العلوم الاجتماعيةعلم النفس

على محمل الجَد: ماذا يمكن أن تفعل الكوميديا؟

مقال لـ ماري أوهارا

بعد سنواتٍ قضتْها في نوادي الكوميديا السوداءِ والغرفِ المزدحمةِ أعلى الحانات؛ أصبحتْ ماري أوهارا تُدركُ ما الذي يجعلُها تضحك. لكن ما الشيءُ الآخرُ الذي يمكنُ أن تفعلَه دعابةٌ جيدة؟ التقتْ أوهارا بالمُمثلين والباحثين الذين قالوا أنَّ الكوميديا يُمكنُها تغيير طريقة تفكيرِنا والطريقة التي نتصرفُ بها كذلك.

ذاتَ مرَّةٍ، أعطتْ ميف هيغينز مهمَّةً لنفسِها، حيثُ أرادت الممثلةُ الكوميدية الأيرلندية الأصلِ أن ترى كيف ستكونُ الحياةُ إذا توقفتْ عن الضحكِ على أشياء لم تكنْ مضحكةً بالفعل. فتبيَّنَ لها أنَّ الأمرَ لم يكن سهلاً كما اعتقدتْ. تقولُ أن “الأمرَ كان بالغَ الصُّعوبة”. وأضافتْ أن “الضحكَ هو شيءٌ مترسِّخٌ فينا ومُتوقَّعٌ مِنا،  ومن الصعبِ حقًّا عدمُ القيام به.”

الوقتُ يشيرُ إلى الحاديةِ عشرة من مساءِ ليلةِ ثلاثاءٍ باردةٍ تقشعِرُّ منها الأبدانُ في نيويورك، عندما كانت هيغنز وصديقُها جون رونسون يتجمعان وراءَ الكواليسِ خلفَ ستارةٍ سوداءَ سميكة يُفكران في كيف كانت الحفلةُ الأخيرةُ في سلسلةِ عرضِهم الهزلِيِّ (ستاند أب) الشَّهريّ ? I’m New Here – Can You Show Me Around . لقدْ كانوا سُعداء. حيثُ التقى الكوميديون تلك الليلة برفقةِ المُقامرين، مع حِشدٍ صغيرٍ من الشبابِ الرائعين الذين تحدَّوْا الطقسَ القاسي للجلوسِ في مكانٍ مُكتَظٍّ و خافِتِ الإضاءةِ في ركنِ حانة – كلُّ ذلك بحثًا عن القليلِ من الضحك.

يستندُ العرضُ على نحوٍ تامٍّ إلى موضوعِ الحيرةِ من الوصولِ إلى مدينةٍ جديدةٍ في الأوانِ الأخير، حيثُ لم تكن هيغنز ورونسون في بروكلين منذُ فترةٍ طويلة. تشيرُ هيغنز (ممثلةٌ كوميدية مبدعةٌ ومؤلفة وشخصية تلفزيونية في موطنها الأم أيرلندا) و رونسون (المعروف باسمِ الكاتبِ الأكثر مبيعًا لـ The Psychopath Test و The Men Who Stare at Goats) إلى أنَّ هناك شيئًا مميَّزًا بشكلٍ خاصٍّ عن كونِك جزءًا من التجربةِ المشتركةِ التي تتمثلُ في كوميديا حيَّة – تلك الخيمياءُ الغريبةُ التي تحدثُ عندما يجتمعُ الناسُ معًا على وجهِ التحديدِ للضحك (أو بحسبِ جودةِ العروض).

يقولُ رونسون: “إن هناك ترابطا”. “هذا ما يدورُ حولَه هذا العرض. الأمرُ يتعلقُ بنا وبالجمهورِ مرتبطين مع بعضِنا البعض … هناك أمرٌ ما حولَ أن تكونَ في نفسِ الغرفةِ مع شخصٍ ما، وقراءةِ لغةِ الجسدِ لبعضِكم البعض أيضًا”. 

إنه شيءٌ جماعيٌّ حتمًا؛ يوحي بالراحةِ والمتعة “. رُبما، كما تقول، لأن الجماهيرَ تميلُ إلى الانخراطِ في نوادي الكوميديا، تصبحُ العروضُ العَرضيَّةُ غير المقصودةِ كعلماءِ الأنثروبولوجيا تراقبُ كيف يتفاعلُ الأفرادُ عندما تأتي على مسامعِهم دعاباتٌ أو قصصٌ مضحكةٌ في الأماكنِ القريبة. تقول هيجينز: ” قد ترى زوجين -رُبما-، ويمكنك معرفةُ أنهما يراجعان ردودَ بعضِهما البعض مثل :هل يُمكنني الضحكُ على هذا؟ “

إن القدرةَ على إضحاكِ الناسِ تجعلُ قائلَ الدعاباتِ يشعرُ أنه في حالٍ أفضلَ قليلاً أيضًا. “هذا مثاليٌّ بالنسبةِ لي” ، يقولُ رونسون من المجموعة، إنها مساحةٌ غير رسميةٍ و وديَّةٍ يقومُ فيها المضيفان بالمزاحِ وقصِّ القصصِ بين سلسلةٍ من الممثلين الكوميديين الذين ينطلقون إلى المسرح. وأضاف :” إن قيامي بهذا العرضِ بمثابةِ علاجٍ لي تمامًا”.

الكوميديا هي أكثرُ من مجرَّدِ وسيلةٍ ماتعةٍ لقضاءِ أُمسيةٍ ما. الفكاهةُ أكثر من مجرَّدِ شيءٍ للتسلية. إنها متشابكةٌ في نسيجِ وُجودِنا اليوْمِي. سواءً كنتَ تشاركُ قصَّةً مسليةً في الحانةِ، أو أن تقولَ نكتةً ناقدةً للذاتِ بعد أن يجاملَك أحدٌ ما أو عند قولِ نكتةٍ سوداءَ في جنازةٍ ما، فإنَّ الفُكاهةَ في كلِّ مكان. لكن ما الغايةُ منها؟ وهل يمكنُ للفكاهةِ، ككوميديا، أن تُغيِّرَ من شعورِنا وما نفكرُ فيه أو حتى ما الذي نفعلُه؟

© Kate Copeland

كجزءٍ لا يتجزأ من التفاعلِ البشري، كانت الفكاهةُ في أذهانِ المفكرين لِعِدَّةِ قُرون. كما أوضحَ بيتر ماكجرو و جويل وارنر في كتابِهما الأخير A global search for what makes things funny   The Humor Cod: “فكَّرَ أفلاطون وأرسطو في معنى الكوميديا بينما وضعوا أُسسَ الفلسفةِ الغربيَّة … بحث تشارلز داروين عن بذورِ الضحكِ في صرخاتٍ بهيجةٍ من شمبانزي مدغدغ. بحثَ سيغموند فرويد عن الدوافعِ الكامنةِ وراءَ الدُّعاباتِ في الزوايا والجوانبِ اللاواعيةِ لدينا”.

جاءت واحدةٌ من نظرياتِ الفُكاهةِ الأكثرَ ديمومةً من قبلِ الفيلسوف توماس هوبز. حيث يؤكدُ أن الفكاهةَ هي ظاهريًّا عن السُخريةِ من التفوقِ الضَّعيفِ والمُمارَس. في حينِ أن هذه هي وظيفةُ بعض الكوميديا بوضوح – وقد يشهدُ على ذلك أيُّ شخصٍ جَفَلَ عن أيِّ محاولةٍ واهيةٍ في الاستهزاءِ، على سبيلِ المثال، بالإعاقة. إنها قاتمةٌ وبعيدةٌ عن التفسيرِ الكاملِ لغَرَضِ الفُكاهة.

يقولُ المؤلفُ وعالمُ الأعصابِ الإدراكيَّةِ سكوت ويمس:” اعتقادي الأول عندما أفكرُ بالفُكاهةِ هو أنها طريقةٌ عظيمةٌ لنا لنتطوَّر، لذا لا يتعيَّنُ علينا ضربُ بعضِنا البعض بالعُصِيِّ”.

يستعرضُ ويمس في كتابِه الذي ألفَّهُ مؤخَّرًا بعنوانِ “ Ha! The science of when we laugh and why” مجموعةً من الدراساتِ الأكاديمية، بما فيها تلك الدراساتِ التي استخدمتْ المسحَ التَّصويري لإظهارِ أجزاء الِّدماغِ التي تستجيبُ عندما نواجِهُ شيئًا مُضحكًا. في الكتاب، يطرحُ نظريَّةً مفادها: هذه الفكاهةُ هي في الأساسِ شكلٌ من أشكالِ المعالجةِ النَّفسيَّة، وهي آليَّةٌ مواكبةٌ تساعدُ الناسَ على التعاملِ مع الرسائلِ المُعقَّدةِ والمُتناقضة، و “استجابةٌ للصِّراعِ والارتباكِ في دماغِنا”.

وهذا، في جزءٍ منه كما يقول، هو السببُ في أننا نضحكُ ردًّا على الأحداثِ المُظلمةِ والمُربكةِ أو المأساويَّةِ التي لا يبدو في ظاهرِها أنَّها مضحكةٌ على الإطلاق. وعلى سبيلِ المثالِ لم قد تنتشرُ النكاتُ بعد 9/11، إذا لم نكنْ نبحثُ بشكلٍ جماعيٍّ عن طُرُقٍ للتحليلِ كيف كان الوضعُ مُقلِقًا ومُضطربًا؟ إن الفكاهةَ ذات الذَّوْقِ السَّيءِ أو تلك القاسية التي تستهدفُ مجموعاتٍ مُعيَّنةً قد تُوَلِّدُ الصِّراع، ولكن بالنسبةِ إلى ويمس فإنَّ الفُكاهةَ هي طريقتِنا في العملِ على مواضيعَ أو مشاعرَ صعبة.

على مرِّ السِّنين، بَنَى الباحثون مجموعةً كبيرةً من الأدِّلةِ على أنَّ بعضَ أنواعِ الكوميديا -بما في ذلك الهجاء الرَّفيع، الذي يزدادُ شَعبيَّة-  تُؤدِّي وظيفةً اجتماعيَّةً قويَّة، من كسرِ المُحرماتِ إلى مساءلةِ من همْ في السُّلطة. أفنير زيف، الذي كتبَ العديدَ من الكتبِ عن الفُكاهة، يستكشفُ هذا الموضوع على نطاقٍ واسع. كما يكتبُ في هوية وإحساس الفكاهة، “الكوميديا والهجاءُ/السُّخرية تمتلكان قاسمًا مُشتركًا يتمثَّلُ في محاولةِ  تغييرِ أو إصلاحِ المُجتمعِ عن طريقِ الفُكاهة. ويُشكِّلُ النموذجانِ معًا أفضلَ مِثالٍ على الوظيفةِ الاجتماعيَّةِ للفُكاهة”.

ليس عليك أن تبحثَ بجدٍّ عن أمثلةٍ للأشخاصِ الكوميديين الذين يضعونَ العدالةَ الاجتماعيةَ في صُلبِ عملِهم. حيث وُصفَ الكتابُ الجديدُ لـ نيجين فارساد بنيويورك “ How to Make White People Laugh” بأنه  “مُذكَّراتٌ تلتقي بِبَيانِ العدالةِ الاجتماعيَّةِ والكوميديا” ، وتحدَّثت مُحلِّلَةُ السياسةِ الاجتماعيَّةِ لِمرَّةٍ واحدةٍ عن الكوميديا كمِنصَّةٍ لتعزيزِ العدالةِ الاجتماعية.

بالنسبةِ لبعضِ الكوميديين، الأمرُ لا يتعلقُ فقط بالضحك – وإنما يتعلقُ بتغييرِ ما نفكرُ به ورُبَّما ما نفعلُه حتى. إذا كان هناك شخصٌ كوميدي يُجسِّدُ هذا حقًّا، فهي جوزي لونج. تُعرفُ لونج، وهي ناشطةٌ في العدالةِ الاجتماعيةِ وممثلةٌ كوميدية، بفُكاهتِها المُمتعةِ والمتفائلةِ واللطيفةِ وسردِها القصصيِّ البارع.  لقد كانت تُقدِّمُ كوميديا حيَّةً منذ مُراهقتِها، وقد حظِيَ أحدثُ برامجِها الإذاعيَّةِ لهيئةِ الإذاعةِ البريطانية (BBC) ” Romance and Adventure” بِصِيتٍ واسعِ النِّطاق.

ومع تطوُّرِ حياتِها المِهنيَّة،  فقد وضعت بوَعْيٍ الموضوعاتِ الاجتماعيةَ والسياسيةَ في قلبِ عملِها . إنها تؤمنُ بأن الكوميديين لديهم دور يلعبونَه في توضيحِ وتحدِّي بعضِ أكثر قضايا اليومِ إلحاحًا.

وتشيرُ إلى أنهُ “يمكنُ للسياسةِ أن تتركك مُحاصرًا ومتضررًا وبائسًا”. “إن أقصى ما يقولونه أن الهجاءَ هو في ابتلاءِ المرتاحِ و إراحةِ المُبتلى. لهذا السببِ كانت الفكاهةُ مهمةً  بالنسبةِ لي. إنها وسيلةٌ لتكون مفيدةً للآخرين. ” تقوم لونج في عملِها، بتصفيةِ الحقائقِ السياسيةِ لبريطانيا المعاصرةِ – خاصةً ما تعتبرُه ظلمًا علنيًّا من قبلِ الحكومة – من خلالِ الفكاهة.

© Kate Copeland

 

وتقولُ إنه من المهمِّ فهمُ الوظيفةِ التي يمكنُ أن تقومَ بها الكوميديا في توفيرِ توازنٍ فعَّالٍ للتعصُّبِ والتَّحامل، وكذلك فهمُ أنواعِ الفكاهةِ التي تعزِّزُ الصورَ النمطية السلبية. “أريد أن أتأكدَ من أنني أتركُ أثرًا ولا أدمِّر”.

تشير لونج إلى أن هناك “مكانًا قويًّا” داخلَ الطيفِ الكوميدي والمجتمعِ على حدٍّ سواء، لنوعٍ من الملاحظاتِ الجريئةِ والمزعجةِ والصعبةِ لكوميديين مثل جون أوليفر وستيوارت لي، التي تُعجبُ بهم. لا يمكن إنكارُ حقيقة أن لديهم دورًا في المجتمعِ المعاصرِ يتجاوزُ مُجرَّدَ جعلِ الناسِ يضحكون؛ عملُهم هو دليلٌ على تأثيرِ الكوميديا يمكنُ أن يكونَ على نطاقٍ أوسع. وتقولُ: “جون أوليفر وصل إلى وضعٍ يشاهدُه فيه الكثيرُ من الناسِ أكثر من المُعلقين”.

تقولُ صوفي كويرك، إحدى الأكاديميات بجامعةِ “كنت” ومؤلفةُ كتابِ “ Why Stand-up Matters”عام 2014 “مهما حدث في المجتمعِ البريطاني، فإن العرضَ الارتجاليّ يبدأ على الفورِ في عمليةِ مناقشةِ وإعادةِ تفسيرِ ذلك” .   “تتضمَّنُ هذه العمليةُ بالضرورةِ أكثرَ من مُجردِ تعبيرٍ عن وجهةِ نظرِ الفردِ المُؤدِّي. إذا وجدنا مزحةً هُجومِيَّة، فإننا نحتجُّ بعدمِ ضحكنا عليها “.

تذكرُ كويرك أنه من نواحٍ عديدةٍ يتمُّ تعزيزُ أنواعَ الملاحظاتِ التي أدْلَتْ بها شخصيَّاتٌ كوميدية مثل لونج من خلالِ عملِها الأكاديمي الأخير، والتي تتضمنُ مقابلاتٍ مُطوَّلةٍ مع كوميديين يمارسون المهنة. “أعتقدُ أن الأدبَ يتجاهلُ أحيانًا حقيقةَ أن الكوميديا تفعلُ أشياءَ كثيرة”  كما تقول. إن “المزاحَ اجتماعيًّا هو وسيلةٌ للتواصلِ مع الناس”. كما أنها تناقشُ الكوميديا السياسيةِ التي يمكنُ أن تعزِّزَ الشُّعورَ بالمُثُلِ العليا. “إذا كنتَ تجمعُ الناسَ وتتحدثُ عن وجهاتِ نظرٍ تكونَ هامشيَّةً للغايةِ في السياقِ الاجتماعيِّ الأوسع ،ونحن جميعًا نضحكُ معًا عليها، إذن فأنت كما لو أنك تُؤكدُ عليها”.

 

“أعتقدُ أن الكوميديا يمكنُ أن تكونَ وسيلةً لنقلِ الأفكارِ السيئة”، كما تقولُ مرددةً لونغ،   مضيفةً أنه من المهمِّ دراسةُ الطُّرقِ التي تُعزِّزُ بها الفُكاهةُ الصورَ النمطية أو تُقوِّضُها.

وفقًا لـ جون فوجلزانغ -وهو كوميدي سياسي مقيمٌ في نيويورك، وكاتبٌ وممثلٌ يستضيفُ البرنامجَ الإذاعي “ Tell Me Everything ” – يُعدُّ صعودُ الكوميديا السياسيَّةِ مؤخرًا أحد أكثر الجوانبِ الرائعةِ لدوْرِ الفُكاهةِ في الترفيهِ الأمريكي، وفي الثقافةِ الأوسعِ نطاقًا في البلادِ أيضًا. قد ترغبُ في بعضِ الأحيانِ بمشاهدةِ شيءٍ سخيف، ولكن للكوميديا شأنٌ يفوقُ ذلك بكثير. 

“أعتقدُ أنه من الفِطْريِّ إذا تمكَّنَ شخصٌ ما من جعلِكَ تضحكُ على ماهيَّةِ الأشياءِ من حولك، فإن هذا الشخص لم يكتسبْ إعجابَك فحسب، وإنما اكتسبَ ثقتك أيضًا على مستوى ما.” يقولُ فوجلزانغ : على مستوى الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ كان على الكوميديا أن تسيرَ على نحوٍ جيدٍ لأن الأخبارَ أصبحتْ سيئةٌ للغاية. “قد يكونُ هذا هو أفضلُ وقتٍ على الإطلاقِ لتكونَ كوميديًّا سياسيًّا، وقد تكونُ هناك حاجةٌ إليهم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى”.

يناقشُ  فوجلزانغ بأن أفضلَ الكوميديين هم علماءُ الأنثروبولوجيا والنُّقادُ الثقافيون الأكثر فاعليَّةً لدينا. “الكوميديا السياسية، عندما يتمُّ تنفيذُها بشكلٍ صحيح، فهي نظامٌ يقودُ للحقيقة”.

© Kate Copeland

يبيعُ الكوميدي البريطاني ستيفن ك. آموس أماكنَ على مسرحِ عرضِه تتسعُ لآلافِ الحضور، سنةً بعد سنة، ولديهِ في رصيدِه برامج ناجحة على محطَّةِ إذاعةِ  BBC الرابعة. آموس لديه قناعةٌ أنه عندما يعرضُ الممثلون الكوميديون القضايا الاجتماعيةِ المُلِحَّةِ أو المُثيرةِ للجدلِ مثل العُنصريَّةِ بِوَعْي، يمكنُهم الوصولُ إلى الناسِ على مستوى ذو معنى أكثر مما يمكنُهم تحقيقُه من خلالِ رفعِ مزاجِ شخصٍ ما لفترةٍ وجيزة. ويقولُ أنه رُغمَ صعوبةِ تحديد الكَمّ، فإن التأثيرَ الاجتماعي والنفسي للكوميديا يستدعي المزيدَ من الاعتراف.

ويتضحُ جليًّا أن بعضَ الكوميديا ليس لها أهدافٌ اجتماعيةٌ علنيَّةٌ على الإطلاقِ – إنها ليست مثل الجزءِ الأكبرِ من الكوميديين الذين يحاولونَ تغييرَ العالم – لكن آموس يؤكدُ أن واحدةً من الخصائصِ الفرديَّةِ لبعضِ الكوميديا “عندما تتِمُّ بشكلٍ جيِّد” ، هي حُريَّةُ استكشافِ الأفكار بطريقةٍ غير تقليديَّةٍ أو غير بديهيَّة، لتقويضِ قواعد المجتمع.

البحثُ يدعمُ هذا الأمر. على الرغمِ من أن دوْرَ الكوميديا هو أن تكونَ مُسليَّةً أوَّلًا وقبلَ كُلِّ شيء، فقد حدَّدتْ شارون لوكير، محاضرةٌ في علمِ الاجتماعِ ومديرةُ مركزِ أبحاثِ الدراساتِ الكوميدية في جامعةِ برونيل، عددًا من الوظائفِ الأخرى المُمكنة، من خلالِ مُقابلةِ الكوميديين. منها الوقوفُ في وجهِ “الصُّورِ النَّمطيَّةِ والخطاباتِ السائدةِ التي تشجعُ على تهميشِ و وصمِ أفرادٍ مُعيَّنين”، على سبيلِ المثالِ فيما يتعلقُ بالإعاقةِ والجنس.

يتناولُ عملُ آموس في كثيرٍ من الأحيانِ قضايا العرقِ والجنسِ عن طريقِ رفعِ صُوَرٍ نمطيَّة. حيث يقول: “لا أفعلُ أشياءَ للتسبُّبِ في صدمة“. مضيفًا: “أفعلُ الأشياءَ التي تُهمُّني”.

في الماضي كان الأمرُ يتعلَّقُ فقط بالدُّعابات. لقد تقدَّمْنا – فالناسُ أصبحتْ تتحدثُ عن أشياء مهمة”.

يقول جون فوجلسانج أنه “في كثيرٍ من الأحيانِ ما يمكنُ أن يفعلَه الكوميديون هو استخدامُ المنطقِ لجعلِ الأمورِ المؤلمةِ تبدو معقولة” . حيثُ “يمكنُهم التعبيرُ عن المشاعرِ والمناقشاتِ المعقَّدةِ باستخدامِ النكاتِ كآليَّةِ تأطير، فعندما تكون موجودةً فقط في القلبِ دون بلْوَرةٍ أو تشذيبٍ يمكن أن تكونَ غامضةً ولا شكل لها”.

عندما يتعلقُ الأمرُ بقضايا مثل العدالةِ الاجتماعية، “يمكنُ أن تكونَ الفكاهةُ إصلاحًا اجتماعيًّا” كما ذكر فوجلسانج. “نرى هذا في الكوميديا الأمريكيةِ الأفريقية، الكوميديا اللاتينية، الفكاهة الدينية، الفكاهة النسوية. إنها تثبتُ من صحةِ التجاربِ المشتركة، وتجعلُنا نفكرُ بشكلٍ أكثر مرونةً ونعيدُ صياغةَ المواقفِ في هذه التجربةِ المشتركةِ التي نُسميها الحياة”. 

من بين المقتنعين بإمكانيةِ تغيير الكوميديا لنا هو ألفي مور. فهو ضابطُ شرطةٍ وكاتبٌ وممثلٌ كوميدي ومقدمٌ إذاعي ( حاليًّا في استراحةِ مهنة من الشرطة). وظيفةُ مور اليومية مهمةٌ خطيرة، ومع ذلك يُسخِّرُ تجربتَه لإزالةِ الحواجزِ مع الكوميديا الخاصةِ به. إنه بمخزونِه من المتعةِ يسخرُ من الشرطةِ والمشيِ بـ “خطٍّ رفيعٍ” بين الجادِّ والسخيف، وينشرُ الدعاباتِ لفضحِ سياساتٍ تافهةٍ لا معنى لها.

يقولُ مور: إن الناسَ يأتون إلى عروضِه بأفكارِهم الخاصة عن العملِ الشُرَطي، لكنهم يستطيعون تركَ تصوُّراتِهم تتغيرُ حول ماهيةِ العملِ وكيف يتمُّ إدخالُه في المجتمع. “إحدى العبارات التي سمعتُها مؤخرًا تقول: إذا كانوا يضحكون فهم يستمعون، وأعتقد أن هذا اقتباسٌ قويٌّ”.

“لم يستمع لي أحدٌ عندما كنت في الشرطة. إذ لم يكن لديَّ أيُّ تأثير. لم أقابل ضُبَّاطًا كبارًا ولم أقابل قائدَ الشرطةِ الخاص بي مطلقًا . الآن لقد خرجتُ من الشرطة، ولدي الكثيرُ من الناسِ ممن يستمعون لي. فقد حصلَ برنامجي على محطةِ إذاعةِ  BBC الرابعة على 1.4 مليون مستمع لكلِّ حلقة. وكان لديَّ قادةُ شرطة يرسلون لي رسائل عبر البريدِ الإلكتروني”.

كوميديا ليز كار ذات الطابعِ المظلمِ والشِّريرِ تدورُ محاورُها حول  تصوراتٍ صعبة. و كار التي تعملُ كممثلةٍ وكاتبةٍ أيضًا، توافقُ آموس الرأيَ فيما يتعلقُ باعتبارِ الكوميديا مجرد شيءٍ تافه من شأنه أن يُشكلَ فشلًا في فهمِ مكانِها في العالم. ومع مسيرتِها المُمتدَّةِ  في الإذاعةِ والتلفزيون (تقوم حاليًّا بدوْرِ البطولةِ في المسلسلِ الدرامي( “Silent Witness” ، والكوميديا الارتجاليَّةُ والمسرحيَّة، فإن كار كانت تُعدُّ واحدةً من رُوَّادِ الساحةِ المزدهرةِ للمُمثلين الكوميديين ذوي الإعاقة.  

عُرفتْ بتحدِّيها المُتكرِّرِ للعُرْف: حيث تستخدمُ في الكوميديا الخاصةِ بها لغةً مرتبطةً عادةً بالأشخاصِ ذوي الإعاقةِ المُحتقَرة – مثل “مُقعد” (اختصارٌ للإعاقةِ الحركية) – كوسيلةٍ لاستصلاحِها. إنها على وشكِ تخفيفِ بعض الإزعاج من خلال إنتاجِ كوميديا موسيقية عن المساعدةِ في الموت، والتي سيتمُّ عرضُها في قاعةِ مهرجان لندن الملكية في خريفِ عام 2016. إنها، كما تقول، مثالٌ آخر على كيفيةِ تمكينِ الفكاهةِ في أكثر الموضوعاتِ كآبةً، وحثِّ الناسِ على إعادةِ التفكيرِ في الأفكارِ المُسبقة.

© Kate Copeland

 

تقول كار أننا “في كثيرٍ من الأحيانِ لا نعرفُ كيف نتفاعلُ مع الأشياء”. “وهناك توقُّعٌ أنه عليك ألا تضحكَ على هذا أو على ذلك.  إنني أفكرُ في الإعاقةِ [هنا]. الناس، أوه … لا نريدُ الإساءةَ إلى أي شخص، لذلك هناك شيءٌ ما يتعلقُ بما إذا كنتَ تستطيعُ كسرَ ذلك بالضحك، فإن ذلك أشبهُ بالراحةِ وصمَّامِ الأمان”.

“مجرَّدُ حضورك في أيِّ وقتٍ يغيرُ الأشخاص – يغيرُ التفاعلات … إنني أعتقدُ أن [الكوميديا] تفتحُ الناسَ بطريقةٍ لم أجدْها تعملُ في أيَّةِ وسيلةٍ أخرى”.

عكفتْ عالمةُ الاجتماعِ شارون لوكيير على دراسةِ العلاقةِ بين الكوميديا والإعاقة. و قد نشرتْ مقالاتٍ تتناولُ آراءَ الكوميديين المعاقين في صناعةِ الكوميديا التلفزيونية البريطانية، وحولَ التحوُّلِ الثقافي من كوْنِ الأشخاصِ المعاقين هدفًا كبيرًا للكوميديا إلى “صانعي الكوميديا”.

تعتقدُ لوكير أن هذا التحوُّلَ والتغييراتِ الأخرى، مثل النكات الساخرةِ المهينةِ وغير المقبولة، يُعتبرُ دلالةً على تغيراتٍ واسعةٍ في المجتمع. وتقولُ أن “الإمكاناتِ السياسيةِ للكوميديا تشيرُ بوضوحٍ إلى أن الكوميديا تستحقُّ الاهتمامَ بجديَّة”.

© Kate Copeland

إن نهمَنَا للكوميديا يتزايد. فأكبرُ الشخصياتِ الكوميدية – من سارة ميليكان ومايكل ماكنتاير في المملكةِ المتحدة إلى كريس روك وآيمي شومر في الولاياتِ المتحدة – يجذبون آلافًا مُؤلَّفةً إلى عروضِهم.

قام فنانون ناجحون بشكلٍ كبيرٍ مثل لويس سي.كي. وعروض مثل Broad City بتوزيعِ الكوميديا الخاصةِ بهم عبر الإنترنت، وهناك مقاطعٌ مضحكةٌ وفيرةٌ على يوتيوب و فاين. كما أن بعضًا من أفضلِ الحلقاتِ الصوتيةِ -بودكاست- هي الكوميدية منها، ومن ضمنِها برنامج WTF  لمارك مارون، الذي يحظى بـ 5 ملايين عمليةِ تنزيلٍ شهريًّا وبمتوسطِ 450000 لكلِّ حلقة. حتى أن هناك بودكاست للكوميديين يُذاعُ من قِبلِ ممثلٍ كوميدي بعنوانِ دال The Comedian’s Comedian Podcast.

يهتمُّ الباحثون الأكاديميون بشكلٍ متزايدٍ بالفكاهة، وغالبًا ما يتمُّ جمعُهم تحت مُسمَّى “علماء الفكاهة”. في عام 2009 ، افتُتِحَ في جامعةِ كولورادو بولدر (مختبر الفكاهة البحثيِّ المعروف باسم “هورل”) مختبرٌ بحثيٌّ مُكرَّسٌ لـ “الدراسةِ العلميةِ للفكاهةِ وأصلِها  وعواقبِها”. وفي المملكةِ المتحدة، أُنشِئَ مركزُ أبحاثِ الدراساتِ الكوميدية (CCSR) في جامعةِ برونيل في عام 2013 لدراسةِ التأثيرِ الاجتماعيِّ للكوميديا. ثم هناك الجمعيةُ الدوليةُ لدراساتِ الفكاهة (ISHS) ومجلتها الفصليَّة :HUMOR المجلةُ الدوليةُ لأبحاثِ الفكاهة، والمجلةُ نصفُ السنويَّةِ Comedy Studies .  

بيتر ماكجرو، مؤلفٌ مشاركٌ في The Humor Code وخبيرٌ في نظريةِ الانفعالِ والقرارِ السلوكي في مختبرِ الفكاهةِ البحثيِّ المعروف (هورل) قيلَ له ذاتَ مرةٍ من قِبَلِ أحدِ معارفِه برابطةِ اللبلاب Ivy League أن دراسةَ الفكاهةِ كانت “قاتلًا للمهنة”. لكنه يشيرُ إلى أنه نظرًا لأننا من المحتملِ أن نختبرَ الفكاهةَ في كثيرٍ من الأحيانِ أكثرَ من المشاعرِ مثل الخوفِ أو الندم، فإن دراستَها لها قدرٌ كبيرٌ من الجدارةِ الأكاديميةِ مثل الموضوعاتِ التي يُفترضُ أن تكونَ جديرةً بالدراسة.

“يتابعُ الناسُ [الفكاهة] في كلِّ هذه الأجزاءِ من حياتِهم: استهلاكُهم الترفيهي مع أصدقائهم وعائلاتِهم. وهناك أدلةٌ تشيرُ إلى استخدامِ الفكاهةِ للعيشِ والتعايش. شيءٌ آخر أعتقدُ أنه لغزٌ مهمٌّ – هو أنه عندما تحاولُ أن تكونَ مضحكًا وتفشلَ في ذلك… يمكنك خلقُ صراع.  يمكنك إزعاجُ الناس. يمكنك إغضابُ الناس “.

فقط عندما تربطُ صوفي كويرك الكوميديا بموضوعٍ “جاد” مؤكَد، مثل السياسة، أو السلبية، لا يعتقدُ الناسُ أن هناك أي قيمة في ذلك. وتقول: “لمجرَّدِ أنها مضحكةٌ أو ممتعةٌ لا يعني أنها عديمةُ الأهمية”. “يعتقدُ الناسُ أن [دراسةَ] الخوفِ أمرٌ مهمٌّ للغاية. لكن الضحكَ -الحالة التي تكون فيها مستمتعًا- كونه مرحًا ومبهجًا هو السببُ الذي يجعلُه مُستهانًا به، وهذا أمرٌ غريبٌ حقًّا.. 

البحثُ العلميُّ يستكشفُ جميعَ أنواعِ الجوانب – مما يحصلُ للدماغِ عندما نسمعُ نكتةً/دعابة إلى الفوائدِ الناتجةِ من الضحكِ بشكلٍ جيد، للأوعيةِ الدموية. كما يمكنُ أن يُسلَّطَ الضوءُ أيضًا على طبيعةِ الأشخاصِ الذين يختارون الكوميديا كمهنة. على سبيلِ المثال، أشارتْ الأبحاثُ المقدمةُ في عام 2014 إلى أنه على الرغمِ من عملِهم، فإن الكوميديين لديهم نشاط أقلَّ في مناطقِ المُخِّ المرتبطةِ بالابتهاجِ والاستمتاعِ بالفكاهةِ مقارنةً بأيِّ شخصٍ آخر.

تقول كويرك: أخبرني سكوت ويمس أن “هذا الجيلُ هو الجيلُ الذي سنبدأ فيه رؤيةَ الأشخاصِ يَدْرُسون الفكاهةَ كما درسوا الذَّكاء” . “قد تكونُ الفكاهةُ هي الطريقةُ للوصولِ إلى ما هو مميَّزٌ حول الحالةِ الإنسانيةِ في نهايةِ المطاف… لا أعلمُ ما إذا كان سيحدثُ ذلك خلالَ فترةِ حياتي، لكننا نقترب”.

على الجانبِ الآخرِ من الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ إلى ميف هيغينز و جون رونسون، هناك جيمي مَسعدة مُفعمٌ بالطاقة. إنه في حانةِ الطابقِ العُلويِّ المفروشةِ المُطلَّةِ على مسرحِ نادي Laugh Factory للكوميديا بشارع سنسيت في لوس أنجلوس. إنه على وشكِ استضافةِ ليلةٍ أسبوعيةٍ مفتوحةٍ للموسيقى، حيث يقدمُ ممثلٌ كوميدي طموح ثلاثَ دقائق من أفضلِ الموادِ التي يمكنُه جمعها. لا يهمُّ إن كان معظمُها هراءً وسُخفًا (لقد شاهدَها طوالَ الثلاثين عامًا التي يعملُ فيها ليلًا) – على الأقلِّ ستكونُ بإمكانِها جعلَ الناسِ يضحكون.

يقولُ مَسعدة، الذي هاجرَ إلى أمريكا من إيران في سنِّ المراهقة، بصدقٍ تامٍّ أنه إن كانت مراقبةُ الجماهيرِ ليلًا قد علَّمتْهُ أيَّ شيء، فهو أن الكوميديا قد تكونُ قادرةً على إحداثِ تأثيرٍ عميقٍ في كيف نشعر، وكيف نتصرَّفُ حتى. إنه يسردُ لنا رؤيتَه للناسِ عندما يصِلونَ إلى نوادي الكوميديا وهم بائسون تمامًا، لكن بعد ذلك يغادرون وعلى وجوهِهم ابتسامة، إنه لتحوُّلٌ ظاهر – الأزواجُ الذين بالكادِ جاؤوا قد خرجوا مُمْسكين بأيدي بعضِهم البعض.

يقولُ مسعدة: “إنه أمرٌ أساسيٌّ بالنسبةِ لنا”. “نحنُ بحاجةٍ للكوميديا كحاجتِنا للهواء” . يمكنُ قراءةُ حماسةِ مسعدة على أنها خدمةٌ ذاتيَّةٌ (إنه يديرُ نوادي كوميديا بعدَ كلِّ شيء) لكن هذا لا يعني أنه ليس على شيءٍ ما. بالنسبةِ للعديدِ من الكوميديين، هناك آلياتٌ عميقةٌ تلعبُ دوْرَها في عملِهم، خاصَّةً عندما تميلُ الدعابةُ نحو القضايا الاجتماعيةِ والسياسيةِ الأوسع.

© Kate Copeland

يقول وهو يحثُّني: “يجبُ أن تذهب!”، مع ابتسامةٍ عريضةٍ على وجهِه. إنه لا يمزحُ عندما قال أنَّ “جعلَ شخصٍ ما يضحكُ هو أعظمُ قوَّةً يمكنُ أن يتمتَّعُ بها أيُّ إنسانٍ”.


بقلم: ماري أوهارا | ترجمة: موزة الريامية | تدقيق الترجمة: لمياء العريمية | تدقيق لغوي: لجين السليمية | المصدر

موزة الريامي

مُحرّرة ومترجمة، خرّيجة قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس - 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى