پارلر وقضايا الشبكة الاجتماعية “حُرية التعبير”
انتُقِد تويتر من قِبل أفراد الطيف السياسي بشقّيه بوصفه ضربًا من العبثية، وذلك إما لعدم تصرفه بما يكفي لوقف موجة المعلومات المغلوطة أو محتواه السيء، أو لتشدده في تقييد ما يعتبره البعض حرية التعبير. دعا في الآونة الأخيرة بعض أولئك الذين انتقدوا تويتر بسبب تقييده لحرية التعبير إلى الانتقال إلى منصة اجتماعية أخرى حيثُ يطلقون جماح آرائهم -خاصة المتحفظة منها- دون خوف من الرقابة. ثمة بديل لتويتر شهد إقبالًا كبيرًا مؤخرًا يطلق عليه (Parler): يدعو نفسه (الشبكة الاجتماعية لحرية التعبير). بلغت قاعدة مستخدميه حوالي النصف مليون مستخدم في غضون أسبوع واحد، حيث يرجع ذلك بشكل جزئي إلى رد الفعل السلبي لتويتر أثناء التحقق من صحة تغريدة دونالد ترامب. أراد الرئيس التنفيذيّ لشركة Parler أن تكون منصة حرة لأي فرد من أفراد الطيف السياسي لخوض نقاشات مجردة من الخوف من الرقابة، لكن رغم تصريحه هذا فإن المنتمين إلى الطيف اليميني يسيطرون على المنصة بلا شك.
ربما فهم جاذبية مثل هذه المنصة ليس بالأمر الصعب: حيثُ يعتقد الفرد أن منصة ترحب بحرية التعبير ستكون بيئةً خصبةً لنقاشٍ مثمر، وهي كذلك بالنسبة لمن يخشى الرقابة أو لمن يريد التعامل مع أولئك الذين يملكون آراء سياسية متباينة. على كل حال، فقد أعرب البعضُ عن قلقه حيال الرقابة عبر الإنترنت وتحديدًا فيما يعد رد فعل مبالغ فيه “ثقافة الإلغاء” “cancel culture”، حيثُ يُعاقَب الأفراد (يقول البعض مُبالغين) بسبب التعبير عن رأيهم. فكّر على سبيل المثال في المقال الذي نُشر مؤخرًا في مجلة هاربر بعنوان (رسالة حول العدالة والحوار المفتوح):
“إن تقييد النقاش سواء من قِبل حكومة قمعية أو مجتمع غير متسامح دائمًا ما يلحق الضرر بأولئك الذين يفتقرون إلى القوة ويجعل الجميع أقل قدرة على المشاركة الديمقراطية. إن طريقة إحباط الأفكار السيئة تكون من خلال المواجهة، والحجة والإقناع بدلًا من محاولة إسكاتهم أو أن تتمنى إقصاءهم”
إذن ما أفضل طريقة لدحر الأفكار السيئة من توفير منصة تكون وسيلة لطرح تلك الأفكار في العلن، والتفكير فيها بروية، وإقصائها بالنقاش؟ أليست (الشبكة الاجتماعية لحرية التعبير) الحل الأمثل لهذه المشكلة؟
إن ذلك ليس صحيحًا، فافتراض أن الحجة المؤيدة لوجود منصة تسمح بالتعبير عن الرأي دون رقابة قد يسبب زيادة في الآراء المقيتة أو تلك التي تُطرح دون إدراك. إن فوائد طرح تلك الأفكار في العلن لتحليلها ومناقشتها سيكلف الكثير. في الواقع، الأمل معقود على تقليل الرقابة وتشديد التدقيق على الحقائق لجعل النقاش أكثر ثراءً، وأنه من خلال السماح بالتعبير عن الأفكار السيئة يمكننا بالفعل التخلص منها. وثمة العديد من المعلومات المضللة الخطيرة ونظريات المؤامرة في المنصة، فبينما تُعرض وجهات نظر متضاربة أحيانًا، لا يوجد سوى القليل من النقاش المثمر.
إليكم هذا المثال: بفضل 400 ألف متابع على Parler حصلت مقاطع ڤيديو السياسي الليبرالي رون بول من “معهد رون بول للسلام والازدهار” على آلاف الأصوات والتعليقات الإيجابية. لقد أعربت العديد من مقاطع الڤيديو هذه مؤخرًا عن شكوكها بشأن مخاطر ڤيروس كورونا: تحديدًا تلك التي تشكك في مدى فعالية اختبارات الڤيروس، مدعية أن تقارير عدد الحالات ضُخمت أو لُفِقت، كما تزعم أن الإجبار على ارتداء قناع الوجه فيه انتهاك للحريات الشخصية. تقع هذه الآراء ضمن معسكر “الأفكار السيئة” بشكل تلقائي، لكن رغم ذلك قد يأمل المرء أن يستجيب المجتمع بأسباب وجيهة ونقاش عقلاني.
بالأحرى ثمة تفاقم في المعلومات المغلوطة. إليك على سبيل المثال عينة تمثيلية لبعض التعليقات الأخيرة على ڤيديو پول بعنوان “هل يجب أن نثق في اختبارات كوڤيد؟”:
“يتلقى زوج صديقتي الطبيب المشهور عالميًا مكالمات من الأطباء في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية والعالم يخبرونه أنه يتم تزوير أرقام كوڤيد-19”
“تقول الممرضات في كل مكان إنهم يفحصون نفس الأشخاص مرارًا وأنهم يجمعون الأرقام، فهم لا يحتسبونها أنها نفس الحالة إنما حالات منفصلة. أنا ضد فترة الإغلاق التام”.
“لا. إن الأمر جليٌّ وبسيط حيث ثبُت أن اختبارات كوڤيد أكاذيب متزايدة، إلا إن كنت تصدق الإعلام الليبرالي الباطل الذي لا يفتأ بثًا للأكاذيب”
أنواع التعليقات متفشية وكما هو ظاهر فهي لا تدحض الأفكار السيئة بل تعززها.
هُنا تكمن المشكلة: لن يحدث النقاش المثمر بطريقة سحرية بمجرد طرح كل الأفكار السيئة في المنصة. في حين سيُتحقق من بعضها كما أنها ستُدحض، ستُدعّم أفكار أخرى حتى تصبح أوثق وذلك بسبب تهيئة الظروف المناسبة لتزايدها. إن عدم وضعنا لقيود تردع حرية التعبير عن المعلومات المضللة والكاذبة، يعني أننا نخاطر بتحفيز أولئك الذين يتطلعون إلى نشر معلومات مضللة ذات دوافع سياسية ونظريات المؤامرة، وهو ما ينتج عنه صعوبةً أكثر في دحض هذه الأفكار.
إن كان أحدهم قلقًا من أن الرقابة المحتملة على شبكات التواصل الاجتماعي مثل تويتر ستتسبب في كبح النقاش، فإن ما أظهره Parler حتى الآن هو أن شبكة التواصل “حرية التعبير” لا تسمح إلا قليلًا للتعبير عن الآراء التي قد لا يُسمح للتعبير عنها في منصة أخرى. إن مجرد التعبير بحريّة ليس حلًا سحريًا لمشكلة الأفكار السيئة المطروحة على الإنترنت وهو عكس الدوافع التي أعلنت عنها Parler والمخاوف التي عُبِّر عنها في رسالة Harper.
بقلم: كينيث بويد | ترجمة: جهينة اليعربية | تدقيق: سحر عثماني | المصدر