التعليمالعلوم الاجتماعية

لماذا يصعُبُ على البالغين تَعلُّم لغة جديدة؟

تعتمد جميع معاهد تعليم اللغات على أدوات مبنية على الترجمة، قاطعين وعودًا للمتعلمين على أنها ستساعدهم في حفظ المفردات بكل سهولة

 

أسباب صعوبة تعلم البالغين لغة جديدة بالمقارنة مع الأطفال

يرجع هذا الأمر إلى ارتباط التعلم الواعي بمنحنى النسيان الفظيع، في حين أن التدريب اللاواعي الجديد لمهارات اللغة لا يُجهد المتعلم ولا يوجد فيه منحنىً للنسيان.

يتعلم الأطفال اللغات بسهولة

يتعلم الأطفال لغاتهم الأم بسهولة ويتحدثونها بلهجة المكان أيضًا، ولكن لا يستطيع البالغون محاكاة النجاح الذي حققوه عند تعلمهم لغتهم الأم أو اللغة الثانية. ويرجع هذا إلى أن الأطفال والبالغين يستخدمون آليات تعلم مختلفة. فعقل الطفل يسجل جميع المقاطع الصوتية في اللغة المستخدمة في بيئته، ولذا إنْ كان الطفل في بيئة تُستخدم فيها ثلاث أو أربع لغات فسيتحدث الطفل تلك اللغات جميعها بطلاقة وبلهجاتها الأصلية. ولهذا السبب يمكننا اعتبار أن أي لغة يتعلمها الطفل تصبح لغته الأم.

هذه العملية ثابتة للأطفال؛ فهم يبدؤون بالسماع ومن ثم التحدث. خلال المرحلة الأولى وهي السماع، يبني الطفل بشكل لا واعٍ قاعدة بيانات من الصور المرتبطة بشكل مباشر بالجمادات، والمشاعر، والأفعال التي تصفها. يصبح التعلم محكمًا أكثر عند بناء قاعدة بيانات بالرموز؛ على سبيل المثال الرمز “ماما” يتضمن صورًا لمشاعر الحب والدفء والأمان ودقات القلب المألوفة، إلخ. لذا فإن محاولات ربط صورة واحدة بكلمة واحدة في تعلم لغة ثانية، كما في برنامج روزيتا ستون Rosetta Stone  قد أثبتت قصورها.

بعد عام من الاستماع فقط، يبدأ الطفل بالكلام، وهي المرحلة الثانية من مراحل تعلم اللغة الأم. خلال تلك الأشهر يبدأ الطفل التلفظَ بعبارات مكوّنة من  كلمة واحدة ثم كلمتين قبل أن يبدأ بتكوين جُمل مفيدة. في هذه المرحلة، ترتبط الكلمات بشكل مباشر بالرموز التي تصفها.

يفكّر الأطفال والبالغون بلغة من الرموز

دعوني أذكّركم أن كلا من الأطفال والبالغين يفكرون بلغة من الرموز الموصولة بلغتهم الأم، مما يخلق تصورًا وهميًا أننا نفكر بلغتنا الأم.

كتب عالم الإدراك العظيم ستيفن بينكر Steven Pinker في كتابه غريزة اللغة: كيف يخلق العقلُ اللغةَ “لا يفكر الناس باللغة الانجليزية أو الصينية أو حتى لغة البرمجيات، بل يفكرون بلغة الفِكر (أو ما نطلق عليه المنتاليس)… إذن فإتقان اللغة هو القدرة على ترجمة لغة الفكر إلى سلسلة من الكلمات والعكس.”

وتشير عمليات مسح دماغ الأطفال ثنائيي اللغة إلى أن الأصوات المستخدمة في اللغتين أو الثلاث التي يتقنها الطفل تقع في خريطة واحدة شاملة، مكتبة موحدة للأصوات اللغوية من كل اللغات. تعدُّ جميع اللغات الأجنبية التي يتعلمها الطفل لغة أمًّا بالنسبة له، ولهذا يستطيع الأطفال ترجمة لغة الفكر والتعبير عن أفكارهم إلى لغتهم الأم أو لغتهم الثانية بكل سهولة وبشكل تلقائي.”

هيمنة اللغة الأم

نشر نورمان دودج، الطبيب والمحلل النفسي كتابه في عام 2008 الذي قدَّم فيه مبدأً أَطلق عليه اسما جميلا ودراميا جدًا ” هيمنة اللغة الأم”، فحسب قوله ” يصعب تعلم لغة جديدة بعد مضي مرحلة تعلم اللغات الأساسية، وذلك لأنه مع تقدمنا في العمر تُهيمن لغتنا الأم على الخارطة اللغوية في دماغنا ويصعُب على اللغة الثانية المنافسة.” ولهذا السبب يلجأ معظم البالغين إلى أسلوب الترجمة بين اللغتين في تعلم اللغة الجديدة، وهذا هو بالذات سبيل الإخفاق؛ عندما يربط البالغون، لا إراديًا، الكلمات الجديدة التي يتعلمونها بكلمة من لغتهم الأم ولا يربطونها بالرمز الذي تصفه تلك الكلمة.

يلجأ متعلمو اللغات إلى لغتهم الأم لمساعدتهم في بناء نظام اللغة الثانية، ويتفهم المعلمون حاجتهم إلى الترجمة بين اللغات في عملية التعلم كونه أمرًا طبيعيا ولا مناص منه. ولكن عندما يصل الأمر إلى التدقيق في كيفية عمل اللغة الأم بشكل مسهب تتضح سلبيات هذه العملية الطبيعية كما يدَّعون؛ فمن الصعب حفظ معلومات اللغتين.

لا يستطيع البالغون إعادة إنتاج عمليات اكتساب اللغة التي تحدث عند الأطفال

لا يستطيع البالغون إعادة إنتاج العمليات التي يستخدمها الأطفال في اكتسابهم للغة الأم والثانية وحتى الثالثة، وإليك السبب..

تُوظف معظم معاهد تعليم اللغات أدوات مبنية على الترجمة، موهمة المتعلمين بتوفيرهم لسبُل أسهل لتعلم المفردات والعبارات. ولكن، عندما قُمنا بتحليل الأدوات كما أسلفنا، اتضح أنه من الصعب جدًا تذكر معلومات اللغتين، لأنه لدى كل لغة يتعلمها الإنسان البالغ، ويتحدثها بطلاقة، مركزها الخاص في الدماغ، بعيد عن مركز اللغة الأم. ومن مساوئ الاعتماد على اللغة الأم في بناء نظام اللغة الثانية هو أن البالغين لا ينفكّون عن التفكير بلغتهم الأم والحديث باللغة الثانية، وهذا أمرٌ شاق جدًا، ويدعوهم إلى الاعتقاد بأنهم فاشلون في اللغة في حين أن جميع البالغين دون استثناء بمقدورهم تعلم لغة جديدة وبسهولة أيضًا، إذا ما اتخذوا منهجًا مختلفًا في تعلمها.

الجدير بالذكر أن نسبة صغيرة من البالغين (أقل من 5٪) باستطاعتهم تصور الكلمات المنطوقة والمكتوبة بطريقة ما (العملية غير معروفة حتى الآن). هذه الفئة المحدودة ذات العدد البسيط من الناس بإمكانها تكرار قدرة الطفل في اكتساب اللغة دون الحاجة إلى الرجوع إلى ترجمة اللغة الأم. علماء اللغة بالفطرة هم ضمن هذه الفئة المحدودة، لذلك هم لا يستطيعون استيعاب استخدام هذه الآلية في تعلم اللغات أو معضلة ” هيمنة اللغة الأم” التي يواجهها معظم الطلاب.

من المضحك المبكي أنني حاولت طرح وشرح معضلة الترجمة بين لغتين في تعلم اللغات في النقاشات المتخصصة مع علماء اللغة مئات المرات ولم يكن أحدٌ منهم مستعدًا للخوض في نقاش حقيقي لهذه المشكلة. هم غير واعين بها؛ فكرة الترجمة بين لغتين تبدو فكرة محجوبة في عقولهم لأنها لا تتناسب مع أفكارهم المترسخة حتى يقرّوا بوجودها.

كيف نعيد إحياء القدرة الفطرية على تعلم لغة جديدة لدى البالغين

الطريقة الوحيدة التي أثبتت نجاحها في حل المشكلة وإعادة إحياء القدرة الفطرية لدى البالغين في تعلم اللغات هي بدء عادة جديدة متمثلة في القيام بهذه الأفعال الثلاثة في الوقت ذاته: القراءة، والاستماع، والتحدث في آن واحد مع المتحدث. يتحدى هذا الفعل الثلاثي الدماغ ويفرض عليه عبئًا يُوقف عملية الترجمة إلى اللغة الأم. عندما تتوقف هذه العملية، يتشكل مركز للغة الجديدة في دماغ الشخص، لأن الرموز القديمة التي كانت موصولة بكلمات من اللغة الأم أصبحت الآن موصولة بكلمات اللغة الجديدة.

نظاما الدماغ: النظام واحد والنظام اثنان

لفهم سبب عدم قدرة البالغين على تعلم لغة جديدة بطريقة حفظ المعلومات اللغوية، وجب عليَّ التنبيه إلى أن للدماغ نظامين اثنين، وطرَح هذه  الفكرةَ العالمُ الحائزُ على جائزة نوبل دانييل كاهنمان. فنحن نفكر بشكل سريع وبطئ، لأن للدماغ نظامين اثنين؛ النظام واحد يعمل تلقائيًا وبشكل سريع، وبجهد بسيط أو معدوم ودون أدنى أتحكم، والنظام اثنان يركز على النشاط العقلي المضني، ولذا فهو بطيء. فعلى سبيل المثال، الحفظ المتكرر يحدث في النظام اثنين، في حين أن التعبير عن المشاعر، أي الكلام، يحدث في النظام واحد.

التدريب اللاواعي على مهارات اللغة ينتمي للنظام واحد

إن كنتَ تتعلم لغة جديدة بهدف التواصل، فيجب عليك اكتسابها من خلال النظام واحد. ولهذا وجب استبدال الطرق التقليدية في تعلم اللغات والتي تنتمي للنظام اثنين بالتدريب اللاواعي على مهارات اللغة. التدريب هو المثال الأنسب للبالغين، كونه ضمن النظام واحد، مثال على ذلك: قيادة السيارة، التزلج على الجليد، عزف آلة موسيقية، مهارات الدفاع عن النفس، أو التحدث بلغة أجنبية، فجميع هذه المهارات تُدرب في النظام واحد. في عملية التدريب، يكشف الدماغ عن الأنماط التي تحدث دون وعي وجهد وبسهولة ويسجلها.

أود التأكيد على أن الأطفال يوظفون النظام واحد في اكتسابهم للغة الأم أو اللغة الثانية، في حين أن البالغين يستخدمون النظام اثنين فقط. لذا حتى تتعلم اللغة بشكل أسهل يحب عليك التوقف عن اللجوء للطرق التقليدية بالتعلم الواعي، والبدء بالتدريب اللاواعي على مهارات اللغة والذي ينتمي للنظام واحد في الدماغ. يرتبط التعلم الواعي بمنحنى النسيان الفظيع، في حين أن التدريب اللاواعي لا يُجهد المتعلم ولا يوجد فيه منحنىً للنسيان.


بقلم: د. إركادي زيلبرمان | ترجمة: روان البداعية | تدقيق: سحر عثماني | المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى