الفنان الياباني شيورا أوباتا، عزاءات الطبيعة، والبحث عن الجمال في وجه الحرب والاضطهاد
احترفت أنامل شيورا أوباتا الفن منذ نعومة أظافره (18 نوفمبر 1885 – 06 أكتوبر 1975)، إذ تمرّس في الرسم بالطريقة اليابانية التقليدية المُعتمدة على الحبر، والتي تُسمّى بـ “السومي”. في سن الرابعة عشرة، وحين بدأت عائلة أوباتا بتجهيز ابنها لإرساله لخدمة الجيش، تسلل شيورا خيفة من دفء منزله، هاربًا نحو الشمال، قاطعًا أربعمائة ميل نحو طوكيو الملاذ والأمان. في العاصمة اليابانية، لازم أوباتا أحد الرسّامين المعروفين في تلك الحقبة وتتلمذ على يديه لمدة 3 سنوات. قبل يوم ميلاده الثامن عشر بأيامٍ معدودة، هاجر أوباتا إلى الولايات المُتحدة ليستقر في مدينة سان فرانسيسكو ويعمل خادمًا في أحد المنازل الأمريكية، ويُكمل دراسته في مجال الفن في الوقت ذاته. بدأ أوباتا بتوفير لقمة العيش من خلال الرسم لمجلات وصُحف يابانية، ولكن الحلم الأمريكي لم يتمخض بعد آنذاك، وذهبت محاولاته للنجاة أدراج الرياح جراء العُنصرية التي مارسها الأمريكان ضد اليابانيين حينها. كان اليابانيون منبوذين اجتماعيًا، ممنوعين من دخول المطاعم والفنادق ودور الترفيه، ولا يحق لهم امتلاك الأراضي، ويتلقوّن ألوان العداء والقمع والقهر الاجتماعي.
ومن يعلم؟ ربما كانت تلك الوحشية البشرية المُمارسة ضِد بشرٍ من أمثالهم السبب في انكفاء أوباتا إلى الطبيعة. ربما كانت السبب في أن يرق قلبه لغيرِ البشر، ليتوغّل في أعماق الطبيعة وما تحويه من جمالٍ وسلام، بعيدًا عن عالم البشر الغارق في الحروب والآلام، ليحمل قلبه في فرشاته وينزوي نحو عالمٍ لا يشوبه أي آدمي.
في رحلته الأولى إلى منطقة هاي سييرا في عام 1927، كتب أوباتا إلى زوجته هاروكو عن “أزهار جميلة تتفتّح في قلب مجرى من المياه المُتجمّدة”، وقال:
أشعر بامتنان عظيم
أمضى أوباتا أغلب عشرينات القرن الماضي في السفر، مُقتنصًا جمال طبيعة كاليفورنيا الفسيفسائي، خلجانها وشواطئها وجبالها وغاباتها ذات الخشب القرمزي. ونستطيع أن نستشف من أعماله الفنيّة البارعة توظيفه لمزيج من التقنيات التقليدية اليابانية وعدم التزامه بمدرسة فنّية مُعيّنة.
على مشارف نهاية عقد العشرينات، بدأت أعماله تستقطب اهتمام العامة، وفي عام 1928 حظي بفرصة لعرض أعماله الفنيّة في معرض خاص به بسان فرانسيسكو. في ذلك المعرض الذي ضم حفنة من أعماله الفنية على مدى عشرين عامًا، سطع نجم أوباتا الفنان وليد المدرسة الفنية الكاليفورنية للرسم بالألوان المائية، ما فتح له باب التاريخ بإعادة تشكيل الفن الأمريكي خلال القرن العشرين.
ومع ذلك، لم تشفع له موهبته النادرة ولا مكانته في المجال الإبداعي ولا حتى تعيينه مدرسًا للفنون في جامعة يو سي بيركلي؛ إذ لاحقته العنصرية اللاذعة في البلد التي اتخذ منها موطنًا له. في ديسمبر من عام 1941، بعد حادثة تفجير بيرل هاربور التاريخية، قام بعض السُكان المحليين بإطلاق النار على مستودع الفن الخاص بأوباتا وزوجته في مدينة بيركلي. بعد سلسلة من التنمّر والتهديدات والمُضايقات المُستمرة، قرر الزوجان إغلاق المستودع وإلغاء حصص الفن الشهيرة التي كانا يُقدمانها للمُجتمع الصغير بالمدينة. وفي الربيع، تم اعتقاله في إحدى مخيمات كاليفورنيا لليابانيين الأمريكان، وهناك أسس مدرسة فنية يمولها بنفسه، وساعده على إرساء دعائمها تبرعات أصدقائه بالجامعة. بحلول الصيف، كان هُنالك ستمائة طالب فن أبدعوا في صُنع لوحات فنّية مُذهلة، عُرضَت في معارض خارج المُخيم، مقاومةً لشبح العُنصرية، عابرةً بالفن نحو آفاقٍ لا تطولها أيادي الحروب الشائكة.
بعد الحرب العالمية الثانية، قام الزوجان بشراء منزل بالقُرب من مستودع الفن القديم، وعاد أوباتا للعمل بجامعة يو سي بيركلي، وتقاعد منها عام 1953 برتبة بروفيسور فخري. وفي السنة التالية، مُنِحَ الجنسية الأمريكية.
اختزل أوباتا حياته الفنيّة في هذه الأسطر:
إن هدفي الأسمى هو أن أصنع وعاءً تغمره البهجة، صافٍ كالسماء، نقيًا كبتلات الكرز المُتساقطة، لا يشوبه القلق ولا الظن. في فحواه تكمن طاقة خفيّة وأبدية، وطريق تؤدي إلى الفن
حينما كان شابًا، شهد أوباتا حادثة زلزال سان فرانسيسكو المُدمّر في عام 1906، وهي تجربة بجّلت في نفسه قوة الطبيعة والعظمة المُهيبة لجيولوجية الأرض. واقعًا تحت تأثير هذه التجربة، مفتونًا بالطبيعة وسحرها الصارخ، سافر أوباتا في عام 1927 إلى حديقة يوزمايت الوطنية للمرة الأولى، مُبدعًا في رسم 100 لوحة فنيّة بالفرشاة والحبر. كان أوباتا مأخوذا بيوزمايت، مفتونًا بتفاصيلها النابضة بالحياة، ما جعله يعود مرارًا إليها، مُنتجًا بذلك سلسلة من اللوحات الفنيّة الجميلة، والتي جُمِعَت في كتاب “يوزمايت بَعَيْنَي أوباتا: أعمال فنيّة ورسائل من رحلته إلى هاي سييرا في 1927” (المكتبة العامة).
كتب أوباتا لزوجته رسائل شاعرية عن يوزمايت، واصفًا جلال الطبيعة وخيالها العذب وكرمها المعطاء وسلامها الأبدي، في انفعالات قصائدية على شكل كلماتٍ وحروف:
إن السُرعة التي يتحرّك بها الكون مُفاجِئة، ولا تُقارن بصخب طائرة ليندبرغ تعبر الأطلسي . إنني في مكانٍ غريبٍ ومُدهش، مكان كان بالأمس مُغطىً بالثلوج التي تصل إلى رُكبتي، وفي نفس المكان أرى اليوم نوعًا جديدًا من الأزهار تتفتّح مُبتسمة. ومع مرور يومٍ آخر، أرى عُمقًا جديدًا لزُرقة السماء، وتتطاير فوق رأسي خيالاتٌ وأحلامٌ مع كُل إشراقةٍ جديدة للشمس
وفي إحدى رسائله، يُثير أوباتا ذات المشاعر التي تعتري المرء حينما يقرأ “ابتهاجات السماء جنوب الغربية” لجورجيا أوكِيف٫ إذ يقول:
يقف جبل لييل شامخًا بطول 13,650 قدما، مُغطىً بالثلوج البرّاقة، مُطلًا على قِمم سييرا وتيوجا، وجبل دانا، وراجد، جونسون، ويونيكورن وجبل سان خواكين المُحيط به. وبين عشيَّةٍ وضُحاها، تمتقع السماء الزرقاء الصافية حول الجبال باللون الأسود الغاضب، وتنادي الغيوم بعضها بعضا، مُرسلةً الرعود والبروق، مُزمجرةً بصرخات الهدير، مُطوقةً تلك الجنة من السواد والمطر، ويقف الإنسان مذهولًا مرعوبًا أمام وجه الطبيعة العاصف
كتب أوباتا لصحيفة يابانية في كاليفورنيا عام 1928 مقالة ذكر فيها:
لقد تحمّلت أشجار الصنوبر في سفوح تيوجا الانهيارات الثلجية، وصمدت في وجه الرياح والمطر والثلوج والبَرَد. لقد تحمّلت تلك الأشجار مائة سنة من الأوقات العصيبة، ، مثل مُحاربٍ في حافة العُمر يتمسّك بجذوره. وأمام هذا المنظر أقف مُفكرًا: على المرء أن يُخلص ويُجاهد في سبيل تحقيق حُلمه.” “أكُرس أعمالي الفنيّة لطبيعة كاليفورنيا المُهيبة، التي علّمتني دورسًا عظيمة طوال السنوات الماضية، في أوقاتي العصيبة والطيبة. وأكرسها كذلك لأولئك الذين يُشاركونني الشغف، وأشعر معهم بأننا نستقي الألوان من النهر ونجلس تحت ظلِ شجرةٍ واحدة نرسم ونحلم. إن لوحاتي ما هي إلا نتاج فرشاة رجلٍ عادي بسيط، وتعبير عما أكنه من عظيم الامتنان والإخلاص.”
بقلم: ماريا پوپوڤا | ترجمة: منال الندابية | تدقيق: آلاء الراشدية | المصدر