول مثالًا أبسط لأننا الآن لا نملك أي فكرة عما قد يؤدي إليه الضغط على هذا الزر، بينما يتضمن التقبيل بالطبع جسد وعقل آخرين.
باركس: أؤيد الأمثلة البسيطة.
مانزوتي: حسنًا. عندما أرى سيارة جديدة جذابة وأقرر شرائها، ما الدافع وراء قراري يا تُرى؟ ألا يمكن أن تكون السيارة نفسها؟ لماذا يجب أن أعرض كيانًا وسيطًا بين السيارة وما يفعله جسدي؟ لماذا لا نتخيل بدلاً من ذلك سلسلة سببية طبيعية تمامًا؟
باركس: لا يمكنني تصور أن شراء سيارة بهذه البساطة. هذا أمر باهظ التكلفة، إنه كابوس بالنسبة لي، عندما أضطر إلى شراء سيارة يصيبني الأرق وأنا أعدد إيجابيات وسلبيات الأمر.
مانزوتي: لا يشتري المرء سيارة كل يوم. أنت على حق. هناك العديد من العوامل المتضمنة. طريقك إلى العمل، ميزانيتك، نوع الطرق التي تسير عليها، لكن كل هذه الأشياء خارجية بالنسبة لجسدك وكما قلنا فهي موجودة مرتبطة به. معًا يشكلان الشيء المركب النسبي الذي يمثل معرفتك ألا وهي السيارة. فلماذا لا تكون تجربة السيارة هذه وليس الخلايا العصبية هي التي تحدد قرارك؟ في نهاية المطاف لا يمكنك أن تقرر شراء السيارة إذا لم تكن موجودة أولاً وإذا لم تكن بطريقة ما جزءًا من معرفتك – جزء منك – حتى لو كان ذلك فقط من خلال المجلات أو أحاديث الآخرين.
بشكل عام ماذا يمكن أن نعني بالضمير “أنا” إذا لم يكن مصدر الأفعال التي تبدر من جسدي؟ مثلما يحدث أن يتفق علماء الأعصاب على أنني يجب أن أكون الشيء الذي هو مصدر أفعالي، ويحددون هذا الشيء الذي يسبب الأفعال أنه في الدماغ وهو الخلايا العصبية. لكن الخلايا العصبية لا تشكل منطلق السلسلة السببية، فنشاطها ناتج عن شيء آخر وهو: العالم الخارجي. إذا عدنا لتتبع أي نشاط عصبي بواسطة وحداتها ومحاورها و نقاط الاشتباك العصبي فإننا ننتهي عاجلاً أم آجلاً عند الدماغ من خلال أعضاء الإحساس لدينا ونجد أنفسنا حتمًا خارج الجسد حيث العالم الخارجي، حيث توجد معرفتنا التجريبي، حيث نكون نحن معرفتنا.
باركس: حسنًا، يسهل قبول فكرة أن أي عنصر أنجذب إليه قد يكون له دور ما في اتخاذي قراري لشرائه أو الحصول عليه، لكن ألسنا نردد ببساطة مُسَلّمَة ستيف جوبز بأن الناس لا يعرفون ما يريدون حتى تُظهره لهم؟
مانزوتي: لا نحن بذلك نبتعد كثيرًا عن الموضوع. نقول إن الناس لا يعرفون ماهيتهم حتى تظهرها لهم. بمجرد أن يعرض لنا جهاز iPhone مثلا، يتوق جسدنا فورًا للحصول على هذا العنصر الرائع وذلك عن طريق جهاز الإحساس الخاص بجسدنا. نحن نتغير، نصبح الشيء الذي تسمح حواسنا بوجوده – في هذه الحالة جهاز iPhone، كذلك هو الحال مع كل أهدافنا. عرض الأشياء للناس هو أمر فعّال للغاية ومن هنا جاء عالم الإعلانات!
“كيانك” ليس شبحًا غير مرئي في دماغك بل هو العالم النسبي الذي أتى به جسدك إلى الوجود.
باركس: يتخذ الناس قرارات مختلفة على الرغم من ذلك، أليس كذلك؟ لم أرغب بشراء iPhone، بينما كان نصف العالم يصطف للحصول عليه. اخترت بإرادتي ألا أشتري الجهاز، بالتأكيد هذا لأن عقلي كان يعطي الأوامر بعدم الشراء وليس جهاز الـ iPhone، ليس الأمر كما تدعي بأنه متعلق بالمعرفة. وبالرجوع إلى ليبت حيث لاحظ -كما أذكر- أن الدماغ يمكنه دائمًا تغيير موضعه في الثانية أو مللي ثانية الأخيرة. يمكن أن يغير توجهه، لذلك يتم اتخاذ القرار حينما تكون الخلايا العصبية نشطة.
مانزوتي: ما سبب هذا التغيير المتأخر في النشاط العصبي؟ يوشك جون على تقبيل ماري في الوقت الذي يلمح فيه زوج ماري وهو يخرج من البنك. موقف سيئ. أو ربما يتراجع لأن شيئًا ما في ماضيه المختلف لا يزال يؤثر على أفعاله في الوقت الحالي، أو بسبب بعض القصص التحذيرية التي سمعها عندما كان طفلاً. بالنسبة لي هذا المثال السابق هو مرة أخرى كائن، جزء من العالم الخارجي أصبح ممكن بفضل جسدك. لذا فإن جزءًا واحدًا من العالم يتنافى مع الآخر. أدركت فجأة ما هو كشف حسابي المصرفي الأخير حينما أوشكت على شراء السيارة الأكثر إثارة في العالم. يظل هذا نشاطًا تلقائيًا في رأسي وهو جزء من تجربتي المباشرة. في حالتك شيء ما في الماضي قاوم شراء iPhone. لم يكن له علاقة بدماغك الذي يلقي الأوامر. أنت سبب إقدامك على فعل شيء ما أو التراجع عنه؛ لكن “كيانك” ليس شبحًا غير مرئي في دماغك بل هو العالم النسبي الذي أتى به جسدك إلى الوجود.
باركس: أعتقد أن وجهة نظرك هي أننا دائمًا نفعل ما نرغب به في تلك اللحظة من الموقف، على الرغم من الضغوط الأخرى والتجارب الأخرى التي قد تسيطر على موقف على آخر، وإذا لم نرغب في الشيء فإننا لا نفعله.
مانزوتي: هذا صحيح لكن دعونا لا نتخيل أن هذا يعفينا من مسؤولياتنا، بل هو يكشف ما نحن عليه حقا. نحن السبب وراء الأشياء التي نقوم بها، وأفعالنا هي آثار الأشياء التي نحن عليها. نحن مزيج من التجارب أو الأشياء التي في ظل الظروف السائدة نفعل ما نفعله، إذا كنا نكذب فنحن كذابون، وإذا كنا نحارب فنحن مقاتلون، وإذا كنا نحب فنحن عشاق. يتحدد السبب بواسطة آثاره ‘مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.’
باركس: إنه إنجيل متى 7:16! يبدو أن ذاكرتي الطفولية للكتاب المقدس ما تزال نشطة بصورة تلقائية.
مانزوتي: يا لها من ذاكرة! لكن لاحظ عنصر الإلزامية. لا يمكنك أن تتذكر هذه الآية، فأنت ببساطة ملزم باستحضار تلك الفاكهة، بناءً على ما أنت عليه ابن رجل الدين الإنجيلي. ولاحظ أن هذا النوع من “الحتمية” لا يزعجك؛ لأنه بالفعل ينطبق عليك أنك الشخص الذي تعلّم الكتاب المقدس. لكن إذا أخبرتك أن الخلايا العصبية الخاصة بك قررت أن تتذكر ذلك، فأنت تخشى أن تكون دمية في يد شيء غريب، مادة رمادية غريبة؛ لأنك غير مدرك لخلاياك العصبية. وأنت محق في ذلك مهما بلغت أهمية خلاياك، أنت نتاج تجربتك والتي أعني بها أن العالم أصبح متاحًا بفضل جسدك.
باركس: أين مفهوم حرية الإرادة من هذا كله؟
مانزوتي: غالبًا ما نخلط بين الحرية والتعسف كما لو كانت الحرية هي فعل شيء ما بعشوائية. لكننا فقط أحرار حقًا أو يجدر بنا القول أننا نلعق حريتنا عندما يكون ما نفعله هو التعبير الحتمي لما نحن عليه. عندما يختار أحدهم لأن يصبح شاذ جنسيًا، فهو لا يفعل ذلك برغبة منه، هو يختار ذلك لأنه يشعر أنه يجب عليه أن يفعل، لقد بلغ مرحلة لا يملك فيها خيار، ومع ذلك لا بد أن نقر أن الحرية قد تحققت. الحرية هي أن تكون الشخص ذاته حتى مع نفسك رغم احتشاد المواقف في عالمك. هذا ما نعنيه بالهوية.
ينتج عن التأثير التراكمي اتخاذنا للقرار: ما نفعله يحدد ماهيتنا
باركس: ما زلنا بصدد المسألة التي أثارها ليبت وهي أن النشاط العصبي يتوقع قرارًا مدروسًا.
مانزوتي: يتوافق عمل ليبت وفي الواقع كل علم الأعصاب تمامًا مع النموذج الذي أقترحه. تخيل موقفًا مثل انفجار سد والذي يؤدي إلى وجود شيء جديد ألا وهو الفيضان. من الواضح أن سبب هذا الفيضان ليس فقط انهيار السد إنما الأمطار الغزيرة أو ربما سنوات من التعرية وسوء الصيانة التي سبقت الفيضان. تتأثر الخلايا العصبية لدينا في الدماغ بجميع أنواع الأسباب الخارجية التي نتعرض لها بمرور الوقت، ومن ثم فإن العديد من التجارب المنفصلة تعزز الاستعداد للتصرف، ولكن فقط عندما ينفجر السد أو يتصرف الجسم ينتج عن التأثير التراكمي اتخاذنا للقرار. عند هذه المرحلة ما نفعله هو ما يحدد ماهيتنا.
باركس: أنت تخوض تجربة خارج عقلك كالعادة، بالتالي أنت تشهد تجربة صنع القرار التي أفترض أنك لا تنكرها، ليس كمفاوضات أو حتى صراع بين “شبكة الخلايا العصبية المتحاربة” كما يصفها إيجلمان، إنما كتجمع بين عناصر خارجية متنوعة من الأشياء/التجارب والتي تدفعنا نحو اتخاذ قرارات متعددة.
مانزوتي: لا، ليس تمامًا! هذه الأشياء/التجارب لا تدفعنا نحو اتخاذ قرار، بل هي تمثلنا. هي التي تحفز أجسادنا. إنها السيارة النسبية التي هي تجربتك -وليست سيارة حتمية- هي التي تحفز اليد في النهاية للتوجه نحو المحفظة. إنه العالم المرتبط بأجسادنا، قدراتنا الإدراكية وخبراتنا المتراكمة هذا هو سبب تصرفنا. الوضع معقد ولا يمكن وصفه فقط على أنه عوامل خارجية تحدد كيف نتصرف.
باركس: أنا أدرك ما تقوله: تجربتي التي ليست سوى تراكم كل الأشياء التي واجهها جسدي، تحدد أفعالي في النهاية، لكنني لست مقتنعًا تمامًا. ومشكلتي هي: ليس فقط فيما إذا كنت أملك فكرة عن اتخاذ القرارات أو التفكير أو التصرف فقط، ولكني أعتقد أيضًا أنني أساهم في صنع الموقف. أنا أرى العالم بطريقة معينة.
أملك نظام من الآراء السياسية والتفضيلات الجمالية وما إلى ذلك. لذلك أشعر أنه بدلاً من أن أكون عالمًا من الأشياء التي تجتمع معًا بمرور الوقت لتتخذ قرارًا ما، فإني أملك كيانًا داخليًا يحدد كيفية تنظيم العالم الخارجي. أنا لا أتصرف كنتيجة فقط إنما أقرر كيف أتصرف بشكل متناسق.
مانزوتي: دعني أقدم تشبيهًا لتوضيح المغالطة في تصورك، سنستخدم مثال السيارة، أثناء القيادة تقوم بإدارة المقود حيثُ تدور العجلات الأمامية للمركبة بفضل اقتران معقد ولكن سهل الفهم بين التروس وأعمدة القيادة. هل ثمة شيء غامض بين المقود والعجلتين اللتين تدوران؟ لا يوجد، إنها مجرد سلسلة من الأسباب والنتائج؛ فنظرًا لدوران المقود، تدور العجلات الأمامية.
حسنًا، تخيل الآن كائنًا أكثر تعقيدًا ألا وهو جسم الإنسان. يتحكم المحيط الخارجي بالجسد، ولكن قبل أن يحول الجسد هذا السبب إلى تأثير، قد يحدث أمر أو عدد هائل من الأحداث التلقائية داخل الجسد أو خارجه. علاوة على ذلك، وعلى عكس السيارة التي تظل عنصرًا ثابتًا حتى بعد خروجها من المصنع، فإن جسدك الرائع قد يتغير استجابة للعالم فهو منفتح على مبدأ الغائية، لذلك على سبيل المثال حينما ترى وجهًا للمرة الثانية فإن الأمر يختلف عن المرة الأولى؛ لأن المرة الأولى ما تزال نشطة تلقائيا في دماغك وبالتالي نملك حس التعرف على الوجه. لذلك في حالة هذا الكائن المعقد بشكل لا يمكن تصوره وهو الجسد، لا يمكننا تخيل السلسلة السببية الكاملة التي تسبق التصرف (كانت هذه الملاحظة المفضلة لباروخ سبينوزا) وبالتالي لا يمكننا التنبؤ بالقرار الذي سيتم اتخاذه. نلجأ إلى إيجاد كيان وسيط بسبب الاستحالة المفاهيمية، إن هذا الوسيط هي الذات حيث ننسب إليها القوة السببية. نقول أنا أو نفسي تسببت في حدوث أمر ما، لكن مثلما قال ديفيد هيوم: نحن لا نواجه أو نرى ذاتنا، نحن نواجه الأفكار أو الأشياء كما أود أن أقول. إن الذات هو الكيان الوسيط المراوغ الذي يتسبب في الأحداث كما أنه الاختصار والابتكار المناسب لشرح تجربتنا المعقدة.
باركس: لنخلص بعد ذلك على النحو الذي تراه مناسبًا: المعرفة والعقل هما العالم المرتبط بالجسد، ولكن العالم أو الذات المتراكم على مر السنين، والذي يستمر في التصرف طويلًا حتى اللحظة وهو ما يخلق تراكمات دائمة التغير ومعقدة بحيث يصبح من المستحيل التنبؤ بكيفية التصرف عند التعرض لموقف جديد أو تجربة جديدة. كما أن كل المخاوف التي نواجهها والتي نطلق عليها اتخاذ القرار أو ممارسة حرية الإرادة هو التطور المستمر لهذه التراكمات من العالم والذي هو أنفسنا.
مانزوتي: صحيح. ولن تشعر بالغربة لكونك تحت رحمة عالم مادي أعمى، ففيك انطوى العالم.
باركس: لست واثقًا تمامًا من أن هذا أفضل، لكنه بالتأكيد يستحق التركيز عليه.
بقلم: تِيم باركس | ترجمة: جهينة اليعربية | تدقيق: آلاء الراشدية | المصدر