لا تستطيع أقوى أجهزة الكمبيوتر إجراء الترجمة الفورية الدقيقة التي يجريها المترجمون الشفويون بكل بساطة. يجتمع جيف واتس بعلماء الأعصاب الذين بدأوا شرح هذه القدرة الاستثنائية.
في صباح أحد أيام هذا الصيف زرت وكالة الأمم المتحدة الوحيدة في لندن. ويقع المقر الرئيسي للمنظمة البحرية الدولية على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، وعلى بعد مسافة قصيرة من بيوت البرلمان. عند وصولي، رأيت مقدمة سفينة منحوتة من المعدن ومتصلة كأنف بالطابق الأرضي لهذا المبنى الراقي. التقيت في الداخل بالعديد من مترجمي المنظمة البحرية الدولية؛ وأغلبهم من الإناث، وكانوا مبتهجين وحديثهم لبق وملابسهم أفضل مما قد تتخيل بالنسبة لأشخاص كثيرًا ما نسمعهم ونادرًا ما نراهم.
مشيتُ إلى مقصورة ذات واجهة زجاجية في الطابق العلوي، وتجهزت لأشهد شيئًا بغاية الروعة واعتيادي تمامًا… كانت المقصورة بحجم مستودع الحديقة، جيدة الإضاءة لكنها خانقة، ويوجد أسفلنا قاعة الوفود التي تحتوي مكاتب منحنية الشكل، والقاعة نصف ممتلئة ومعظمها رجال يرتدون البدلات الرسمية. جلست بين ماريسا بينكني وكارمن سولينيو وهما اثنتان من المترجمين الشفويين. سرعان ما بدأ المندوب الأول حديثه، فتحت بينكني مكبر الصوت الخاص بها، توقفت لفترة وجيزة وبعدها بدأت بترجمة حديث المندوب من الإنجليزية إلى الإسبانية.
دعونا نتطرق إلى التفاصيل لنعرف ما قامت به ذاك الصباح. كان على بينكني -أثناء حديث المندوب- فهم معنى الخطاب المؤلف من لغة واحدة، وفي الوقت ذاته عليها صياغته ونطقه بلغة أخرى. تطلبت هذه العملية مزيجًا استثنائيًا من المهارات الحسية والحركية والمعرفية التي يجب أن تعمل في انسجام تام. نفذتها بشكل متواصل -وفي الوقت ذاته- ودون أن تطلب من المتحدث أن يتمهل أو يوضح أي شيء. لم تتلعثم أو تتوقف. لا شيء في تاريخنا التطوري يمكن أن يبرمج دماغ بينكني للقيام بهذه المهمة المتميزة والشاقة، والتي يتطلب تنفيذها البراعة والوضوح دون الحاجة لأقوى أجهزة الكمبيوتر. إنه لأمر عجيب أنه بإمكان دماغها بل أي دماغ بشري فعل ذلك على الإطلاق.
لقد استكتشف علماء الأعصاب اللغة منذ عقود، وأعدوا العديد من الأبحاث حول متعددي اللغات، إلا أن فهم هذه العملية -الترجمة الفورية- هو تحدٍ علمي كبير للغاية. هناك أشياء كثيرة تجري في عقل المترجم، بحيث يصعب علينا معرفة من أين سنبدأ، ولكن في الآونة الأخيرة واجه عدد من المتحمسين هذا التحدي، وبالفعل لفتت منطقة واحدة من الدماغ -النواة المذنبة- انتباههم.
هذه النواة المذنبة ليست منطقة مختصة باللغة، ويعرف علماء الأعصاب هذه المنطقة بدورها في عمليات أخرى مثل صنع القرار والثقة. إنها تشبه المايسترو فهي تنظم النشاط عبر العديد من مناطق المخ؛ لإنتاج سلوكيات معقدة بشكل مذهل، ما يعني أن نتائج الأبحاث التي أجريت على الترجمة الفورية مرتبطة إلى حد كبير بأحد أكبر الأفكار، التي انبثقت من علم الأعصاب على مدار العقد أو العقدين الماضيين. بات الأمر جليًا الآن أن العديد من قدراتنا الأكثر تطورًا أصبحت ممكنة، ليس من خلال مناطق الدماغ المتخصصة لأداء مهام محددة، ولكن من خلال التنسيق السريع جدًا الذي يحدث بين المناطق التي تتحكم بالمهام العامة كالحركة والسمع، وعلى ما يبدو فإن الترجمة الفورية إنجاز آخر أصبح ممكنًا بفضل شبكات الدماغ المترابطة.
غالبًا ما تثير الترجمة الفورية الشعور بالدراما، وقد يكون سبب ذلك تاريخها المتعلق بإنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، التي أثبتت الحاجة إليها وأثبت استخدام هذه التقنية خلال محاكمات كبار النازيين في نورمبرغ قوتها. لكن لا تزال هناك شكوك قائمة حول مدى دقتها، حيث لم يعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الترجمة الفورية بشكل كامل حتى أوائل سبعينيات القرن العشرين. تقول باربرا موسر ميرسر (مترجمة وباحثة بجامعة جنيف): “حتى حينها لم يثقوا أبدًا بالمترجمين الفوريين”، ولكن الآن انضمت بروكسل إلى العاصمتين التقليديتين لعالم المؤتمرات المتعددة اللغات -مكاتب الأمم المتحدة في جنيف ونيويورك- إذ يضم الاتحاد الأوروبي الآخذ في التوسع المزيد والمزيد من اللغات، ويبلغ المجموع الحالي 24 لغة، وتنطوي بعض الاجتماعات على ترجمة شفوية لكل لغة.
عند النظر من الأعلى إلى الوفود في المنظمة البحرية الدولية؛ فقد تذكرت ذلك المنظر من مقصورة قبطان أو من معرض استوديو تلفزيوني. انتابني شعور بالسيطرة وبالنظر إلى ردة الفعل المعاكسة التي شعرت بها؛ فإن السيطرة هي الشيء الوحيد الذي يفتقر إليه المترجمين الشفويين، فالكلمات التي ينطقونها وسرعتهم في الحديث يقررها أشخاص آخرون. وعلى الرغم من أن بينكيني وسولينيو كانت لديهما نسخًا من بعض الخطابات المعدَّة لذلك الصباح، كان يجب عليهما أن تكونا على درايةٍ تامةٍ بالدعابات الجانبية، حيث يعتبر التلاعب اللفظي والتعابير الساخرة والنكات الخاصة بثقافات معينة كابوسًا للمترجم. وكما أشار أحد المترجمين الشفويين في مقال أكاديمي: “على المترجمين أن يتجنبوا استخدام التلاعب اللفظي المستند على كلمة واحدة ذات معانٍ متعددة في لغة المصدر، إذ لن تكون النتيجة على الأرجح مضحكة تمامًا”.
كان العديد من المندوبين يتحدثون الإنجليزية، لذلك كان الضغط على آن مايلز في مقصورة اللغة الإنجليزية في آخر الممر متقطعًا، وتتحدث مايلز الفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية وعملت مترجمة لمدة 30 عامًا. أخبرتني في الفترة الفاصلة بين الترجمة عن تحدٍ آخر يواجهه المترجمون الشفويون يوميًا، هو ترتيب الكلمات. في اللغة الألمانية يمكن أن تأتي كلمة (نيشت) والتي تعني (ليس) بالإنجليزية في نهاية الجملة، لذا قد تكون متحمسًا لقول شيء ما لكن المتحدث ينهي كلامه بكلمة “نيشت”. ولكن إذا كنت من مواطني ألمانيا؛ فيمكنك توقع كلمة “نيشت” من خلال النبرة. ويشكل ترتيب الكلمات مشكلة خاصة في الاجتماعات التي تتحدث عن الأسماك، والتي قالت مايلز إنها تخشاها. عندما يتحدثون حول مجموعة معينة من الأسماك في جملة طويلة، وفي تلك اللغة يأتي فيها الاسم -أي اسم السمكة – في النهاية، لذا لا يستطيع المترجم أن يخمن الفاعل في الجملة إلا حين تكتمل.
وهناك الطابع الفكاهي في هذه المزالق بالطبع. أخبرتني مايلز عن اجتماع زراعي ناقشت فيه الوفود السائل المنوي المجمد للثور، إذ ترجم مترجم فرنسي هذه الجملة إلى “matelot congelés” أيّ “البحارة المتجمدين”، وشاركت أيضًا خطأً من جانبها نتج عندما تحدث أحد الوفود عن الحاجة إلى تسوية شيء ما، وقال ” avant Milan ” أي يعني قبل ميلان، وكانت هذه المدينة مكانًا لعقد الاجتماع القادم. لم تكن مايلز على علم بقمة ميلانو لذلك ترجمتها إلى إن القضية لن يتم تسويتها لـ “mille ans” أيّ ما يعني “ألف سنة”.
بعض الأشخاص يتحدثون بسرعة، “وهناك عدة استراتيجيات لذلك، ويعتقد بعض المترجمين الفوريين أنه من الأفضل التوقف فقط وقول إن المندوب يتحدث بسرعة كبيرة”. مايلز نفسها لا تجد هذا الأمر مجديًا؛ لأن الناس يتمتعون بوتيرة طبيعية، فإذا طلبت منه أن يتمهل من المرجح أنه سيتحدث بالسرعة ذاتها مرة أخرى. إن البديل الأنسب لهذا هو التلخيص “عليك أن تكون سريع الاستيعاب؛ فالأمر لا يعتمد على المهارات اللغوية فقط في هذه الوظيفة، بل يجب عليك أن تكون سريع البديهة وأن تتعلم بسرعة”.
إن هذا النوع من التحديات يجعل الترجمة الفورية متعبة، ويفسر لماذا يَتَناوَب المترجمون الفوريون للراحة كل نصف ساعة. والمشاهدة عبر الفيديو أسوأ من ذلك. وأخبرتني مايلز أنهم لا يحبونها على الإطلاق، وأكدت الدراسات أن هذه العملية أكثر إرهاقًا وتوترًا، ربما لأن لغة الجسد وتعبيرات الوجه تعد جزءًا من الخطاب، ويصعب فهمه عند العمل عن بُعد. وقالت مايلز: “إنك تحصل على إشارات بصرية أقل عما يجري حتى عند التواصل عبر الفيديو”.
وهناك أيضًا الشعور بالضجر، قد تكون محادثات الأزمة في نيويورك محتدمة، لكن السياسي العادي ناهيك بالخبير الفني متوسط المستوى في اللوائح البحرية من غير المرجح أن يثير اهتمامًا للفت الانتباه لساعات متتالية، لذا قد يغفو الجمهور، ولكن يجب على المترجم أن يبقى يقظًا. بينما أبحر الاجتماع في ضباب متعدد اللغات من المجاملات والقرارات الإجرائية ولكلٍ منها أقسام ومواد فرعية أدركت حينها كيف يمكن أن تكون هذه اليقظة متعبة؛ فقد كنت مذهولًا من ثبات المترجمين، إذ إنني غفوت في عدة مؤتمرات علمية حتى عندما ترأست أحدها.
تدربت موسر ميرسر كمترجمة شفوية -وتتحدث الألمانية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة- قبل أن تدرس علم الأعصاب، وتقول “لقد شعرت بالفضول حول ما يجري في ذهني أثناء الترجمة؛ ففكرت أنه لا بد أن تكون هناك طريقة لمعرفة ذلك”. عندما وصلت إلى جامعة جنيف في عام 1987 لم تكن هناك طريقة؛ فقسم الترجمة الشفوية كان معنيًا بالتدريب وليس بالبحث، لذلك شرعَت في إنشاء واحد بالتعاون مع الزملاء في قسم علوم الدماغ.
وكما أخبرني نارلي جولستاني رئيس مجموعة مختبرات الدماغ واللغة بالجامعة أثناء زيارة أجريتها مؤخرًا أن اللغة هي إحدى الوظائف المعرفية البشرية الأكثر تعقيدًا، لذلك كان هناك الكثير من العمل على الثنائية اللغوية، ودائمًا ما كانت الترجمة الفورية تتقدم على ذلك خطوة واحدة؛ لأن اللغتين تنشطان في آن واحد. وليس فقط بصيغة واحدة لأن عليك الفهم والترجمة في الوقت ذاته، لذا فإن مناطق الدماغ المعنية تذهب إلى مستوى عالٍ للغاية يتجاوز اللغة.
في جامعة جنيف -وكما هو الحال في العديد من مختبرات علم الأعصاب الأخرى- فإن الأداة المفضلة هي التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)؛ فعند استخدامه يمكن للباحثين مراقبة الدماغ وهو يؤدي وظيفة محددة، وهذا الشيء ينطبق على الترجمة الفورية، فقد كشفت بالفعل شبكة من مناطق الدماغ التي تجعل هذه العملية ممكنة. إحدى هذه المناطق هي منطقة بروكا، والمعروفة بدورها في إنتاج اللغة والذاكرة العاملة، وهي الوظيفة التي تتيح لنا فهم ما نفكر فيه وما نقوم به، وترتبط هذه المنطقة أيضًا بالمناطق المجاورة التي تساعد على التحكم في إنتاج اللغة وفهمها. يقول جولستاني “في الترجمة الفورية عندما يسمع شخص ما، وينبغي عليه الترجمة والتحدث في نفس الوقت؛ فإنه يحدث تفاعل وظيفي قوي للغاية بين هذه المناطق”.
يبدو أن العديد من المناطق الأخرى معنية بذلك، وهناك روابط لا تعد ولا تحصى فيما بينها. أدى تعقيد هذه الشبكة إلى ردع موسر ميرسر من التعامل معهم جميعًا مرة واحدة لأن الكشف عن وظيفة كل مكون سيكون أمرًا صعباً. بالرغم من ذلك، فقد كان الباحثون في جامعة جنيف يتعاملون مع كل عنصر على أنه صندوق أسود، ويركزون على فهم كيفية ترابط وتناسق هذه الصناديق. يقول أحد أعضاء الفريق أليكسيس هيرفيز أدلمان “إن بحثنا يدور حول محاولة فهم الآليات التي تمكن المترجم الشفوي من التحكم في هذه الأنظمة في وقت واحد”. برزت منطقتان ألا وهما النواة المذنبة والبَطامَة في المخطط وهما جوهر الدماغ القديم التطوري، ويعتبران مفتاحًا لمهمة الإدارة التنفيذية. يعرف علماء الأعصاب بالفعل أن هذه الهياكل تلعب دورًا في المهام المعقدة الأخرى بما في ذلك التعلم والتخطيط وتنفيذ الحركة. وحسبما يقول هرفيس أدلمان وزملاؤه أن هذا يعني أنه لا يوجد مركز عقل واحد مخصص حصريًا للتحكم بالترجمة الفورية. كما هو الحال مع العديد من السلوكيات البشرية الأخرى التي تمت دراستها باستخدام الرنين المغناطيسي الوظيفي، واتضح أن هذا الإنجاز يتم من خلال مساهمة مناطق متعددة. ومناطق المخ التي تتحكم في هذه العملية هي المناطق المسؤولة عن الوظائف العامة وليست المتخصصة بمهام محددة.
واحدة من المحفزات التي جعلتني أكتب هذا المقال كانت تلك المحادثة التافهة حين أخبرني أحدهم عن مترجم فوري بارع لدرجة أنه يستطيع حل الكلمات المتقاطعة أثناء العمل. ولم يذكر أيّ اسم أو أيّ تاريخ أو مكان، لذلك كنت متشككًا بعض الشيء؛ فتواصلت مع بعض المترجمين الفوريين المحترفين فقط للتحقق من ذلك. اعتقد أحدهم أن الشخص سمع شائعة بينما نفاها الآخرون وقالوا أنها مجرد أسطورة حضرية.
سألت موسر ميرسر إن كان المترجمون الشفويون يفعلون أي شيء آخر أثناء الترجمة الشفوية؛ فأجابتني: في وظيفة تهيمن عليها النساء، بعض الحياكة -والتي اعتادت عليها عندما كانت هواية أكثر شعبية، ويمكنك أن ترى كيف يمكن للعمل اليدوي المعتاد أن يكمل النشاط الدماغي للترجمة. لكن لغز الكلمات المتقاطعة؟ موسر ميرسر لم تجرب ذلك، لكنها تقول لي أنه في ظل ظروف استثنائية -عندما يكون الموضوع مألوفًا، ويكون المتحدثون واضحين، وما إلى ذلك- إنها قد تتمكن من فعلها.
إن مثل هذا العمل الفذ، والذي قد يبدو ممكنًا، يشير إلى أنه بالفعل هناك أشياء مثيرة للاهتمام تحدث في أدمغة المترجمين الفوريين. وهناك أسباب أخرى للاعتقاد بأن أدمغة المترجمين الفوريين تكونت من خلال مهنتهم. على سبيل المثال فإنهم يجيدون تجاهل أنفسهم؛ ففي الظروف العادية إن الاستماع إلى صوتك أمر ضروري لمراقبة كلامك. ولكن على المترجمين الشفويين التركيز أكثر على الكلمة التي يترجمونها، ولذلك هم يتعلمون إيلاء اهتمام أقل لصوتهم.
قد تنتقل بعض العادات المكتسبة من مكان العمل إلى المنزل، وإحدى الطرق التي يكتسب المترجمون الشفويون والمتمرسون السرعة من خلالها هي تعلم التنبؤ بما سيقوله المتحدثون. وقالت موسر ميرسر “بغض النظر عمن أتحدث إليه، وما إذا كنت أرتدي سماعة رأس أم لا؛ فإنني دائمًا أتوقع نهاية الجملة، ولن أنتظرك أبدًا حتى تنهي جملتك”. وكثير منا -من المترجمين الفوريين- يعرفون ذلك من أزواجهم وأطفالهم، وحين يقولون “لم تسمح لي أبدا أن أنهي…” وهذا صحيح، نحن دائمًا نحاول مقاطعتهم .
يجب أن يكون المترجمون الفوريون قادرين على التعامل مع الضغوطات وضبط النفس عند العمل مع متحدثين صعبين. لقد قرأت مراجعة استندت على استبيانات وُزعت على مترجمين شفويين، وأشارت إلى أن أعضاء المهنة يكونون متوترين للغاية ومزاجيين وحساسين ويصعب التعامل معهم، نتيجة لامتهانهم الترجمة الشفوية، ولكنني لم أرَ ذلك في ماريسا أو كارمن أو آن.
طلب باحثو جنيف قبل بضع سنوات من 50 طالبًا متعدد اللغات الاستلقاء في ماسح للدماغ، وإجراء سلسلة من التمارين اللغوية. في أحد التمارين كان عليهم الاستماع فقط إلى جملة وعدم قول شيء، وكان التمرين الآخر أن يكرر الطلاب الجملة بنفس اللغة. أما التمرين الثالث كان الأكثر مشقة؛ فقد طُلب منهم تكرار ما يسمعونه، وهذه المرة ترجمته إلى لغة أخرى.
من الناحية الإدراكية فإنها تبدو خطوة كبيرة. كان على الطلاب في البداية أن يستمعوا فقط ثم يكرروا، والمهمة الثالثة تتطلب منهم التفكير في المعنى وكيفية ترجمته، أن يمارسوا الترجمة الفورية. لكن لم يكشف هذا الفحص عن أي حركة عصبية. يقول هيرفيس أدلمان “إنه لم يكن هناك قدر كبير من التفاعل الإضافي. على سبيل المثال لا يوجد أي نشاط إضافي في المناطق المتخصصة بالفهم أو النطق، لقد اقتصر الأمر على مجموعة من المناطق المحددة التي تتعامل مع الحمل الإضافي للترجمة”. شملت هذه المجموعة المناطق التي تتحكم في الحركة؛ كالقشرة الحركية و النواة المذنبة، وبعبارة أخرى فإن الترجمة الفورية ربما تتعلق بإدارة الموارد المتخصصة بدلاً من أن تزيدها بشكل كبير.
لا تزال هذه الفكرة غير مؤكدة ولكن فريق جامعة جنيف أعطاها أهمية عندما دعوا بعض الطلاب أنفسهم إلى إجراء التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي بعد أكثر من عام بقليل. خلال تلك الفترة خضع 19 شخص من العائدين للتدريب على الترجمة الفورية للمؤتمرات لمدة عام، بينما درس الآخرون أشياء ليست لها صلة بهذه المواضيع. لقد تغيرت أدمغة المتدربين على المترجمة الفورية ولا سيما أجزاء من النواة المذنبة اليمنى، ولكن ليس بالطريقة التي قد تتوقعها، إذ قلّ النشاط هناك أثناء مهمة الترجمة. ومن المحتمل أن النواة المذنبة قد أصبحت أكثر كفاءة في التنسيق، أو ربما تعلمت كيفية نقل المزيد من المهام إلى هياكل أخرى.
ويقول ديفيد غرين عالم الأعصاب في كلية لندن الجامعية الذي لم يشارك في أبحاث جنيف “قد يرجع السبب إلى أنه كلما أصبح الناس أكثر خبرة في الترجمة الفورية، قلّت الحاجة لهذا النوع من الاستجابة المتحكم بها التي توفرها النواة المذنبة. إذ تلعب النواة المذنبة دوراً في السيطرة على جميع أنواع المهارات. هناك أبحاث تثبت أنه كلما أصبح الناس ماهرين في أداء مهمة ما، قلّ التفاعل”.
والخلاصة التي خرجت بها أبحاث جنيف -أن الترجمة الشفوية تدور حول التنسيق بين مناطق الدماغ المتخصصة أكثر- أكدها وصف المترجمين الشفويين لكيفية أدائهم عملهم. ولكي يتسم المترجم الشفوي بالفعالية فإنه يحتاج إلى مجموعة من الأساليب. تقول موسر ميرسر التي لا تزال تقوم بالترجمة الشفوية لمدة 40 و50 يومًا في السنة بوكالات الأمم المتحدة “يجب أن تتكيف عملية الترجمة مع الظروف المختلفة، فقد تكون جودة الصوت رديئة، أو قد يتحدث الشخص بلكنة أو قد يكون موضوعًا لا أعرف الكثير عنه. وعلى سبيل المثال لن أترجم لمتحدث سريع بالطريقة نفسها التي سأترجم فيها لمتحدث بطيء. إنها مجموعة مختلفة من الاستراتيجيات. ليس لديك الوقت للتركيز على كل كلمة تسمعها لذا عليك أخذ الكلمات المفتاحية. قد تكون هذه العمليات المرنة لشبكات الدماغ التي تقوم عليها الترجمة الشفوية تسمح للمترجمين الشفويين بتحسين استراتيجيات التعامل مع أنواع الخطابات المختلفة. ويمكن لمختلف المترجمين الشفويين الذين يستمعون إلى نفس الحديث استخدام استراتيجيات مختلفة”.
كما أن نتائج فريق جنيف تتناسب مع موضوع أوسع في علم الأعصاب. عندما أصبح التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي متاحًا على نطاق واسع في التسعينيات، هرع الباحثون لتحديد مناطق الدماغ التي تنطوي على كل سلوك يمكن تصوره تقريبًا (نعم، بما في ذلك الجنس، إذ قام عدد من الباحثين بمسح أدمغة أشخاص يحظون بنشوة جنسية). ولكن لم تثبت تلك البيانات أنها مفيدة جدًا بمفردها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن السلوكيات المعقدة لا تسيطر عليها مناطق الدماغ الفردية. وأصبح التركيز الآن على فهم كيفية تفاعل مختلف المناطق مع بعضها. وقد عرف علماء الأعصاب أنه عند النظر في احتمالية شراء شيء ما. على سبيل المثال، تعمل شبكة من المناطق التي تشمل قشرة الفص الجبهي والإنسولا على مساعدتنا في تحديد ما إذا كان السعر صحيحًا أم لا. إن التفاعل بين مجموعة أخرى من مناطق الدماغ، بما في ذلك القشرة الشمية الداخلية وقرن آمون (الحُصين) يساعد على تخزين ذكرياتنا عن الطرق الرابطة بين الأماكن.
وقد أصبح هذا الفهم الأكثر تطورًا ممكنًا جزئيًا بفضل التحسينات في تقنية المسح بالرنين المغناطيسي. أما في حالة النواة المذنبة فيمكن الآن تمييز نشاطها عن الأجزاء الأخرى من العقد القاعدية، وهي منطقة الدماغ الأكبر والتي تقع بداخلها. وكشفت عمليات المسح الدقيقة أن النواة المذنبة غالبًا ما تشارك في الشبكات التي تنظم الإدراك والعمل، وهو الدور الذي يضعها بشكل غير عادي في قلب مجموعة متنوعة من السلوكيات. كما لاحظ فريق من الباحثين البريطانيين في مراجعة عام 2008 وأظهرت دراسات أن النواة المذنبة تساعد في التحكم في كل شيء بدءًا من قرار فأر بالضغط على ذراع ما إلى قرار شخص بشأن مقدار ثقته بشريكه في التبادل المالي.
سألت أحد مؤلفي المراجعة وهو، جون باركنسون، من جامعة بانجور في ويلز إذا ما كان قد توقع أن يكون للنواة المذنبة تأثير على الترجمة الفورية، وقال إنه في البداية لم يتوقع ذلك “إذ تسهم النواة المذنبة عندما يعزم على القيام بعمل ما محددة بهدف، وليست المسؤولة عن القيام بعمل ما، ولكن عن سبب قيامك بذلك”، ثم فكر فيما يفعله المترجمون الفوريون، ولأن أجهزة الكمبيوتر تترجم عن ظهر قلب غالبًا ما تكون نتائجها مضحكة. بينما يجب على البشر التفكير في المعنى المقصود. يقول باركنسون “يجب على المترجم الفوري فعلًا محاولة تحديد ماهية الرسالة وترجمتها”، ويتفق على أن مشاركة النواة المذنبة منطقية.
نظرًا لأن أبحاث جنيف تتخذ قسمًا مكلف بتدريب المترجمين الفوريين مقرًا لها جزئيًا، فمن الطبيعي أن نتساءل عما إذا كانت نتائجهم العلمية قد تجد في نهاية المطاف تطبيقًا عمليًا مباشرًا. وتحرص موسير ميرسر وزملاؤها على تجنب الادعاءات المبالغ فيها واستبعاد الاقتراحات التي تفيد بأن الماسحات الضوئية الدماغية قد تستخدم لتقييم التقدم أو اختيار المرشحين، الذين لديهم القدرة على الترجمة الفورية. ولكن حتى لو لم تؤدِ دراسة الترجمة الفورية إلى تطبيقات فورية، إلا أنها وسّعت بالفعل معرفتنا بالمسارات العصبية التي تربط التفكير بالممارسة، وقد تساعد علماء الأعصاب على اكتساب فهم أعمق لشبكات الدماغ في المستقبل. يريد فريق جنيف بعد ذلك استكشاف فكرة أن بعض الجوانب عالية المستوى من الإدراك قد تطورت من سلوكيات تطورية أقدم وأبسط، ويقترحون أن الدماغ يبني ذخيرته المعرفية المعقدة على مستوى أقل مما يسمونه العمليات “الأساسية” مثل الحركة أو التغذية. أخبرتني موسر ميرسر وزملاؤها في رسالة بريد إلكتروني “ستكون هذه وسيلة فعالة للغاية للقيام بالأشياء، ومن المنطقي أن يتطور الدماغ من خلال إعادة استخدام أو مواءمة معالجاته للقيام بمهام متعددة، ومن المنطقي أيضًا ربط المكونات المعرفية للتحكم مباشرة بالنظام، الذي سيكون مسؤولاً عن التأثير على السلوك”، وقد تكون الترجمة الفورية بعلاقتها الوثيقة والمبنية على التبادل بين الإدراك والفعل بمثابة سرير اختبار مثالي لمثل هذا التفكير.
بقلم: جيف واتس | ترجمة: مريم الريامي | تدقيق الترجمة: مريم الغافري | تدقيق لغوي: محمد الشبراوي | المصدر