العلوم الاجتماعيةعلم الاجتماع

الحرب العادلة، والحرب الإلكترونية عبر الإنترنت، ومفهوم العنف

بحث علمي لـ كريستوفر فينلي أستاذ النظرية السياسية بكلية الإدارة الحكومية والشؤون الدولية في جامعة دورهام

الملخص

يرتكز النقاش الخاص بالعلاقة بين التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت من جهة، وكل من الاستراتيجية والأخلاقيات من الجهة الأخرى مؤخرا على مدى إمكانية “الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت”، بوصفها مسألة مفاهيمية أو تجريبية على حد سواء. إذ تعد تلك الإمكانية مسألة جوهرية لمنظري الحرب العادلة. ومن المنظور الحالي، يعد تقييم الإجراءات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها وسيلة للرد على التهديدات وكسبب عادل محتمل لاستخدام القوة الحركية المسلحة أمرا ضروريا. وفي الورقة الحالية، أقوم بتحويل التركيز بعيدا عن “الحرب” بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك من أجل التساؤل عما إذا كان من الممكن توصيف بعض التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت بصورة مبررة على أنها شكل من أشكال “العنف”. إذ يرى بعض المنظرين أنه ينبغي تعريف مصطلح العنف بحيث يشمل أشياء مثل الضرر “البنيوي” أو الأذى بسبب الإهمال، وبالتالي يشككون على نحو ضمني بتركيز منظري الحرب العادلة على القوة العسكرية. والبحث الحالي مستوحى من إحدى النظريات حول العنف التي قمت بتطويرها في منشور آخر بوصفها دفاعا عن الفهم الضيق للعنف الذي تتميز به نظرية الحرب العادلة. ووفقا لنظرية “النية المزدوجة”، يمثل أحد الأشكال المميزة “لوسيلة العنف” العامل الذي يوحّد فئة العنف بينما يفسر الإيحاءات الأخلاقية الخاصة بذلك المصطلح على نحو جزئي. فأنا أرى هنا أن التعريف الناتج للعنف يعيد تشكيل الفئة بطريقة تتضمن بعض أشكال الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت. وقد يساعدنا ذلك في معرفة الموقع المناسب لمصطلح “إلكتروني عبر الإنترنت” بالنسبة لنظرية الحرب العادلة والمبادئ الأخلاقية للهجوم الحركي.

1 |  الحرب العادلة والحرب الإلكترونية عبر الإنترنت

ما هي الإرشادات، إن وجدت، التي ينبغي أن تكون نظرية الحرب العادلة قادرة على تقديمها حول الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت؟ يرى بعض العلماء أن مصطلح “الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت” بحد ذاته هو تسمية خاطئة، وأن تشبيه الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بالحرب يعكس مفاهيم خاطئة أساسية حول كليهما.

تستند الورقة الحالية إلى محاضرة قدمت أثناء ورشة عمل حول “رسم مشهدية الردع الإلكتروني الاستراتيجي عبر الإنترنت”، في معهد أكسفورد للإنترنت، 3 يونيو 2016. أتوجه بالشكر لمارياروزاريا تاديو لدعوتي للمشاركة، وللمشاركين الآخرين لتفاعلهم مع الورقة، ولا سيما جوزيف ناي الابن، وميرفن فروست، وجيف مكماهان، وبول شولت.

غير أن ظهور التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت بمختلف أنواعها بوصفها حقيقة من حقائق الأمن الدولي قد دفع بالحكومات وهيئات الخبراء والعلماء إلى دمج تلك الظواهر في إطار الحرب العادلة.[1] فعلى سبيل المثال، في “دليل تالين الخاص بالقانون الدولي المطبق على الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت“، تقول المجموعة الدولية للخبراء إن “قانون استخدام القوة [الخاص بمسوغات شن الحروب] والقانون الدولي الإنساني [المتعلق بالسلوك العادل في الحرب] كليهما ينطبقان على العمليات الإلكترونية عبر الإنترنت” (Schmitt 2015, v). ونتيجة لذلك، يتتبع الدليل المنطق وراء البروتوكولات الإضافية للعام 1977 لمعاهدات جنيف للعام 1949، ويتعامل مع الإجراءات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها صنفا جديدا من أصناف “السلاح” وبالتالي فهي تخضع لمتطلبات القانون الدولي الإنساني وقيوده (المرجع نفسه، v-vi). وذلك يربط الأمن والهجمات الإلكترونيين عبر الإنترنت بصورة وثيقة مع اثنين من الأقسام الفرعية الأساسية من نظرية الحرب العادلة، ألا وهما قانون استخدام القوة والقانون الدولي الإنساني.

وفي ظاهر الأمر، يبدو أن ذلك قد يكون الاتجاه الصحيح لتبنيه في التفكير حول المبادئ الأخلاقية للهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت وكيفية التصدي لها. وتوحي درجة التدمير الذي يمكن أن تتسبب به بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت، وربما نوع ذلك التدمير أيضا، إلى أن أنواع الرد التي قد تسوغها تلك الهجمات يمكن أن تكون مشابهة لتلك التي تبررها الهجمات “الحركية” عن طريق القوة المسلحة التقليدية في سلسلة واسعة من الحالات الممكنة. فإذا كان بإمكان الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أن تؤدي إلى تدهور كبير في فعالية أي من التقنيات العسكرية أو البنية التحتية في وقت السلم، على سبيل المثال، أو حتى تسبب ضررا جسديا للأفراد، فعندئذ يبدو من المحتمل أن تسوغ الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت ظاهريا الإجراءات الدفاعية أو الانتقامية الأقرب للصورة التقليدية في ظروف يمكن تخيلها. وفي عالم يعتمد على الهياكل والأدوات والمؤسسات والموارد المعلوماتية ويتكون منها بالفعل على نحو متزايد، يمكن أيضا لهجوم خطير بما فيه الكفاية وقوته التدميرية مقتصرة على إلحاق الضرر بالمعلومات نفسها في المجال الإلكتروني على الإنترنت، كما يمكن أن يتخيل المرء، أن يتخطى عتبة الخطورة تلك أيضا.  فعلى سبيل المثال، تبنت الولايات المتحدة الأمريكية المبدأ القائل بأن الانتقام للهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت قد لا يتخذ شكل الهجوم الإلكتروني المضاد عبر الإنترنت فحسب، وإنما أيضا الهجوم بالوسائل العسكرية التقليدية (Obama 2011, 14). وعلى المنوال نفسه، إذا كانت الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت تعد أحيانا وسيلة لردع الأعمال العدائية من نوع أو آخر، فقد تكون هي أيضا عرضة للمتطلبات التبريرية الصارمة الشبيهة بتلك التي تحكم الهجوم التقليدي المسلح.

غير أن محاولة تحديد بالضبط ما يعنيه وضع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت ضمن خارطة المفاهيم والمعايير الخاصة بالحرب العادلة ليس مسألة بسيطة ويثير مجموعة متنوعة من الأسئلة الأخرى كما أقر العلماء (أنظر Taddeo (2014), 37–8). فالرأي الذي تعرضه الورقة الحالية هو على النحو التالي: إذا كانت بعض أنواع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت قابلة للمقارنة ببعض أنواع الهجمات الحركية، وإذا كانت نظرية الحرب العادلة هي الإطار الأخلاقي والقانوني الصحيح للتعامل مع الأسئلة المعيارية حول الهجوم الحركي، فإن ذلك من شأنه أن يبدو أيضا الإطار الصحيح الذي يمكن ضمنه معالجة بعض الأسئلة على الأقل حول المبادئ الأخلاقية للأمن الإلكتروني عبر الإنترنت. غير أنها لن تكون المكان الصحيح لمناقشة كل تلك الأسئلة. فنقاشي يطور الفكرة التي مفادها أن بعض أنواع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت فقط تعادل الهجوم الحركي المسلح وتوفر مسوغا ظاهريا للدفاع الحركي المسلح. وللسبب نفسه، سيكون من الصعب على نحو خاص تبرير تلك الأنواع من الهجمات، تماما مثل استخدام الأسلحة التقليدية. وسأطلق على تلك المجموعة الفرعية من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت تسمية “الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت”. وهذا يترك مجموعة واسعة من أنواع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت خارج نطاق نظرية الحرب العادلة.

من أجل عرض الحجة، أجادل في القسم 2 أن محاولات تحديد موقع المبادئ الأخلاقية للأمن الإلكتروني عبر الإنترنت بالنسبة لنظرية الحرب العادلة تصطدم بالنزعة السائدة لاستيعاب التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت من خلال استحضار مفهوم الحرب. وبدلا من ذلك، ينبغي على منظري الأمن الإلكتروني عبر الإنترنت التركيز على مفهوم العنف واتباع التوجه الحديث لنظرية الحرب العادلة في الابتعاد عن المفاهيم التقليدية للحرب. وفي القسم 3، أدرس الدور الذي يؤديه مفهوم العنف في المبادئ الأخلاقية للنزاع المسلح وبعد ذلك أرسم الخطوط العريضة في القسم 4 لمقاربة تعريفه الذي يشمل بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت. وفي القسم 5، أشير إلى بعض الفروق التي يوحي التحليل الحالي بأنها قد تكون مهمة ضمن فئة “الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت” قبل الإشارة في القسم 6 إلى الكيفية التي يمكن من خلالها دمج تلك الأنواع من الأفعال ضمن الأبعاد المختلفة لنظرية الحرب العادلة.

2| مفهوما الحرب والعنف

قد يبدو محتملا أن يكون باستطاعة المرء دمج مخاوف الأمن الإلكتروني عبر الإنترنت ضمن نظرية الحرب العادلة من خلال ربطهما معا باستخدام مفهوم “الحرب”: إذ تمثّل الحرب محور اهتمام نظرية الحرب العادلة؛ ويعتقد البعض أن التهديدات الإلكترونية باستخدام الإنترنت ترقى إلى مستوى الحرب وقد تسهم في شن الحرب بالمعنى التقليدي Durante 2015, 369– 70))؛ وبما أن كليهما يتعاملان مع الحرب، ينبغي أن يكون من الممكن لنظرية الحرب العادلة أن تنطبق بصورة مباشرة تماما على “الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت”. غير أنني أشك في أن ذلك يمكن أن يساعد بالفعل في توضيح المكانة التي ينبغي لمفهوم الإلكتروني عبر الإنترنت أن يحتلها في نظرية الحرب العادلة، وذلك ليس لأن قابلية تطبيق كلمة حرب ومعناها مثيران للجدل إلى حد بعيد بالنسبة إلى الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت فحسب، وإنما أيضا لأنه يمكن القول إن ما تعنيه الكلمة حتى ضمن سياق نظرية الحرب العادلة أمر مشكوك به وغير واضح تماما.

الإشكال الأول في مقاربة الحرب هو أن المنظرين يختلفون حول ما إذا كانت الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت نفسها يمكن أن تشكل ضربا من ضروب الحرب أو ما إذا كان من الممكن تفسير مجموعة منسقة من تلك الهجمات على أنها تشكل حربا إذا ما تم النظر إليها معا. فعلى سبيل المثال، يرى توماس ريد بأن الحقيقة المتمثلة بأن الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت لا تنطوي (أو لا تنطوي بصورة مباشرة) على “العنف” بالمعنى التقليدي، الذي يقصد به استخدام القوة المادية لإحداث أضرار قد تكون مميتة، هي أحد الأسباب التي تدعو إلى الشك به (مثلا، Rid 2012; cf. Stone 2013). ولذلك، ومن ذلك المنظور، ينبغي لنظرية الحرب العادلة أن تنظر إلى الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها “تدابير لا ترقى إلى مستوى الحرب”—في الواقع لا ترقى إلى حد بعيد—ولذلك فهي تخضع لمجموعة مختلفة من الإرشادات. وبالمقابل، يرى آخرون أن انتشار الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت كمكمل للقوات الحركية المتاحة للدول يعني أنه ثمة حاجة “لفهم أعمق لماهية الحرب في عصر الإنترنت” (Durante 2015, 370).

ما يزيد الأمر تعقيدا هو حقيقة أن العلاقة المفترضة بين الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت والحرب يتم تخيلها (وفي بعض الأحيان تجربتها) بطرق مختلفة، توحي كل واحدة منها بعلاقة مختلفة مع الحرب وتشير إلى آثار محتملة ومختلفة على الطريقة التي يمكن لنا من خلالها فهم التداعيات الأخلاقية والقانونية لتلك الظاهرة. فعلى سبيل المثال، ما يمكن أن نسميه حربا إلكترونية صرفة عبر الإنترنت قد يؤدي إلى إطلاق صراع دولي فقط باستخدام هجوم إلكتروني متبادل على الإنترنت. وربما يكون الأمر الأكثر احتمالا هو ممارسة الحرب بمعناها الأقرب للمعنى التقليدي الذي يشمل على نحو متزايد الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها عنصرا مكملا للأسلحة التقليدية (Durante 2015). فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بطريقة تؤثر على قدرة الدولة على شن حرب تقليدية بصورة مباشرة تماما، رغم أن ذلك قد يحدث أثناء حالة حرب قائمة أو كعمل شبيه بالحرب في وقت السلم – كما هي حال فيروس “ستاكسنيت” (Stuxnet) عندما استخدم لمهاجمة بناء القدرات النووية الإيرانية. علاوة على ذلك، ثمة على الأقل سيناريوهات مفترضة – وربما معقولة – يتناسب فيها التهديد من تدبير إلكتروني على الإنترنت مع بعض أشكال الهجوم الحركي المسلح، حتى وإن لم يكن موجها مباشرة إلى قدرات القيام بالحروب أو تم إطلاقه أثناء نزاع مسلح.

ولكن حتى من دون ضغوط تلك الظواهر الجديدة، أصبح مفهوم الحرب على أية حال أكثر إثارة للخلاف على نطاق واسع وغير واضح على نحو متزايد. فحتى منتصف القرن العشرين كان الفهم الحديث السائد للحرب يشبه فهم جان جاك روسو: وهو أن الحرب هي حالة عداء معترف بها رسميا بين الدول ولها حدود واضحة المعالم من حيث من يشترك ومن لا يشترك بها، وبأية صفة وعلى مدى أية فترة زمنية أو بقعة جغرافية (Rousseau 1762 / 2004, 10; Walzer 1977). ولكن على مدار الجيل السابق أو نحو ذلك، كان منظرو الحرب العادلة يميلون على نحو متزايد إلى التفكير بالحرب بطريقة أكثر انفتاحا بكثير: بحيث تشمل نزاعا صغيرا يمكن أن يتدرج من حالة شخصين يتقاتلان في الشارع (أحدهما معتدٍ، والآخر يدافع عن نفسه) على مسار تسلسلي أخلاقي يمتد إلى استخدامات أكثر تنظيما وتنسيقا وأوسع نطاقا للعنف من جانب عدد كبير من الأفراد (McMahan 2004; cf. Fabre 2012).

كما شكل التناقص في التركيز على التصور الرسمي للحرب سمة من سمات القانون الدولي المعاصر. فمنذ الحرب العالمية الثانية، تناول فقهاء القانون مشكلة شمول النطاق الصحيح للنزاعات من خلال تطبيق القانون الدولي الإنساني على “النزاع المسلح” بدلا من الحرب بالمعنى الدقيق للكلمة. ويشير ذلك الجانب من القانون الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية إلى ابتعاد عن النموذج الذي كانت فيه الدول هي الأطراف الوحيدة – أو على الأقل الرئيسة والنموذجية – للحروب والذي بموجبه كانت الحروب تنشأ لدى إعلانها من جانب القوى السيادية. ولكن حتى لو نظرنا إلى فئة النزاع المسلح فهي أقل تشجيعا من حيث كونها وسيلة لتوحيد مجال يشمل الأضرار الناجمة عن الوسائل العسكرية التقليدية والهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت على حد سواء. فبغض النظر عن أي شيء آخر، إن تعبير “مسلح” يثير التساؤل في هذا السياق.[2]

ولذلك، لا أعتقد أن الحرب كمفهوم (أو النزاع المسلح) تفيد كنقطة انطلاق جيدة وأساسية لفهم مكان الإنترنت بالنسبة لنظرية الحرب العادلة. ولا تساعد أيضا على إظهار أن (بعض أو كل) الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت تنتمي بوضوح لنظرية الحرب العادلة ولا على إظهار أن تلك الهجمات لا تنتمي بالضرورة إليها. ولكننا قد نتجاوز ذلك من خلال التفكير بمفهوم آخر: ألا وهو العنف. ما يبدو أن نظرية الحرب العادلة والقانون الدولي يهتمان به على امتداد سلسلة النزاعات هي الأسئلة المؤرقة حول كيفية الرد على التهديدات من طيف من الأضرار المتعمدة والمدمرة التي يشير إليها ذلك المصطلح، وثانيا حول ما إذا، ومتى، وكيف يستخدم العنف بوصفه وسيلة للرد. وبالتالي، إذا كان ذلك هو الفكرة المشتركة الحاضرة في مختلف اهتمامات نظرية الحرب العادلة، عندئذ يمكن لنا أن نمعن أكثر في تفكيرنا حول المكان الذي ينبغي أن تحتله التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت في أخلاقيات الحروب من خلال دراسة مفهوم العنف. فيتعين علينا أن نسأل (1) ما الذي يعنيه مصطلح العنف بالفعل أو ما الذي ينبغي أن يفهم أنه يعنيه و(2) ما إذا كان من الممكن لبعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت نفسها ألا ترقى أحيانا إلى شكل من أشكال العنف أو تتسم بميزات كافية تشترك فيها مع الحالات النموذجية للعنف حتى تكون قابلة للمقارنة بصورة مباشرة مع العنف.

لكي نبدأ ذلك التحليل، أتحول الآن إلى مفهوم العنف والإيحاءات المعيارية الخاصة بالمصطلح. إذ تتميز تلك الأمور بأهميتها في تفسير طريقة معاملة العنف معاملة خاصة – بوصفه سببا ووسيلة على حد سواء – في نظرية الحرب العادلة. ويساعد التعرّف إلى تلك الإيحاءات في تحديد الأهمية التي يمكن أن يتمتع بها تعريف بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها أعمال عنف بالنسبة لأخلاقيات الأمن الإلكتروني عبر الإنترنت واستراتيجيات الردع الإلكتروني عبر الإنترنت.

3| العنف

إن الدافع وراء تركيز نظرية الحرب العادلة على المشاكل الأخلاقية لمواجهة التهديدات العنيفة غير المشروعة واستخدام العنف الجسدي للقيام بذلك هو الأهمية المعيارية الخاصة التي عادة ما تعزى إلى مختلف الظواهر المرتبطة بمفهوم العنف.

أولا، كما تقول هانا أرندت، ثمة اعتقاد سائد بأنه عندما تتسم الشؤون الإنسانية بالعنف، ولا سيما في السياسة، يتم بمعنى ما “فصلها عن الظواهر الأخرى” (Arendt 2006, 8). ولذلك وإلى حد ما فإن العنف يثير القلق على نحو خاص وبطريقة لا يثيرها غيره من أشكال الأفعال أو السلوك، وإننا ننظر إلى خطوة واحدة فوق العتبة في استخدام العنف بوصفها أمرا بليغا ومقلقا. وثانيا، وعلى ما يبدو كنتيجة لذلك، فإن أولئك الذين يلجؤون إلى العنف يتحملون مسؤولية ثقيلة على نحو غير عادي لتبرير أنفسهم: فكما يقول كاي نيلسون: إن العنف السياسي، مثله كمثل العنف عموما، يحتاج حقا إلى تبرير من نوع خاص جدا (Kai Nielson 1982, 25). وبناء على ذلك الرأي، ينظر على نحو ضمني إلى الأفعال التي يتم تحديدها على أنها ذات طابع عنيف بالمعنى ذي الصلة بوصفها إما خاطئة ظاهريا أو خاطئة إلى حد ما: إذ قد يتم تبريرها، ولكن فقط بالنظر إلى ظروف استثنائية بعينها ولغايات مهمة على وجه الخصوص.[3] وأما الميزة الثالثة للفكرة فتتمثل في أن للعنف غير المشروع دور خاص في إثارة العنف المبرر. ولذلك فهو شيء شبيه بفكرة أن المبرر النموذجي للعنف هو العنف نفسه. أو، على الأقل، إن تحديد شيء ما بوصفه عنفا يميل إلى جعل العنف المضاد يبدو مبررا.

ولذلك، فيما يتعلق بتلك الميزات الخاصة بفكرة العنف، ولأغراض النقاش الحالي، تبرز لدينا ثلاثة أسئلة: (1) لماذا ينظر إلى العنف بوصفه يتميز بتلك الإيحاءات؟ (2) هل أسباب ذلك الاعتقاد سليمة من الناحية الفلسفية وهل هي كافية لتبرير وضعه الخاص؟ بمعنى آخر، هل الحالات النموذجية للعنف، مهما كان شكله، تظهر ميزات يمكن أن تفسر تلك الإيحاءات المعيارية؟ وإذا كان ينبغي لنا أن نأخذ تلك الإيحاءات على محمل الجد حول مفهوم العنف، فإن ذلك عندئذ يشير إلى أهمية مسألة ما إذا كانت الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت تمثل أحيانا شكلا من أشكال العنف بالمعنى الحرفي للكلمة: وإذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن تتمتع الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت بالدلالة الأخلاقية نفسها. وبالتالي (3)، هل يمكنها أن تكون كذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يمكن “للعنف الإلكتروني على الإنترنت” أن يتسم بإيحاءات وعواقب أخلاقية مماثلة؟

لقد أثبت السؤال حول كيفية تعريف العنف وكيف ينبغي تعريفه أنه مثير للجدل، وثمة مجموعة متنوعة من الآراء المتناقضة التي تحاول تحدي الحكمة السائدة بطرق مختلفة. فالفهم الشائع الذي يتمحور القسم الأكبر من النقاش حوله يطلق عليه أحيانا الوصف “الدقيق” نظرا لأنه يتسبب في نشوء فئة ضيقة نسبية من أنواع الأفعال. وترتبط تلك الفئة بأفعال مثل إطلاق النار، واللكم، والطعن، وتفجير الأشياء، ويعتقد عموما أنها لا تتضمن سلسلة من الأشياء التي تشتمل عليها “الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت”. ويمكن تعريفها على النحو التالي:

التعريف الدقيق للعنف: هو إلحاق الضرر (البالغ) بالآخرين على نحو متعمد من جانب العناصر البشرية، وذلك يتحقق عادة من خلال الأذى الجسدي في الحالات النموذجية ولكنه (في بعض التوصيفات) يشمل أيضا الأضرار النفسية. أفعال العنف توصف أيضا بأنها عنيفة بمعنى أنها مفاجئة وتتسم بالقوة والإثارة. ويتم إلحاق الأضرار من خلال توجيه تلك الأفعال إما نحو أجساد الضحايا أو أشياء ذات قيمة بالنسبة لهم (مثل الممتلكات الخاصة بهم).[4]

بناء على ذلك الفهم، يتسم العنف بثلاث ميزات مهمة:

  1.     الوسيلة: وتنطوي على إلحاق الأذى من خلال الفعل العمد.
  2.     الأذى الجسدي: تميل أشكال مختلفة من التعريف إلى التعامل مع الأذى الجسدي – الجسماني – بوصفه نموذجا. ويتم إدراج الأشكال الممكنة الأخرى بقدر ما تبدو أنها متشابهة أو بمعنى ما مشتقات أو أمور قريبة للأذى الجسدي، مثل الأذى النفسي للشخص أو الإضرار بالممتلكات.
  3.     العنف بالمعنى الوصفي: والحالة الوسط بينها هو الافتراض بأن “أفعال العنف” (كما يقول جون هاريس) هي أيضا “أفعال عنيفة” بمعنى ما. فهي مفاجئة وربما صاخبة وتتسم بالقوة.

أعتقد أن ذلك يعبر بإيجاز عن طريقة شائعة تقريبا لتعريف العنف الضمني في الخطاب العادي في السياقات الناطقة بالإنجليزية، ولكن أيضا المتبع بشكل أو بآخر في بعض الكتابات التحليلية.[5] غير أنه تعرض للضغوط في أزمنة مختلفة من مجموعة متنوعة من الجهود التعديلية من جانب الفلاسفة، الذين يسعون إلى إعادة تعريف المفهوم والاستخدام بحيث يعكس ما يرون أنه نطاقا ملائما من الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية.

يرى جون هاريس، على سبيل المثال، أن التصور الضيق في الواقع لا يحدد فئة مميزة من الأشياء (Harris 1980; cf. Coady 2008, 30).[6] ولإثبات ذلك، فإنه يقوم بتقديم اختيارات صعبة لقرائه بين إدراج الحالات التي، من ناحية، يبدو بديهيا أنها ينبغي أن تصنف على أنها أفعال عنف ولكن التي، من ناحية أخرى، لا تتمتع بالخصائص الوصفية اللازمة لتعريفها على ذلك النحو تبعا للفهم الدقيق للكلمة. وبالتالي، فهي تشكل ضغطا على التعريف الشائع بقدر ما يتتبع الميزات المثيرة لفكرة “جموح” العنف. فعلى سبيل المثال، يعرض مثال استخدام السم البطيء بوصفه حالة إشكالية. بالتأكيد، كما قد نعتقد، إن دس السم في طعام شخص ما والتسبب في موت ذلك الشخص يجب أن يكون فعلا من أفعال العنف. ولكن مع ذلك لا يبدو أن ذلك يتسم بالميزات التي ينسبها فلاسفة الأخلاق التحليلية مثل توني كودي إلى العنف: إن ذلك ببساطة ليس عنيفا.[7] إذ إنه لا ينطوي على استخدامات مثيرة للقوة الجسدية؛ ولا وجود لعنصر المفاجأة أو الصخب أو التمزيق أو التحطيم.

يلمح ما يكل شميت إلى تلك المشكلة في مناقشته لمفهوم “الهجوم” في القانون الدولي وقابليته للتطبيق على العمليات الإلكترونية على الإنترنت. إذ يوضح البروتوكول الإضافي رقم 1 (المادة 49(1)) أن الهجوم يجب أن يفهم من حيث العنف في شيء ما مثل المعنى الدقيق للكلمة، باستثناء أشياء مثل الدعاية والأنشطة ذات العواقب الاقتصادية مثل حالات الحظر. وفي ذلك النص، تعد الهجمات “أفعال عنف ضد الخصم، سواء في الهجوم أو الدفاع” (Schmitt 2012, 286). ويفهم شميت الهجوم، هنا، على أنه تعبير يشير إلى إطلاق القوى المادية، ولكنه لا يتفق مع التفسير المفرط في تقييده لحرفية القانون من خلال الإشارة إلى حظر الأسلحة الكيميائية والبيولوجية. إذ يمكن القول إنها تقع خارج ذلك التعريف الخاص بالعنف، ومع ذلك من الواضح أنها تقع ضمن اختصاص البروتوكول الإضافي رقم 1. وفي تلك الحالة، يخلص إلى أن الغاية من النظام القانوني ينبغي أن تفسر وفقا لنتائج الفعل وليس ما إذا كان عنيفا بالمعنى الدقيق للكلمة فيما يتعلق بإطلاق القوة:

تظهر القراءة المتأنية للنواهي والقيود الواردة في البروتوكول الإضافي الأول على الهجمات أن الاهتمام لم يكن منصبا إلى قدر كبير على الأفعال العنيفة، بل بتلك الأفعال التي تتسبب (أو تكون عرضة للتسبب) بتبعات ضارة، أو بمعنى آخر، نتائج عنيفة. فالهدف والغرض في الجزء الأكبر من المعاهدة يتمثل في تجنب، إلى الحد الممكن في ضوء المقتضيات العسكرية، تلك النتائج بحد ذاتها (Schmitt 2012, 290).

ولكن، وفقا لخط النقاش الذي يتبعه هاريس، ثمة مشكلتان إضافيتان في ذلك المسار. أولا، ليس من الضروري أن تكون لكل الأسلحة “نتائج عنيفة”، تماما كما أنه ليس من الضروري لجميعها أن تنطوي على الإطلاق العنيف للقوة في تنفيذها. فعلى سبيل المثال، ليس من الضروري أن تشتمل السموم على أي عنف في خصائصها الحسّية حتى تحدث آثارها. ولكن إذا فهمنا النتائج العنيفة على أنها تعني شيئا من قبيل “نتائج مؤذية بما فيه الكفاية“، بمعنى أوسع، فعندئذ يمكن أن ينتهي بنا المطاف إلى إثبات الكثير: فكما يرى هاريس على وجه الخصوص (ولكن أيضا يوهان غالتنغ وغيره من منتقدي المفهوم الدقيق)، إن التبعات المؤذية – التي غالبا ما تنهي حياة الأشخاص أو خلاف ذلك تشوهها – تنشأ من جميع أشكال العمليات والبنى بشرية المنشأ (Harris 1980; Galtung 1969).

ولذلك، مازال ينقصنا وصف للكيفية التي يمكن من خلالها تعريف العنف بطريقة تحقق التناسب بين الفئة التي يصفها ومجموعة الأشياء التي تتمتع بالخصائص الأخلاقية التي يوحي بها المصطلح. كما أننا نفتقر إلى وصف للكيفية التي ترتبط بها العمليات الإلكترونية على الإنترنت بالعنف، وبالتالي، بمفهوم الهجوم نافذ المفعول في القانون الدولي الإنساني ونظرية الحرب العادلة. فإذا اتبعنا الاستخدام العادي وحرفية القانون في البروتوكول الإضافي الأول، فإن الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت تبدو مستبعدة بكليتها؛ ولكن إذا ركزنا على العواقب من دون الإصرار على النوايا أو بعض السمات المميزة الأخرى للفعل، فإننا ندرج الكثير من الأشياء الأخرى التي يحتمل أن تكون مكافئة للهجوم التقليدي والمسلح والحركي، وبالتالي، سببا عادلا للقوة الدفاعية المسلحة. والسؤال هو ما إذا كان مفهوم العنف الذي يشمل النطاق الصحيح للحالات البديهية ممكنا في الوقت الذي يتجنب فيه النتائج التعديلية المثيرة مثل تلك التي يعرضها هاريس وآخرون. فإذا كان الأمر كذلك، قد يكون من الممكن المحافظة على الصلة بين الفئة الأكثر شيوعا من الأفعال والإيحاءات الأخلاقية التي تبدو مهمة لنظرية الحرب العادلة. وإذا كان ممكنا استيعاب جميع أنواع الحالات التي وجد هاريس وكودي وشميت أنها إشكالية في ضوء التعريف الدقيق – مثل التسميم والأسلحة الكيميائية – فعندئذ قد يكون من الممكن أيضا استيعاب بعض أنواع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت.

النظرية التي سأعرضها الآن في القسم 4 يمكنها أن تحقق تلك الأهداف ولكن مع بعض النتائج التعديلية الأقل إثارة من تلك التي يستهدفها منتقدو المفهوم الضيق. ويتمثل أحدها في الإشارة إلى أن الهجمات التي تبدو غير محسوسة مثل تلك التي تتضمنها الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت قد توصف على أنها إما أفعال عنف بحد ذاتها أو أجزاء متأصلة في أفعال العنف. وفي كلتا الحالتين، كما سأناقش في القسم 5، يظهر ذلك كيف يمكن استيعاب أنواع بعينها من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت في فئة أنواع الأفعال التي تهم نظرية الحرب العادلة.

4 | مفهوم النية المزدوجة للعنف

وفقا لمفهوم النية المزدوجة للعنف Finlay 2017))، فإن نطاق الحالات التي نربطها على نحو نموذجي بالعنف في الخطاب العادي وكذلك في الأخلاقيات ينسجم مع التعريف التالي:

العنف: يُعرّف من خلال وجود واسطة عنيفة تتكون من التسبب المتعمد بـ [1] الضرر المدمر على أيدي عناصر بشرية لمستهدفين باستخدام تقنية يتم اختيارها مع وجود نية إضافية لـ [2] إزالة أو تجنب وسيلة المستهدف للنجاة منه أو مجابهته. وفي الحالات النموذجية للعنف من جانب المهاجمين الذين يتصف عملهم بالتصميم، سيتم تحقيق [2] بقدر ما هو ضروري لتأمين [1] أو، في حال فشل ذلك، بقدر ما هو ممكن لتعظيم فرص القيام بذلك (Finlay 2017, 73).

ولذلك، فإن السمة المميزة الأولى “للوسيلة العنيفة”، وبالتالي، العنف هي نوع خاص من “النية المزدوجة”؛ وأما الثانية فهي توجهها نحو الإضرار “المدمر”. دعوني أعرض تانيكم الخطوتين كل واحدة على حدة بمزيد من التفصيل.

4.1| النية المزدوجة

يُعرّف العنف، بناء على ذلك الوصف، أولا من خلال النية المزدوجة: من جهة لإلحاق الأذى، ومن جهة أخرى لتضييق نافذة الفرصة التي يمكن للضحية من خلالها الرد، إلى أي مدى ضروري لتحقيق النجاح والإمكانية. وللتوضيح، فكروا في طريقة تصميم الكثير من وسائل العنف. فالشخص الذي يرمي برمح في حرب قديمة يعتزم بوضوح إلحاق الأذى بهدفه: أي جرحه إن لم يكن قتله. غير أن اختيار السلاح والتقنية التي يتم استخدامه فيها يحققان نية ثانية داعمة أيضا: ألا وهي الحد من البدائل المتوفرة للهدف والتي قد تسمح لهم بتجنب الضرر. وفي حين أنه من الممكن النظر إلى حدة النقطة كمضاعف للقوة، إلا أن تركيز الدفع من ذراع القاذف على نقطة اتصال دقيقة، أي السرعة التي يطير بها الرمح، تفيد في إيصال تلك القوة وكمضاعف للهيمنة على حد سواء. وما أقصده بعبارة مضاعف الهيمنة هو أنه يزيد من انكشاف الهدف للإصابة بالضرر. وذلك ما يحققه من خلال الحد من نافذة الفرصة التي تمكن الرد من خلالها، سواء عن طريق التوجه إلى أحد الجوانب، أو صد الضربة بدرع أو سيف.

ورمي الرمح يعمل بالطريقة نفسها التي يتم من خلالها إطلاق رصاصة من البندقية. فإذا سدد الرامي من إحدى زوايا الرؤية، وزاد على ذلك، بأن قام بذلك بطريقة تخفيه عن الهدف، فإنه بذلك يزيد من درجة الهيمنة: فمن جهة، تزيد قدرة المهاجم على إلحاق الأذى عن قصد، بينما، من الجهة الأخرى، تنخفض قدرة المستهدف على تجنب الأذى أو صده. ولذلك، إنني أرى أن الحالات النموذجية للعنف دائما ما تجمع بين ذانكم القصدين، اللذين يهدفان إلى علاقة عابرة وقصيرة من الهيمنة المكثفة لتنفيذ الأذى المقصود ضمنها. ففئة الأفعال المعروفة التي يشار إليها أحيانا باسم “العنف الحركي” أو “القوة الحركية المسلحة” عادة ما توظف عوامل السرعة والمسافة والسرّية والمفاجأة لتضييق نافذة الرد وإلحاق الأذى من دون عائق. وكلما زادت كفاءة التقانة بفعل ذلك، كان استخدامها ملائما أكثر كوسيلة للعنف. ومن الممكن الإشارة إلى الجمع بين التقانة المختارة (كالقنبلة، أو البندقية، أو السكين، أو القبضة) وطريقة معينة للاستخدام (كالتفخيخ، أو القنص، أو الطعن، أو اللكم) ككل بوصفه أسلوبا من أساليب العنف بصورة عامة وفعلا من أفعال العنف في كل حالة على حدة.

في حين إن الوسائل التقليدية للعنف مثل إطلاق الرصاص أو اللكم تولد علاقة هيمنة مكثفة جدا بطريقة فجائية وعابرة، إلا أن صيغة النية المزدوجة تشمل أيضا إمكانية العنف الانتهازي. فعلى سبيل المثال، إن اكتشاف شخص ما في وضع ينطوي على الضعف – بسبب العلاقات القائمة على الطبقات أو النوع الاجتماعي أو من خلال حالة صحية مسببة للعجز – واستغلال تلك الحقيقة بهدف إلحاق أذى مدمر هي أساليب أخرى يمكن من خلالها تحقيق النية المزدوجة. كما أنه من الممكن إعداد الضحية مقدما، من خلال تحقيق القصد (2) قبل تنفيذ النية رقم (1): فعلى سبيل المثال، يؤسس كل من التسليم الاستثنائي أو الخطف علاقة الهيمنة اللازمة لجعل شخص ما في أقصى حالات التعرض للتعذيب أو أي شكل من أشكال الضرر الذي يتصوره الجاني. ففي الحالات من أي من النوعين، أؤكد أن الفاعلين سوف يسخّرون أو يخلقون عدم تناسب من النوع الملائم بقدر ما يلزم لتنفيذ الضرر أو، إذا لم يكن ذلك متاحا لهم، بقدر ما هو ممكن لفعل ذلك. ولكن، قد لا يقوم الفاعل بما يكفي لتحقيق النجاح، وفي تلك الحالة، فإنه سوف يرتكب فعلا فاشلا من أفعال العنف – غير أنه مع ذلك سيظل عملا من أعمال العنف.

تتضح فائدة إلقاء الضوء على تلك الأبعاد الخاصة بأعمال العنف عندما نتحول إلى بعض الحالات التي وجدها هاريس وكودي إشكالية – أي تلك الحالات التي تتميز بموقعها غير الواضح على هوامش العنف واللاعنف. ففي ضوء صيغة النية المزدوجة، لا يبدو التسميم كحالة حدّية، بل كمثال نموذجي للعنف. ولنأخذ على سبيل المثال الافتراضي ما يلي:

العدو السري: تبدو سوزان وماري لكل من يراقب سلوكهما الخارجي على أنهما صديقتان. وبالفعل، تبدي ماري قناعتها على أن سوزان هي الرفيقة المخلصة التي لا تكن سوى المصالح الفضلى لماري. لكن في الواقع لطالما كانت سوزان تحمل ضغينة تجاه ماري بسبب ما تصورت أنها بعض الإهانات السابقة، وتقرر قتلها عن طريق دس سم غير قابل للكشف لها في الشاي. وبمجرد أن فعلت ذلك، تقدم الشاي لماري وتتحادث معها حتى شرب آخر نقطة من الشاي. ولا تخبر سوزان ماري بالحقيقة إلا عند ما يكون قد فات الأوان عليها لأن تفعل أي شيء حيال ذلك.

إذا تم تعريف العنف من خلال وجود نية مزدوجة، كما أشرت آنفا، فذلك يعد عملا نموذجيا من أعمال العنف. إذ إن سوزان لا تنوي إلحاق الضرر بماري، بل وقتلها فحسب، وإنما أيضا الأسلوب الذي تستخدمه لإحداث الضرر يجمع التقانة التي يمكنها تنفيذ ذلك مع الطريقة التي تجعل ماري ضعيفة على نحو تام إزاءه. فمن خلال الإبقاء على سرّية الخطر حتى تم تناول السم بالفعل، تقوم سوزان بحرمان ماري من أية وسيلة للنجاة أو الدفاع.

إذا كان من الممكن استيعاب تلك الحالة التي تبدو غير قياسية والتي سببت مثل تلك الإشكالية بالنسبة لأنصار التعريف الضيق أو الدقيق للعنف، فإنني أرى عندئذ أنه يمكن أيضا استيعاب حالات أخرى مثل استخدام السموم كأسلحة واستخدام حالات الحصار. فعلى سبيل المثال، لا تستخدم إجراءات الحصار العنف عندما تقتل أولئك الذين يحاولون الفرار من المدينة المحاصرة فحسب، وإنما تشكل أيضا أفعالا واضحة من أفعال العنف. وذلك لأن تطويق المواطنين وتهديدهم يجعل التعرض للجوع والتجفاف والمرض أمرا لا مفر منه. وبالمقابل، تهدف إجراءات الحظر والعقوبات إلى تحقيق مجموعة متنوعة من الأشياء المختلفة التي من غير المرجح أن تندرج تحت تعريف العنف الذي أعرضه. فإجراءات الحظر على الأسلحة مثلا أو غيرها من المواد المفيدة في القمع الداخلي أو العدوان الخارجي يتم فرضها للحد من قدرة دولة ما على إحداث المزيد من الضرر أو، ربما في كثير من الأحيان، لمنع قدرتها على الاستمرار أو الزيادة. وهي مثل العقوبات قد يتم تفسيرها على أنها الامتناع عن تقديم مزيد من الفوائد بمختلف أنواعها بدلا من حرمان الجهة المستهدفة بها من البضائع الحالية بحيث تتسبب في أي شيء يمكن أن يُفهم على أنه “ضررا مدمرا” كما أعرّفه أدناه في 4.2.8.[8]

لا مجال للدفاع عن ذلك الجزء من التعريف بصورة وافية وقد قدّمتُ ردودا على مجموعة متنوعة من الاعتراضات الممكنة في كتابات أخرى (Finlay 2017). غير أنني سأذكر واحدا، ألا وهو القلق من أن تعريف العنف بتلك الطريقة يبدو وكأنه يجعل الموت والإصابة الناجمين عن الآثار الجانبية للحرب غير عنيفين بقدر ما يكون العنف، من حيث التعريف، غير مقصود. وثمة طريقتان تجدر الإشارة إليهما عن طريق رد موجز. الأولى هي أن ذلك ينطبق على أي تعريف للعنف يحدد الضرر المقصود وليس فقط تعريف يحدد نية مزدوجة. إذ إنني أفهم النية بوصفها جزءا من الفهم الدقيق وشيئا يقترن بالعنف إلى حد بعيد. وأما الثانية فهي أن تعريف العنف من خلال نوايا الفاعل لا يحول دون وصف ضحايا الآثار الجانبية بأنهم قد عانوا كنتيجة لفعل من أفعال العنف. ولا يمنعنا من القول إن الفاعلين قد ارتكبوا فعلا من أفعال العنف التي أضرت بالضحايا الجانبيين. ولكنه يحول دون القول بأن الفاعلين ارتكبوا فعلا من أفعال العنف ضدهم. ولذلك، لا أعتقد أن ذلك يقود إلى تبعات دلالية لا يمكننا التعايش معها بسهولة.

أخيرا، من خلال اتباع المفهوم الدقيق بالطريقة التي يبرز فيها النية، إنني أهمل مفهوم “العنف البنيوي” (Galtung 1969). فأنا لا أشك بأن الأضرار قد تحدث كنتيجة لعوامل بنيوية. ولا أنكر أن البنيان يتسبب بحدوث ذلك عندما يضع الأفراد في وضعية بالغة الضعف وبالتالي يجعلهم عرضة لأضرار شديدة من نوع أو آخر. ولكنني أرى أن فكرة وصف المعاناة التي يسببها البنيان بالعنف بأنها بلاغية. فهي تسخّر القوة التي يشتقها العنف من حالاته النموذجية التي يتسبب فيها الفاعلون بالضرر عن قصد من خلال وسائل محددة. وبناء على ذلك، العنف البنيوي هو من حيث الأساس كناية، وفي رأيي إن أفضل طريقة لدعم كفاءته في إبراز الأضرار غير المبررة هي من خلال توضيح الحالات النموذجية والمفهوم الكامن وراءها.

4.2 | الإضرار المدمر

قد يعتقد البعض أيضا أن ذلك هو اعتراض على تعريف يستند فقط إلى معيار النية المزدوجة الذي من شأنه أن يتضمن أشياء لا نراها بالضرورة أشكالا من أشكال العنف. فمثلا، يبدو اختراق الحساب المصرفي لأحد الأشخاص وسرقة الأموال منه كحالة نموذجية للعنف بناء على ذلك المبدأ (بمعنى آخر، من خلال استغلال نقاط الضعف أو إحداثها كجزء من وسيلة الأذى) – ولكن هل يعد ذلك عنيفا من خلال الفهم المعتاد لذلك المصطلح؟ وبالمثل في سياق مادي أكثر، غالبا (ربما دائما) ما قد يكون السطو فعلا من أفعال العنف بقدر ما يخلق أو يستغل نقاط الضعف (بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتضمن استخدام الأسلحة أو التهديدات ضد الأشخاص أو تدمير الممتلكات) وبعد ذلك ينفذ فعل السرقة الذي يؤذي مالك المنزل. فكلا نوعي الفعل يمكن أن يتضمنا [1] النية للأذى بوسائل [2] تهدف إلى حرمان الضحية من وسائل الرد والدفاع. وبالتالي فالسؤال هو ما إذا ينبغي لنا أن نستوعب نطاقا أوسع بكثير من السلوكيات في فئة العنف مما يهدف عادة أولئك الذين يستخدمون الكلمة أو ما إذا كان بمستطاعنا إيجاد طريقة مشروعة لتجويد التعريف تستبعد تلك الحالات. وهنا تكمن أهمية التفريق بين ما أسميه “الضرر المدمر” وما أطلق عليه “الضرر الاغتصابي”.

بالطبع ثمة تشابهات بين السطو والاعتداء: قد يتحتم علينا إذا جاز التعبير التسليم بأن العنف يشمل كليهما – ولن يكون ذلك مناقضا للبديهة إلى حد بعيد. ولأجل التفكير حول الإنترنت، يمكن أن يكون ذلك مجديا أيضا إلى حد معقول: فالاختراق بوصفه وسيلة للسرقة قد يُعامل على نحو مشابه للاعتداء واستخدام “الأسلحة” الإلكترونية الأخرى على الإنترنت لإحداث الضرر من دون السرقة. ولكنني أعتقد أن التوجه الشائع للتمييز بين الفئات هنا مبني عل أساس أعمق. وخلاصة محاولتي الفصل بين الإثنين هي كما يلي (في (Finlay (2017, 77–82). فأنا أميز الضرر المدمر الذي يتسم به العنف عن “الضرر الاغتصابي”، الذي تتسم به أشياء مثل السرقة. فمن جهة، يحدث الضرر الاغتصابي حيث يكون حجم الضرر الذي يسببه المهاجم للضحية بالقدر نفسه من المنفعة التي يتمتع به المهاجم كنتيجة لذلك – أي إنهما متناسبان من حيث النوع ومن حيث المدى. وخلافا لذلك، عندما تكون المنفعة المتأتية للمهاجم مختلفة (ربما غير متكافئة أو فقط مختلفة كثيرا من حيث المدى)، فعندئذ من المرجح أننا سنفسر ذلك على أنه “هجوم عنيف” وليس نوعا من أنواع السرقة.

ولذلك، وعلى سبيل المثال، إذا كسرتُ قفل سيارتك، وقمت بتشغيل المحرك عن طريق الأسلاك وانطلقت بالسيارة، وبعد ذلك بعتها للحصول على النقود أو ربما احتفظت بها لاستخدامها كسيارتي الخاصة بي، فإن الضرر والمنفعة لهما النوع والمدى نفسهما: السيارة أو قيمة السيارة. ولكن، بدلا من ذلك إذا أخذتُ مضرب بيسبول وحطمت نوافذ سيارتك قبل إضرام النار في المركبة بداعي الانتقام، فهما ليسا متناسبان: إذ إنك تتعرض لخسارة شيء ثمين (فضلا عن المعاناة أو الخوف الذي تسببه أفعالي)؛ وأنا أتلذذ بأي إشباع رغبي يحققه لي الانتقام لما أعده خطأ. وبالتالي، في حين إن أي منهما من شأنه أن يشكل نكسة لمصالحك من النوع الذي ينظر إليه بوصفه “ضررا” بصورة عامة، إلا أنه يبدو ممكنا تحديد شيء ما هنا يفرّق بين فئتين فرعيتين: الأشياء التي تعمل مثل السرقة (الضرر الاغتصابي) والأشياء التي تعمل مثل الحالات النموذجية للعنف (الضرر المدمر). وبالطبع، فإن ذلك بحد ذاته لا يوحي بأن العنف تحديدا أسوأ من السرقة – إذ إن ذلك كله يعتمد على عوامل أخرى في الاتجاه الحالي للمقارنة.[9] ولكن يمكن تحقيق المزيد من الإيضاح حول ذلك من خلال النظر إلى كيفية تفسير صيغة العنف المزدوج الخاصة بالعنف للإيحاءات الأخلاقية للمصطلح.

4.3الإيحاءات الأخلاقية “للعنف”

إذن، لماذا وبأي معنى يشكل العنف، كما أعرّفه، مصدر قلق من الناحية الأخلاقية بطريقة مميزة؟ ولماذا يتمتع بالإيحاءات المعيارية التي ذكرتها فيما سبق وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت إذا اتضح أن بعضها ينتمي إلى فئة العنف؟

إن الخوف من العنف ينشأ بداية من حقيقة أنه، بناء على تعريف النية المزدوجة، في حين إن الأنواع الأخرى من الوسائل (والبنيان) ليس لها إلا علاقة طارئة (إن لم يكن متواترة ربما) بالضرر، إلا أن الضرر يعد جوهريا لأفعال العنف، وتوجهُها المقصود نحو إلحاق الأذى يتصل بالتعريف. وبالمقابل، في حين إن البنيان والأفعال التي لا تستهدف على نحو خاص إلحاق الضرر المدمر على شاكلة أفعال العنف قد تسبب أحيانا أضرارا مشابهة، إلا أنها وإن تسببت بذلك، فالضرر يعد شيئا هامشيا بالنسبة للغرض، أو حتى عرضيا. والجانب التدميري للعنف القائم على صيغة النية المزدوجة يعزز ميزته الأولى. ففي حين إنه إذا كان مكسب المهاجم يساوي خسارة الضحية، فعلى الأقل ثمة إمكانية من حيث المبدأ لاستعادة القيمة المفقودة إلى مالكها، إلا أن الضرر المدمر عادة ما يتميز بإزالة جزء من مصادر المنفعة الخاصة بالضحية.[10] وعلى الرغم من أن العنف ضد الممتلكات قد يكون قابلا للإصلاح في بعض الحالات، إلا أن محاولات استعادة المنفعة يمكن في أحسن الأحوال أن تعوض عن الضرر بطريقة ما في الكثير من الحالات. وفي الحالات الأكثر شدة، حيث يتم توجيه العنف نحو العقول والأجساد، يكون التعويض مستحيلا: إذ ليس من الممكن تعويض الأطراف وليس ثمة من تعويض لشخص فقد حياته بسبب العنف.

تلك الميزات بدورها توضح، ثانيا، لماذا يصعب على وجه التحديد تبرير استخدام العنف ويبرر الحاجة إلى مبادئ أخلاقية خاصة. وسواء كانت وسيلة العنف تهدف إلى الضرر المدمر للجسم أو غيره من الأشياء، فإنها سوف تزيد من احتمالية حدوث الضرر إلى أقصى مدى ممكن. ولكن الأكثر من ذلك، يمكننا أيضا القول إنه حتى إذا حكمنا على الأضرار الفعلية الناجمة على أنها متساوية بين فعلين مختلفين، أحدهما من جانب فاعل عنيف والآخر من جانب فاعل من نوع آخر (طائش أو مهمل، على سبيل المثال)، فعندئذ سيحمل السابق في العادة درجة أكبر من المسؤولية الأخلاقية وسيكون مستحقا للّوم أكثر من الثاني في حالة الأذى غير المشروع. وهكذا فإن الأحكام المتعلقة بوجود الوسيلة العنيفة تصدر في الأحكام حول المسؤولية وليس منها. وذلك يساعد على تفسير مسؤولية العناصر العنيفة عن الضرر العلاجي عندما تجعل أفعالهم الإجراءات الدفاعية أو الانتقامية ضرورية.

تتضح أهمية ذلك الجانب من العنف في ضوء صيغة النية المزدوجة أكثر إذا أجرينا مقارنة بينه وبين طريقة حدوث النتائج الطيبة أو الشريرة من خلال ما يطلق عليه لوسيانو فلوريدي “الوسيلة الموزعة” (Floridi 2013). وتحدث الوسيلة الموزعة عندما تظهر نتيجة تتسم بالأهمية الأخلاقية (سواء كانت إيجابية أو سلبية من حيث القيمة) كنتيجة للأفعال الفردية في نتيجتها المجتمعة ولكن من دون أن يرتكب أي من الفاعلين الفرديين أفعالا تتسم بالأهمية من الناحية الفردية. ولذلك فقد تكون أفعالهم محايدة من الناحية الأخلاقية وذلك نظرا لمداها البسيط نسبيا، الذي يقع تحت عتبة الأهمية الأخلاقية. علاوة على ذلك، قد تكون العوامل الفردية وقد لا تكون مدركة أن أفعالها قد تسهم في مزيد من الخير أو الشر نظرا للوسيلة الموزعة. وبالفعل، بما أن الفاعلين، بناء على توصيف فلوريدي، يمكن أن يتضمنوا الذكاء الصنعي، فإنهم قد يفتقرون إلى القدرة على تلك النوايا أو الفهم، ومع ذلك فهم قد يضمّون مساهمين سببيين لازمين في الأهمية الأخلاقية للنتائج المتحققة على نحو جماعي. وكما يوضح فلوريدي، يقيّم ذلك النوع من التحليلات الأخلاقية الأفعال ليس من منظور المرسل وإنما من منظور المتلقي: تقيّم الأفعال (بما في ذلك أفعال الأنظمة متعددة الفاعلين، والفاعلين الصنعيين وما فوق الفاعلين) على أساس تأثيرها على صالح البيئة بصورة عامة وساكنيها على وجه التحديد” (2013, 732). ومن وجهة النظر تلك، قد تتمثل الحالة بالفعل في أن الأهمية الأخلاقية للنتائج السلبية غالبا ما تكون مماثلة لتلك التي تتميز بالنتائج المقصودة – بل النتائج مزدوجة النية – الناجمة عن العنف.

ولذلك، فبالنسبة للآثار والمطلب الأخلاقي الخاص بمعالجتها وتخفيفها، من المحتمل أن تكون أهمية الأضرار الناجمة عن العنف وتلك الناشئة عن الوسيلة الموزعة قابلة للمقارنة المباشرة. ولكن، عندما يتعلق الأمر بمسألة استخدام الوسائل المؤذية، بما في ذلك القوة المسلحة، لتجنب تلك النتائج أو دفعها، فمن الواضح أن أولئك الذين يساهمون في الوسيلة العنيفة من المرجح أن يكونوا عرضة لمستويات الضرر التي تتناسب بصورة مباشرة مع تلك التي يتم دفعها. وخلافا لذلك، فإنه من المرجح في الكثير من الحالات أن يكون أولئك الذين يساهمون في الطرق الضئيلة من الناحية الفردية للوسيلة الموزعة كما يتم تصويرها في نظرية فلوريدي عرضة لضرر دفاعي أو وقائي ضئيل أو لعدم الضرر بتاتا. وذلك لأنه في حين إن الوسيلة العنيفة، على سبيل الفرضية، مسؤولة عن التصميم على النتيجة الشريرة، كنتيجة لدرجة عالية من الفعالية السببية ونوع قوي على نحو خاص من أنواع النية على حد سواء، فإن أولئك الذين يسهمون في الوسيلة الموزعة ليسوا مسؤولين إلا عن الأفعال الفردية التي تعد، بحد ذاتها، “محايدة” من الناحية الأخلاقية.

أخيرا، ولذلك أيضا فإن فكرة وسيلة العنف تساعد على تفسير لماذا يمكن أن يُحدِث إقناع الناس بنجاح لوصف فعل بعينه على أنه عنف غير مبرر أثرا متساهلا ولماذا ثمة ذلك الربط في نظرية الحرب العادلة بين السبب العادل و”الهجوم الحركي المسلح” السابق أو المهدد به (Fabre 2012, 108–10).[11] وذلك مردّه إلى أن الأفعال التي تنطوي على وسيلة العنف هي تلك الأفعال التي، بحكم التعريف، تهدف إلى استبعاد وسائل المراوغة أو المقاومة. ولذلك، فإنه كلما كان فعل العنف ناجحا، كان نطاق الخيارات التي يتركها للهدف أضيق. فإذا أفضت أفعال العنف إلى القضاء على فرصة المنع أو التفاوض أو النجاة، فعندئذ لا تترك في الغالب إلا العنف نفسه كبديل متبقي للضحية. ولذلك فإنه من المرجح أن يؤدي العنف في الكثير من الحالات إلى شروط الضرورة والتناسب التي تسوغ الدفاع العنيف، بما في ذلك العنف الحركي المسلح (راجع Coady 2008, 42).

5| الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت وفئة العنف

 

بناء على صيغة النية المزدوجة، سيتم تعريف بعض أنواع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت – ولكن ليس كلها – بوصفها أفعال عنف.

لتوضيح الكيفية التي يحدث فيها عنصرا التعريف – النية المزدوجة والضرر المدمر – في بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت، لا نحتاج إلا إلى أن نتحول إلى “ستاكسنيت” (Stuxnet)، الحالة الأحدث والأكثر شهرة. فقد قامت البرمجية الخبيثة، التي تم اكتشافها لأول مرة في العام 2010 والتي استخدمها المبرمجون لتخريب محطة المعالجة النووية الإيرانية، بالجمع بين عنصرين أساسيين. الأول نفذ الضرر المقصود: إذ قام بتعديل الإعدادات في محطة المعالجة لتغيير سرعة دوران الأسطوانات، مما أدى إلى أضرار مادية خطيرة وكلف البرنامج خسارة سنوات من التقدم. وذلك يلبي معيار التدمير. وفي ظاهر الأشياء، تبدو النتيجة المقصودة وكأنها مكسب في مجال الأمن بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل ضد التطوير المستقبلي للأسلحة النووية من جانب إيران؛ أما الأذى الذي لحق بالإيرانيين فقد تمثل على نحو رئيس في الضرر المادي لأجهزة الطرد المركزي الخاصة بهم وللبرنامج الخاص بتطوير القدرات النووية، مهما كانت أغراضه الحقيقية. ولكن الأهم هو أنه كان لبرمجية “ستاكسنيت” الخبيثة عنصر ثان: إذ استخدمت البرمجية آلية تدريع “للتحايل على الأنظمة الرقمية المصممة للحماية” واختراقها، مما جعل الكشف عن وجودها مستحيلا للكثير من لأجهزة الحاسوب التي أصيبت بها. فقد كانت ثمة حاجة لذلك لأنه بخلاف ذلك ستستطيع برمجيات الحماية الخاصة بأجهزة الحاسوب أن تحدد هوية البرمجية الخبيثة كفيروس وتحاول التخلص منه قبل إلحاق أي ضرر. ولذلك فقد عمل عنصر التدريع على ضمان بقاء أية حواسيب مصابة بالبرمجية الخبيثة ضعيفة للغاية إزاء الضرر الذي كان “ستاكسنيت” مصمما للتسبب به (Rid 2013, 43–6). ولذلك، مثل سوزان، التي دست السم في الخفاء، كان أولئك الذين أطلقوا برمجية “ستاكسنيت” الخبيثة يسعون إلى تحقيق نية مزدوجة: ألا وهما إحداث ضرر مدمر باستخدام تقنية من شأنها أيضا تعظيم نقاط الضعف الخاصة بالضحية إزاءه من خلال الحد من فرص المراوغة أو الدفاع.

يقول توماس ريد إن الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت لا يمكن أن تكون أفعال حرب، وذلك لأنها، من بين أشياء أخرى، تفتقر عموما إلى العلاقة المباشرة مع “الإماتة” التي يعدّها بمثابة تعريف للعنف الحربي؛ علاوة على ذلك، يقول إنه “في أفعال الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت، من المرجح أن يكون الاستخدام الفعلي للقوة تسلسلا في غاية التعقيد واللامباشرة من الأسباب والنتائج التي تفضي في نهاية المطاف إلى العنف والضحايا” (Rid 2012, 9). وبالمقابل، وفي ضوء نظريتي، من الممكن لبعض من تلك الأفعال أن تظهر الميزات اللازمة للوسيلة العنيفة، ولذلك قد يتم تفسيرها ليس بوصفها تمتلك روابط سببية مع غيرها من أفعال العنف فحسب، وإنما أيضا بكونها هي نفسها أفعال عنف. فخذ، على سبيل المثال، برمجيات “القنابل المنطقية” الافتراضية التي يتخيل ريد أنها قد تتسبب في حوادث القطارات، وانقطاعات التيار الكهربائي، وانهيار أنظمة الحركة الجوية؛ فإذا كانت تلك الأفعال ممكنة، من شأنها أن تهدف بوضوح إلى إلحاق الضرر المدمر (تماما مثل ما فعل “ستاكسنيت”) ومن المفترض أن يتمثل أحد أجزاء عملها في التخفي أو شل حركة جدران الحماية وغيرها من الدفاعات المعدّة لمقاومتها (Rid 2012, 9). ولذلك فمن الممكن على الأقل تصنيف بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت المتخيلة ليس بوصفها مسببة للعنف فحسب، بل بوصفها أفعال عنف بحد ذاتها بناء على توصيف الوسيلة.

في حين إن كل من “ستاكسنيت” والقنابل المنطقية التي ذكرها ريد تسخّر الوسائل المعلوماتية لإحداث دمار مادي من النوع المادي الأكثر فورية، إلا أنه من الممكن أيضا للهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت التي تتميز بهدف معلوماتي خالص أن تلبي المعايير اللازمة للعنف. فخلافا للمتسلل الذي يسرق الأموال أو الأسرار، ملحقا الضرر بهدف الاغتصاب (على نحو مماثل للنشل والتجسس)، يقوم الشخص الذي يستخدم الفيروسات الحاسوبية لإعطاب البيانات أو حذفها، بهدف جعلها غير قابلة للاستخدام، بإلحاق أضرار مدمرة من خلال ذلك. وإذا قام بذلك متخفيا بجهاز تدريع لجعل الهجوم غير قابل للكشف إلى أن يكون قد فات الأوان (أو بأية طريقة أخرى تجعل الدفاع ضد الهجوم مستحيلا)، فعندئذ يتسم الهجوم بالميزة التواسطية نفسها التي تتصف بها أفعال العنف التقليدي والمادي. وتعتمد إمكانية أن يكون ذلك قابلا للقياس بأحدها، عندئذ، ليس على نوع الفعل نفسه، بل على الأهمية الأخلاقية لما يقوم بالإضرار به كل فعل من أفعال العنف: فمن شأن الهجوم الإلكتروني عبر الإنترنت الذي يدمر بيانات تتميز بقيمة أكبر بالنسبة لعدد أكبر من الكائنات البشرية أن يكون أسوأ من هجوم بوساطة وسائل مادية على الممتلكات ذات القيمة الأدنى لعدد أقل من البشر.

ولذلك، فإن الخلاصة الأولى تتمثل في أن بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت لا تؤدي إلى أفعال العنف الحركي أو تشبهها فحسب، بل في الواقع من المناسب وصفها نفسها على أنها أفعال عنف (غير حركي). وذلك يخالف وجهة النظر المقبولة على نطاق واسع حول الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت (مثلا، Blank 2015, 94).  فمن خلال إبراز الطرق التي يتم عن طريقها توحيد فئة أوسع من أفعال العنف – بعضها حركي، وبعضها غير حركي، ولكن كلها تهدف إلى إلحاق الضرر المدمر – عبر نوع بعينه من أنواع الوسيلة بناء على النية المزدوجة، من الممكن أن نرى كيف تكون بعض أشكال الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت، وليس غيرها، عنيفة.  فالهجمات مثل فيروس “ستاكنيت” مصممة، كما أشرت آنفا، بهدف تحقيق نتائجها بالطريقة نفسها التي تتسم بها السموم الخفية أو رصاصة تم إطلاقها من بندقية: فهي تلحق ضررا مدمرا مقصودا بينما تحقق على نحو متزامن الهدف الثاني الذي يتمثل في حرمان أهدافها من فرصتهم في تجنبها. وبمعنى آخر، تتضمن تلك الأفعال تقنية تسخّر العناصر التي تهدف إلى إلحاق الضرر وخلق الضعف في مواجهة الضرر على حد سواء.

غير أن تحليلي للعنف إلى جزأين اثنين يوحي بطريقة ثانية من المحتمل أن تكون مهمة وفيها قد يكون الهجوم الإلكتروني عبر الإنترنت عنيفا، وهي أنه حتى لو لم يتم استخدام الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت لتنفيذ النية الأولى التي تعرّف العنف، إلا أنها قد تكون مفيدة على نحو خاص في تحقيق النية الثانية. فهي تبدو مناسبة جدا، من حيث إنها تقضي على الدفاعات، وقد تحدث بسبب ذلك كجزء من فعل أكبر من “أفعال العنف” عندما تترافق مع أساليب حركية أكثر تقليدية للضرر. فعلى سبيل المثال، يعرض آر آر ديبرت الحالة الافتراضية التالية:

من شأن هجوم إلكتروني ضخم عبر الإنترنت على الدفاعات التي لدى إحدى الدول ضد الهجمات المادية (مثل الرادار، والأقمار الاصطناعية الخاصة بالتجسس، وأنظمة التحكم) أن يغامر بإعطاء الدولة التي تتعرض للهجوم سببا للاعتقاد بأن هجوما تقليديا وشيك الحدوث، وعندئذ يمكن أن يخلق ظروف حرب استباقية مبررة… (Dipert 2010، 401).

غير أنني سوف أفسر الافتراضي بطريقة مختلفة: قد تنذر تلك الأفعال إلى حد بعيد بهجوم حركي، ولكنها ينبغي ألا ينظر إليها بالضرورة فقط كأفعال تحضيرية لفعل منفصل أو موجة من أفعال العنف: إنها نفسها جزء من تلك الأفعال. ومن الممكن أن يقال الشيء نفسه بشأن الحالة الماضية التي قام فيها سلاح الجو الإسرائيلي بتخريب الرادار السوري كوسيلة للقضاء على دفاعاته قبل قصف المفاعل النووي في دير الزور في سبتمبر 2007 (Rid 2013, 11). فإذا ألحق الأسلوب الضرر بموقع الرادار، عندئذ قد يكون شكّل فعلا من أفعال العنف بحد ذاته، بناء على توصيفي. ولكن حتى ولو لم يقم إلا بتعطيله مؤقتا، لكان ذلك جزءا من الفعل الأكبر للعنف الذي أسهم في تحقيقه – أي الهجوم الموجه ضد القاعدة النووية – بقدر ما كان إسقاط القنابل جزءا منه. وبناء على تحليلي، يُعرّف العنف من خلال الوسيلة التي يقضي بها على الدفاعات (أو يتجنبها) والطريقة التي يلحق فيها الأذى على حد سواء. ولذلك، حتى ولو كانت الإجراءات الإلكترونية عبر الإنترنت أقل تأثيرا من إطلاق النار والهجمات الصاروخية لدى تنفيذ الضرر، إلا أنها قابلة للتكيف إلى حد كبير لأغراض خلق الظروف التي يكون فيها من المستحيل تجنب تنفيذ الضرر المدمر، أو إبعاده، أو ردعه.

أخيرا، قد يشكل استخدام برمجيات فيروس الفدية أحيانا نوعا ثالثا من أنواع العنف باستخدام الهجوم الإلكتروني عبر الإنترنت، على الأقل في بعض الحالات. فبرمجيات الفدية التي تتبع نمط هجوم “واناكراي” (WannaCry) الأخير بوساطة تشفير البيانات الخاصة بأحد الأشخاص والمطالبة لاحقا بدفع الأموال مقابل فك التشفير قد يتم فهمها من خلال مقارنتها بالسطو المسلح. ففي كلتا الحالتين، يقوم اللص بالحصول على المال من خلال الابتزاز عن طريق التهديد بإلحاق الضرر المدمر بشيء يمثل قيمة للضحية. إذ يهدد اللص المسلح باستخدام البندقية، مما يضع الضحية في أقصى درجات التعرض للإصابة الجسدية؛ وبالمثل، يهدد المبتز بوساطة الوسائل الإلكترونية بجعل بيانات الضحايا عديمة الفائدة لهم. وكلاهما يستخدم ذلك العنف التهديدي لإلحاق الضرر بهدف الاغتصاب.

إنني أعرض “الهجوم الإلكتروني العنيف عبر الإنترنت” بوصفه مصطلحا يشير إلى تلك الفئة الفرعية من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت التي هي أيضا عنيفة في ضوء المعاني التي قمتُ بتوصيفها للتو. ولكن مثلما هي الحال بالنسبة لبعض أنواع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت التي، عندئذ، قد تُفهم على أنها أفعال عنف – أو جزء من أحد أفعال العنف – وكذلك بعضها الآخر قد يُستبعد من الفئة. فسرقة الأسرار، سواء من الشركات أو الدول أو الأفراد، قد تخرق الحقوق لكنها ليست فعلا من أفعال العنف، سواء أخترق مرتكبو الجريمة أجهزة الحاسوب أم سرقوا وثائق من أحد المكاتب أو منزل أحد الأشخاص. وبالمثل، فمجرد إعاقة شخص ما – سواء من خلال سد طريق أو حرمانه من إحدى الخدمات من خلال مهاجمة حاسوب بوابل من طلبات البيانات – من المرجح أن تكون شيئا آخر غير العنف، حتى ولو تم تنفيذه بطريقة خبيثة. ومن جهة أخرى، إذا قمتَ بمنع أحد الأشخاص من النجاة من مبنى ينهار، فيمكن القول إن ذلك ينبغي أن ينظر إليه بوصفه فعلا من أفعال العنف ومن شأنه أن يتم تعريفه كذلك استنادا إلى التعريف الذي أعرضه. وإذا قام هجوم الحرمان من الخدمة الموزعة ضد عدد متنوع من المؤسسات والمنظمات المختلفة، مثل الذي حدث في إستونيا في العام 2007، بإحداث تأثير إتلاف تلك الأصول نفسها، أو تسبب بالضرر للمستخدمين، أو جعل الدولة عرضة لأضرار يتم تنفيذها بوسائل أخرى (مثلا من خلال هجوم حركي)، عندئذ ينبغي أن ينظر إليه بوصفه فعلا من أفعال العنف أو جزءا من أحدها. وإذا كان فرض الضعف الشديد تم تنفيذه من أجل الإيضاح لإستونيا أنها قد تكون عرضة لهجوم حركي في أي وقت وأنه ينبغي عليها ألا تشعر بالأمن ضد مثل ذلك الاحتمال، فعندئذ ينبغي أن يُفهم على أنه تهديد بالعنف بكل ما تنطوي عليه تلك التهديدات من إمكانية قسرية عندما يتم التثبت من مصداقيتها من خلال دفعة ضخمة على الحساب.

6 | الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت وأخلاقيات القوة

بالطبع لا ينبغي أن تُخِل تسمية مجموعة فرعية من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بالعنف بالنقاش حول ما إذا كانت مسوغة من الناحية القانونية أو الأخلاقية أم لا. إذ تفترض نظرية الحرب العادلة أن أفعال العنف، بأية طريقة تم فهم التعبير، قد تكون مبررة إذا تم استيفاء شروط معينة. وأتحول الآن إلى نظرية الحرب العادلة نفسها والسؤال عن الموقع الذي ينبغي أن تحتله الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت ضمنها.

6.1 |  أسئلة الحرب العادلة

من أجل تأسيس المكان المناسب للهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت ضمن نظرية الحرب العادلة، نحتاج إلى أن نتمكن من الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسة.

أولا، هل يمكن للهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أو التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت تبرير الحرب الحركية (أو الأفعال الحركية المشابهة للحرب التي لا ترقى إلى حرب واسعة النطاق)؟ ما يثير ذلك التساؤل بصورة مباشرة هو السؤال حول ردع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت.[12] فإذا كان ثمة حالات تخيلية بحيث (أ) يتم فيها تهديد دولة ما بهجمات إلكترونية غير مشروعة على الإنترنت من جانب قوة أو منظمة أجنبية و(ب) تكون الوسيلة الوحيدة لردع ذلك الهجوم أو دفعه حركية، فعندئذ (ت) هل يمكن تبرير إجراء دفاعي أو انتقامي متعدد النطاقات؟ فإذا كان الأمر كذلك، حينئذ يبدو من الضروري إيجاد طريقة لإظهار كيفية استيفاء هجوم إلكتروني عبر الإنترنت لمتطلب ضمني في كل من نظرية الحرب العادلة على وجه الخصوص و”المفاهيم الأخلاقية المشتركة”، ألا وهو أن اللجوء للعنف يتطلب مسوغا خاصا (Lee 1996, 68). وربما يكون المعيار الذي تتضمنه نظرية الحرب العادلة والذي يعني ذلك بصورة مباشرة تماما هو “الملاذ الأخير”: وكما يُفهم ذلك المبدأ عادة، فإنه يعكس الحدس الذي مفاده هو أنه ينبغي ألا يتم اللجوء إلى العنف بصورة عامة، والحرب على وجه الخصوص، إلا بعد أن تكون جميع الإجراءات غير العنيفة قد استنفدت أو يكون من الواضح أنها غير مجدية. غير أنه مفهوم ضمنيا أيضا في الافتراض العام أنه يجب أن يكون للحرب سببا عادلا: ولا يعني السبب العادل ضمنيا أنه تم التهديد باعتداء (أو حدوثه) فحسب، وإنما أيضا أنه من النوع الصحيح. فليس كل اعتداء شائنا بطبيعته بما فيه الكفاية ليبرر اللجوء إلى القوة العسكرية. ولذلك ثمة سؤال هنا حول التناسب: هل يمكن لبعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أن تجرى بطريقة أو على نطاق متناسب مع القوة الحركية؟

ولكنني أعتقد أنه ثمة مجموعة ثانية من الأسئلة التي يجب أيضا أن تتم إثارتها إذا نظرنا إليها من المنظور الخاص بنظرية الحرب العادلة: هل يمكن أن يتم تبرير الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت نفسها بوصفها شكلا من أشكال الحرب؟ وعلى نحو مرتبط بذلك، إذا كان ذلك ممكنا، فعندئذ كيف يمكن أن تنطبق شروط قانون استخدام القوة؟ وهل ستكون أكثر تساهلا إزاء الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت من الإجراءات الحركية؟ وهل ينبغي لها أن تكون كذلك؟ ومن المرجح أن تتمتع تلك الأسئلة إلى جانب السؤال الأول بصلة عملية، ولا سيما في الحالات التي يتضمن فيها الصراع البعد متعدد النطاقات، أي الحالات التي تكون فيها القوة الحركية معززة بالهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت، والتي تصبح فيها الإنترنت، لذلك، عنصرا مهما في الأشكال الهجينة على نحو متزايد للحرب. وذلك يقود إلى سؤال ثالث: كيف يمكن لوجود العناصر الإلكترونية عبر الإنترنت على وجه التحديد في الصراع المسلح والتقليدي أن ينعكس في نظرية الحرب العادلة؟ ولذلك، مثلا، وفيما يتعلق بقانون استخدام القوة، هل يمكن لإبعاد أو منع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أو ما شابه أن تشكل جزءا من سبب عادل أوسع؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يمكن أن تساهم في حجة “التناسبية” للحرب الحركية؟ إذ تتطلب التناسبية أن يقوم صناع القرار بموازنة الفوائد ذات الصلة للقيام بالحرب على نحو ناجح مع التكاليف ذات الصلة. فكلاهما ينظر إليهما في نظرية الحرب العادلة بوصفهما مقتصرين على أنواع بعينها من القيمة: فالمكاسب تشمل بالتأكيد حماية حياة (الأبرياء) من التهديدات غير القانونية وتتضمن على الأرجح أشياء مثل الأمن القومي بمعناه الأوسع مقارنة بالتوغل البري وانتهاكات السيادة؛ أما التكاليف فعادة ما يتم حسابها من حيث الأضرار لأبسط المصالح الإنسانية الأساسية على الأقل (عموما الحياة والسلامة الجسدية). وإذا تم النظر إلى الدفاع ضد الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفه جزءا من الحجة لدعوى “السبب العادل”، فعندئذ من شأنه أن يعني ضمنيا بأن إضعاف تلك التهديدات هو مكسب ذو أهمية ويمكنه أن يوازن تكلفة ذات أهمية مثل خسارة أرواح الأبرياء من خلال الأضرار الجانبية. وهكذا فمن شأن ذلك أن يضع الأمن الإلكتروني عبر الإنترنت، إذا جاز التعبير، على الجانب “الإيجابي” من صفحة الموازنة التي تفرض التناسبية علينا مراجعتها قبل اللجوء إلى الحرب. غير أنها قد تحتل مكانا على الجانب “السلبي” أيضا. فإذا تم قياس المكاسب ذات الأهمية جزئيا من حيث أرواح البشر الأبرياء أو الدفاع عن السيادة الوطنية ضد العدوان الدولي، فإلى أي مدى يمكن لنوع الضرر الناجم عن الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت التي شنها العدو في تلك الحرب أن يحسب مقابلها؟ وإلى أية نقطة قد ترقى تكاليف تلك التدابير في حربنا إلى مستوى يجعلها غير متناسبة، على الرغم من حقيقة أنها كانت تهدف إلى تأمين أرواح البشر من تهديدات حركية قاتلة أو خلال استقلال سيادي عن عدوان من جانب قوى أجنبية؟ وفي غياب القاسم المشترك بين (بعض) الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت والهجمات المسلحة باستخدام وسائل تقليدية، إنه ليس من الواضح كيف يمكن أن تتم تلك الأشكال من المفاضلة – أو، في الواقع، ما إذا كان من الممكن حتى تخيل طرق لتدبرها.

وبالمثل، تنشأ المشاكل عندئذ حول الطريقة التي ينبغي من خلالها أن تتم مقارنة التدابير الإلكترونية عبر الإنترنت بالهجوم الحركي المسلح في القانون الدولي الإنساني. دعونا نتخيل أن حربا حركية أو هجينة تبدأ والجانب الذي أنتم فيه لديه سببا عادلا. غير أن قادتكم السياسيون والعسكريون الآن لديهم مزيد من القرارات التي يتعين اتخاذها، بعضها ينطوي على خيارات بين استراتيجيات أو تكتيكات مبنية على الأسلحة الإلكترونية عبر الإنترنت وتلك التي تتضمن الأسلحة التقليدية. فهل ينبغي عليهم لدى مواجهتهم لتلك القرارات دائما أن يفضلوا الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت على البدائل الحركية عندما يتمتع كلا النوعين من الهجمات بفرصة معقولة (أو ربما متساوية) للنجاح؟ أم هل من الممكن للتدابير الحركية أن تكون مسوغة بالقدر نفسه أو أن يكون أحيانا تبريرها أسهل؟[13] فكما هي الحال في قانون استخدام القوة، أن تكون قادرا على اتخاذ قرارات يمكن الدفاع عنها من ناحية أخلاقية في القانون الدولي الإنساني يتطلب معرفة ما إذا كان يمكن أن تتم مقارنة مختلف أنواع التدابير بصورة مباشرة وفي أية ظروف قد يتم تفضيل أحدها على الآخر.

6.2 | أجوبة الحرب العادلة

إذا افترضنا أن الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت ليست أفعال عنف، فعندئذ تبدو الإجابة على تلك الأسئلة بسيطة نسبيا: لا، لا يمكنك موازنة الوفيات الجانبية المتوقعة بالإشارة إلى تأمين الأصول الإلكترونية عبر الإنترنت؛ ولا، ينبغي ألا تعد الأضرار الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها إحدى التكاليف في تقدير تناسب السعي وراء أهداف الحرب المشروعة؛ ونعم، مما لا جدال فيه، إن إتلاف جهاز حاسوب هو أفضال دائماً من جرح إنسان أو قتله، ولذلك ينبغي دوماً أن يتم تفضيل التدابير الإلكترونية عبر الإنترنت على التدابير الحركية في إطار القانون الدولي الإنساني. ولكنني إن كنت على حق بأن أرى بأن بعض الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت هي في الواقع أفعال عنف أو عناصر أساسية لتلك الأفعال، فإن ذلك يوحي بأنه ثمة حاجة إلى طريقة مختلفة للإجابة على تلك الأسئلة، طريقة أكثر حساسية للميزات الخاصة بمختلف أنواع الهجمات، أإلكترونية كانت أم حركية.

إذا كانت الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت تتسم بمزايا العنف، كما أُعرّفه، فعندئذ ستتصف أيضا بالميزات المعيارية المرتبطة بمفهوم العنف. ولذلك، إذا كانت كل الأمور متساوية، فيمكن أن يتم التعامل معها من المنظور الأخلاقي بالطريقة نفسها التي يتم التعامل مع غيرها من حالات العنف – بما في ذلك العنف الحركي. وبالطبع، من الممكن جدا أن تبقى الحالة بأن نوع الضرر الذي تتسبب به الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أو مقداره بالمقارنة مع الأسلحة الحركية سوف يبقى مختلفا كالعادة: بمعنى آخر، من المرجح أن تتداخل مجموعة الأضرار التي يمكن أن تتسبب بها الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت مع المجموعة التي يمكن أن يسببها العنف الحركي ولكن ليس على نحو تام؛ فلن تكونا متطابقتين كليا. ولكن في حالات التداخل، إن مثل تعني مثل. وفي تلك الحالة، يبدو من المرجح أن القوة الحركية المسلحة يمكن استخدامها للدفاع ضد التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت – والعكس صحيح.

ولذلك، لا يمكن أن يتم تقرير ما إذا كان من الممكن للتدابير الحركية الدفاعية أن تستخدم ضد هجوم إلكتروني عنيف عبر الإنترنت في أية حالة أم لا مسبقا على أساس طريقة وصف نوعي التهديد – حركي أو إلكتروني عبر الإنترنت – ولكن يجب أن يتم الحكم عليه على أساس ثلاثة عوامل: أولا، الدرجة والنوع اللذان يتصلان بالضرر الذي يشكله كل واحد منهما (أي مسائل التناسب)؛ وثانيا، المقارنة بين البدائل المختلفة فيما يتعلق بالموازنة بين التكاليف والفوائد التي من المرجح أن يتسببا بها (الضرورة)؛ وثالثا، وهو الأهم، التمييز. ولذلك، وفيما يتعلق بالتبرير، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل (وليس في وصف الخطوط العريضة). ومن الممكن أن يتم تطبيق أول معيارين ببساطة من خلال النظر إلى أنواع الضرر التدميري الذي سوف ينشأ من مختلف الأفعال التي تتم مقارنتها: لنقل بين الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت التي يرغب الاستراتيجيون في وزارة الدفاع في دولة ما دفعها وردعها وبين التدابير الحركية التي قد تكون فعالة في الرد عليها وتحقيق تلك الأهداف. فإذا ألحقت تلك التدابير الحركية أضرارا ليست غير متناسبة مع تلك التي تهدد بها الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت، عندئذ يمكن أن تستوفي شرط التناسب. وإذا كانت النسبة بين الأضرار التي تسببها تدابير الدفاع الحركي والهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت التي يجري ردعها أو صدها مثالية عندما تتم مقارنتها مع غيرها من التدابير المتناسبة التي قد يتم النظر إليها بوصفها أنماطا بديلة للرد، فيمكن حينئذ القول إن تلك التدابير تفي بشروط الضرورة. وبالتالي، فإن السؤال الباقي هو ما إذا كان الرد الحركي على الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت من المحتمل أن يفي بمعيار التمييز.

يحتاج ذلك السؤال أن تتم الإجابة عليه من الناحيتين المبدئية والعملية على حد سواء. من حيث المبدأ، فالوصف الذي أعرضه لكيفية بلوغ الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أفعال العنف (أو إسهامها فيها) يبين كيف يمكن للدفاع الحركي المتناسب الذي لا يتسبب بأضرار مهمة أكثر مما هو ضروري للحد من تهديدات منفذي الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أن يكون باستطاعته أيضا الإيفاء بمتطلب التمييز الذي يتسم بالإلحاح إلى حد ما.  وسأفترض أن التمييز يتطلب (1) أن يتم توجيه الأضرار الضرورية بحيث لا تستهدف إلا أولئك المسؤولين قانونا عنها؛ و(2) أن تكون المسؤولية ناتجة عن المسؤولية الأخلاقية عن التهديدات غير المشروعة التي تأتي التدابير الدفاعية استجابة لها.[14] وكما ذكرت آنفا، الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت تُعرّف من خلال النوايا المزدوجة للفاعل. وبناء على ذلك، يمكن القول إن أولئك المسؤولين عن تلك الأفعال مسؤولون أخلاقيا عن تبعاتها بشدة على نحو فريد: فتلك التبعات ليست متوقعة فقط وليست مستهدفة بالمعنى البسيط؛ بل يمكننا القول إن تلك التبعات “آثار مفرطة في الإصرار والتعمد”. بمعنى آخر، إنها آثار ليست مستهدفة كتبعات فحسب، وإنما هي مضمونة قدر الإمكان من خلال استخدام أساليب تقصي أيضا العوامل الأساسية التي من الممكن أن تمنعها. وبشرط أن يمكن تحديد هوية مرتكبي تلك الهجمات وأن يكون ممكنا استهداف التدابير الدفاعية المختارة بطريقة تميز بين أولئك المسؤولين والناس المارّة بطريقة مناسبة، يبدو أنها قد تفي بمتطلبات التمييز من حيث المبدأ. غير أنه من الصعوبة بمكان عادة الحصول على المعلومات حول عناصر الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت ومن المرجح أن تُحبط جهود الدول التي ترغب في الرد بطريقة يمكن أن تردع الهجمات في المستقبل بسبب “مشكلة الإسناد”. وبالتالي، فإن احتمالية استخدام التدابير الحركية على نحو دفاعي وبطريقة تفي بمتطلب التمييز في الحرب العادلة تعد مسألة مختلفة تماما من حيث الممارسة.

أخيرا، إن إمكانية تبرير الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها تدابير دفاعية ضد غيرها من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أو الهجمات الحركية سوف تعتمد على تحليل أخلاقي مشابه. فإذا كانت التدابير الإلكترونية عبر الإنترنت التي يجري النظر بها هي أيضا هجمات إلكترونية عنيفة عبر الإنترنت، حينئذ ينبغي أن يكون الضرر المدمر الذي تستهدفه إلى جانب نقاط الضعف التي ستستغلها أو تفتحها كوسيلة لضمان النجاح متناسبان مع تهديدات الضرر التي يدفعانها وضروريان على حد سواء. كما يجب أن يكونا تمييزيين لدى توزيع أضرارهما المستهدفة بطريقة تحترم حصانة الأبرياء. وبالمثل، حيثما ظهرت الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت ضمن صراع أوسع ومتعدد النطاقات أو حرب تجمع بين كل من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت والحرب الحركية، فإن معايير القانون الدولي الإنساني تكون منطبقة.  وفي القانون الدولي الإنساني، يتطلب التناسب أنه مهما كانت التدبير المستخدمة، ينبغي ألا تتسبب بأضرار جانبية للمدنيين تتميز بالإفراط مقارنة مع الأفضلية العسكرية التي يتوقع أن تؤمنها. وينبغي أن تفي كل تلك التدابير بمتطلب التمييز فيما يتعلق بالأهداف المقصودة. وإن الوفاء بتلك الاشتراطات لن يعني، في ضوء الوصف المعروض هنا، أن الهجمات الإلكترونية العنيفة عبر الإنترنت ينبغي دوماً أن يتم تفضيلها على العنف الحركي: فمن الممكن من حيث المبدأ أن تكون التدابير الحركية مفضلة في بعض الحالات، سواء لأن الأضرار التي تتسبب بها أقل شدة أو أنها مستهدفة على نحو أكثر تمييزا وانخفاضا في معدلات الأضرار الجانبية.

7 |  الخاتمة

كان محور اهتمام السؤال الذي بدأت به هو ما إذا كان ينبغي تحديد موقع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أو “الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت” بالنسبة لنظرية الحرب العادلة وكيف ينبغي فعل ذلك. ومن المرجح أن تكون لكيفية إجابتنا على ذلك السؤال تداعيات مهمة مع إمكانية التأثير المباشر على السياسات المبررة للحكومات وإحداث تأثيرات أوسع نطاقا على مسائل مثل الوضع القانوني لأولئك المتهمين بالمشاركة في عمليات إلكترونية عدائية عبر الإنترنت أثناء الصراعات (أنظر، على سبيل المثال، Blank (2015, 101)). وتتمثل المشكلة الأساسية في دمج الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت ضمن نظرية الحرب العادلة في إيجاد قاسم مشترك بينها وبين نوعية الهجمات الحركية المسلحة التي تتعامل النظرية معها من الناحية التقليدية. وناقشت أن ذلك لا يمكن أن يكون حربا، ليس من حيث المبدأ بسبب الاعتراضات التي أثارها البعض حول فكرة الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت نفسها، ولكن نظرا لحقيقة أن نظرية الحرب العادلة تهتم في الوقت الحاضر بنطاق أوسع من الأنواع المختلفة للصراع، التي يتميز بعضها بأنها أقل رسمية بكثير من الحرب بالمعنى التقليدي. وجادلت أن المفهوم الواعد بصورة أكبر هو مفهوم العنف. ولكي أثبت ذلك الادعاء، عرضت صيغة النية المزدوجة لتعريف العنف. وجادلت بأن ذلك لا يعبر فقط عما هو مميز فيما يتعلق بنطاق أنواع الأفعال التي ترتبط بصورة تقليدية بمصطلح العنف – أشياء مثل إطلاق النار من بندقية أو الضرب بلكمة – وإنما أيضا يحدد شيئا مميزا عن مجموعة فرعية من الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت. فهي هجمات تجمع بين النية لإلحاق الضرر المدمر (سواء على المعلومات أو على الأجسام والبنى المادية) وبين النية لتعظيم ضعف الضحية إزاء ذلك الضرر. وباستطاعة التقانات الإلكترونية عبر الإنترنت أن تحقق ذلك إما لوحدها، على طريقة “ستاكسنيت”، أو بالاشتراك مع غيرها من التقانات غير الإلكترونية عبر الإنترنت كما في حالة هجوم سلاح الجو الإسرائيلي في سورية في العام 2007. ففي كلتا الحالتين، تتطابق الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت بصورة وثيقة مع الممارسات النموذجية للهجمات العنيفة وبالتالي، فهي قابلة للقياس مع تلك الهجمات. ولذلك، فإن إمكانية استخدام القوة المسلحة على نحو مبرر في دفع تلك الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت في سياقات خاصة يمكن تقريرها على أساس مقارنة درجات الضرر الذي يهدد به المهاجمون والمدافعون على التوالي وأنواعه، وإلى أي مدى تكون فيه التدابير الدفاعية مميِّزة.

الوصول المفتوح توزع المقالة الحالية بموجب شروط الإصدار الرابع للرخصة الدولية للمشاع الإبداعي (http://creativecommons.org/licenses/by/4.0/) التي تسمح بالاستخدام والتوزيع والنسخ من غير حدود بأية وسيلة كانت، شريطة النسب بطريقة ملائمة للمؤلف الأًصلي (أو المؤلفين الأصليين) والمصدر، وإدراج رابط لرخصة المشاع الإبداعي، وبيان التغييرات المجراة، إن وجدت.

المراجع

Arendt, H. (2006). On revolution. New York: Penguin.

Blank, Laurie R (2015) Cyberwar versus cyber attack: the role of rhetoric in the application of law to activities in cyberspace, in Jens DavidOhlin, KevinGovern, and ClaireFinkelstein (eds) Cyberwar: law and ethics for virtual conflicts, Oxford: Oxford University Press.

Coady, C. A. J. (2008). Morality and political violence. New York: Cambridge University Press.

Dipert, R. R. (2010). The ethics of cyberwarfare. Journal of Military Ethics, 9(4), 384–410.

Durante, M. (2015). Violence, just cyber war and information. Philosophy and Technology, 28, 369–385. Fabre, C. (2012). Cosmopolitan War. Oxford: Oxford University Press.

Fabre, C. (2016). Cosmopolitan peace. Oxford: Oxford University Press.

Finlay, C. (2017). The concept of violence in international theory: a Double-Intent Account. International Theory, 9(1), 67–100.

Floridi, L. (2013). Distributed morality in an information society. Science and Engineering Ethics, 19, 727–743.

Galtung, J. (1969). Violence, peace and peace research. Journal of Peace Research, 6(3), 167–191.

Garver, N (2009) What violence is. In: Bufacchi, V (ed.) (2009) Violence: a philosophical anthology. Basingstoke: Palgrave Macmillan.

Geras, N. (1989). Our morals: the ethics of revolution. The Socialist Register, 25, 185–211. Harris, J. (1980). Violence and responsibility. London: Routledge & Kegan Paul.

Iasiello, E. (2014). Is cyber deterrence an illusory course of action? Journal of Strategic Security, 7, 1. Jacquette, D. (2013). Violence as intentionally inflicting forceful harm. Revue Internationale de Philosophie, 67, 293-322.

Lee, S (1996) ‘Poverty and Violence’, Social Theory and Practice, 22(1): 67–82.

Madden Dempsey, M. (2006). What counts as domestic violence? A conceptual analysis. William and Mary Journal of Women and the Law, 12(2), 301–333.

May, L. (2015). The nature of war and the idea of Bcyberwar^. In J. D. Ohlin, K. Govern, & C. Finkelstein (Eds.), Cyberwar: law and ethics for virtual conflicts. Oxford: Oxford University Press.

McMahan, J. (2004). War as self-defence. Ethics and International Affairs, 18(1), 75–80. McMahan. (2009). Killing in war. Oxford: Clarendon Press.

Nielsen, K. (1982). Political violence and ideological mystification. Journal of Social Philosophy, 13(2), 25–33. Obama, B (2011) International Strategy for Cyberspace: Prosperity, Security and Openness in a Networked World, available at : (https://obamawhitehouse.archives.gov/sites/default/files/rss_viewer/international_

strategy_for_cyberspace.pdf (accessed, 15 April 2017.

Rid, T. (2012). Cyber war will not take place. Journal of Strategic Studies, 35(1), 5–32. Rid, T. (2013). Cyberwar will not take place. London: Hurst.

Rousseau, J-J (1762 / 2004) The Social Contract, tr. Maurice Cranston. London: Penguin.

Schmitt, M. (2012). BAttack^ as a term of art in international law: the cyber operations context. In Czosseck, R. Ottis, & K. Ziolkowski (Eds.), Fourth International Conference on Cyber Conflict. Tallinn: NATO CCD COE Publications.

Schmitt, M. (2015). Foreword to Jens David Ohlin, Kevin Govern, and Claire Finkelstein (eds) Cyberwar: law and ethics for virtual conflicts. Oxford: Oxford University Press.

Schmitt, M., & Vihul, L. (2016). The emergence of international legal norms for cyberconflict. In F. Allhoff, A. Henschke, & B. J. Strawser (Eds.), Binary bullets: the ethics of cyberwarfare. New York: Oxford University Press.

Stone, J. (2013). Cyber war will take place! Journal of Strategic Studies, 36(1), 101–108.

Taddeo, M. (2014). What ethics has to do with the regulation of cyberwarfare. Ethics and Armed Forces, 2, 36–40.

Van der Linden, H (2012). ‘On the violence of systemic violence: A critique of Slavoj Žižek’, Radical Philosophy Review, 15:33–51.

Walzer, M. (1977). Just and unjust wars: a moral argument with historical illustrations. New York: Basic Books.

Wolff, R. P. (1969). On violence. Journal of Philosophy, 66(19), 616–628.


الهوامش

[1] للحصول على آراء مشككة، انظر (2013) Rid و(2015) May.
[2] يتم عرض صلاحية مصطلح “النزاع المسلح الإلكتروني على الإنترنت” فيما يتعلق بقابلية تطبيق القانون الدولي الإنساني، على سبيل المثال، من جانب شميت وفيهول (Schmitt and Vihul 2016, 35).
[3] حتى أن أحد الآراء القريبة من وجهة النظر تلك ينظر إلى العنف بوصفه غير مشروع من حيث التعريف: فقد عرض روبرت بول وولف حجة مؤثرة إن لم نقل غريبة في العام 1969 تستند إلى ما عده ميلا متكررا نحو التمييز بين “القوة” التي يمكن أن تكون “مشروعة” والعنف الذي تم تعريفه على طرف النقيض معها.
[4] للاطلاع على ذلك الملخص، أنظر ((2017, 71 Finlay. وللاطلاع على أمثلة، أنظر، على سبيل المثال، المفهوم الدقيق الذي لا يتفق معه هاريس Harris 1980, 15))، وأيضا مادن ديمبسي (Madden Dempsey 2006, 310-11) وجاكويه Jacquette 2013))، وقارن جراس (Geras 1989, 187).
[5] من أجل الاستخدام الشائع، أنظر معجم أكسفورد الإنجليزي، حيث يعرف العنف على أنه “سلوك يتضمن استخدام القوة البدنية ويهدف إلى إيذاء شخص أو شيء ما أو الإضرار به أو قتله”.  لاحظ أنه يقدم استخداما قانونيا محددا كبديل: “القانون: الممارسة غير المشروعة للقوة الجسدية أو الترهيب من خلال إظهار تلك القوة”. وأما الآخر هو مفهوم وولف (Wolff 1969) عن العنف. للنقاشات العلمية على غرار ذلك، أنظر كودي (Coady 2008).
[6] أنظر أيضا غالتونغ (Galtung 1969؛ قارن Coady 2008, 24-9) وغارفر (Garver 2009) الذي يوسع الفئة لتشمل “العنف المؤسسي الخفي”؛ ولي Lee 1996, 330))، حول “الاستمرارية الأخلاقية بين أضرار الاضطرابات الاجتماعية وأضرار النظام الاجتماعي”.
[7] في الحالات التي يكون فيها التسميم “بطيء المفعول” ويتطلب “جرعات متكررة”، تكون “آثارها القاتلة تدريجية وتراكمية”، كما يكتب كودي، “أظن أنه ينبغي ألا نطلق على التسميم فعلا عنيفا” (بينما السموم “سريعة المفعول” مثل التي يتم نشرها في الحرب من شأنها أن تشكل حالة “واضحة إلى حد ما” “كفعل عنيف”). ويقول إن الأنواع السابقة للحالة تنتمي إلى “نطاق يتوضع على حدود غير واضحة المعالم بين العنف واللاعنف” (2008, 41).
[8] أشكر جوزيف ناي على إقناعي بمناقشة ذلك التمييز.
[9] يعد العنف مصدر قلق على وجه الخصوص، بناء على توصيفي، وذلك مرده إلى نزوعه الشديد لضمان إلحاق الأضرار من خلال خلق نقاط متزامنة للضعف. وبالتالي، فمن الممكن أن السرقة في بعض أشكالها والعنف في كل أشكاله يشتركان بتلك الميزة المثيرة للقلق. وفي تلك الحالة، فالعنف ليس بالضرورة أسوأ من السرقة في حال كانت العوامل الأخرى متساوية.
[10] بالنسبة إلى التعقيدات الأخلاقية للتعويض في سياق ما بعد الحروب، أنظر (2016) Fabre الفصل 5، وحول الاختلافات بين إعادة البضائع المستولى عليها والتعويضات عن البضائع المدمرة، أنظر ص117.
[11] يكتب ستيفن لي قائلا إنه إذا حدث وأن أردنا إعادة تعريف “حالات الظلم المؤسسي” بوصفها “أشكال عنف”، “فمن شأن ذلك أن يكون ذا صلة لتحديد ما إذا كان الرد العنيف مسوَّغا من جانب أولئك الذين تتم معاملتهم معاملة ظالمة، بما أن عنف العدوان يمكن أحيانا أن يسوغ الدفاع العنيف” حسب المفاهيم الأخلاقية الشائعة (Lee 1996, 68؛ وأيضا der Linden 2012).

[12] حول الاستخدامات الممكنة للانتقام الحركي على سبيل الردع، أنظر (2014) Iasiello. ويعلق مايكل شميت ولِيس فيهول على السؤال المثير للجدل حول “متى تكون العمليات الإلكترونية عبر الإنترنت وحدها مؤهلة كأعمال عدائية لغرض الشروع بنزاع مسلح” (في Schmitt and Vihul 2016, 36).

[13] مجددا، أنظر ((2016, 36 Schmitt and Vihul وأنظر أيضا (2012) Michael Schmitt.

[14] في هذا الصدد، إنني أتبع التحليل العام الذي يسوقه جيف ماكماهان. أنظر، على سبيل المثال، (2009) McMahan.


بحث علمي لـ كريستوفر فينلي | ترجمة : د. علاء الدين الزهران | المصدر

د. علاء الدين الزهران

د/ علاء الدين الزهران حاصل على البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة حلب، سوريا (1999)، والماجستير في الترجمة العربية/الإنجليزية التحريرية والفورية (2004) ودكتوراه فلسفة في دراسات في الترجمة الفورية (2007) من جامعة سولفورد في المملكة المتحدة. د/ الزهران عمل كمدرس للمواد النظرية والعملية للترجمة التحريرية والفورية والترجمة بمساعدة الحاسوب واللغة الإنجليزية واللسانيات التطبيقية في خمس جامعات في المملكة المتحدة وسوريا والأردن لطلبة البكالوريوس والماجستير، ويعمل حاليا أستاذ مساعد في دراسات في الترجمة الفورية والتحريرية في جامعة صحار، سلطنة عمان. وتتركز الاهتمامات البحثية للدكتور الزهران على التواسط الثقافي ودور المترجم، وسياسات الترجمة، واستراتيجيات الترجمة الفورية، وتدريب المترجمين التحريريين والفوريين. ومنذ العام 1999، يعمل الدكتور الزهران كمترجم تحريري وفوري مستقل، ومدقق للترجمة وحاليا مستشار ترجمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى