كَتَبَ الأُستَاذُ تَوْفِيقُ الحَكِيمُ مِنْ بُرْجِهِ العَاجِيّ مَقَالًا يَقُولُ فِيهِ : ” إِنَّ الدَّوْلَةَ لا تَنْظُرُ إِلى الأَدَبِ بِعَينِ الجِدِّ ، بَلْ إِنَّهُ عِنْدَهَا شَيءٌ وَهْمِيٌّ لا وَجَودَ لَهُ ولا حِسَابَ”.
ثُمَّ يَقُولُ : ” إِنَّ انْعِدَامَ رُوْحِ النِّظَامِ بَينَ الأُدَبَاءِ و تَفَرُّقَ شَمْلِهِم و انْصِرَافَهُم عَنْ النَّظَرِ فِيمَا يَرْبُطُهُمْ جَمِيعَهم مِن مَصَالِحَ و مَا يعْنِيهِم جَمِيعًا من مَسَائِلَ قَدْ فوَّتَ عَلَيهِمُ النَّفْعَ المَادِيَّ و الأَدَبِيَّ و جَعَلَهُم فِئَةً لا خَطَرَ لَهَا و لا وَزْنَ في نَظَرِ الدَّوْلَةِ “.
و كَتَبَ مَقَالًا آخَرَ يَسْألُ عَنْ أُدَبَائِنَا المُعَاصِرِينَ هَلْ فَهِمُوا حَقِيقَةَ رِسَالَتِهِمْ؟ و يَذْكُرُ مَا يَصْنَعُهُ أُدَبَاءُ أُوروبَا ” كُلَّمَا هَبَّتْ رِيحُ الخَطَرِ عَلى إِحْدَى هَذِهِ القِيَمِ -وَ هِي الحُرِّيَّةُ و الفِكْرُ و العَدَالَةُ و الحَقُّ والجَمَالُ- وَكَيفَ يَتَجَرَّدُ كُلُّ أَدِيبٍ مِنْ رِدَاءِ جِنْسِيَّتِهِ الزَّائِلِ ليَدْخُلَ مَعْبَدَ الفِكْرِ الخَالِدِ و يَتَكَلَّمُ باسِمِ الهَيئَةِ الوَاحِدَةِ المُتَحِدَةِ الَّتِي تَعِيشُ لِلدِّفَاعِ عن قِيَمِ البَشَرِيَّةِ العُلْيَا “.
ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ سُوءَ حَالِ الأَدَبِ في مِصْرَ :
” أَمَامَ كُلِّ هَذَا وَقَفَ الأَدَبُ ذَلِيلًا لا حَوْلَ لَهُ ولا طَوْلَ، و ضَاعَتْ هَيبَةُ الأُدَبَاءِ في الدَّوْلَةِ والمُجتَمَعِ، وأَنْكَرَ النَّاسُ و رِجَالُ الحُكْمِ عَلى الأَدِيبِ اسْتِحقَاقَهُ للتَّقْدِيرِ الرَّسمِي و الاحْتِرَامِ العَامِ، فَالعُمْدَةُ البَسِيطُ تَعتَرِفُ بِه الدَّوْلَةُ و تَدْعُوهُ رَسْمِيًّا إلى الحَفَلاتِ بِاعْتِبَارِهِ عُمْدَة. أمَّا الأَدِيبُ فَمَهْمَا شَهَرَهُ أدَبُهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فِي نَظَرِ الرِّجالِ الرَّسمِيينَ ولَن يُخَاطِبُوهُ (قَطُّ) عَلَى أَنَّهُ أَدِيبٌ”.
كَلامُ الأُستاذِ الحَكيمِ في هَذَينِ المَقَالينِ هُو الَّذِي ابْتَعَثَنِي إِلَى التَّعْقِيبِ عَلَيهِ فِيمَا يَلِي من خَواطِرَ شَتَّى عن رِسَالَةِ الأَدِيبِ، و شَأْنِ الأَدِيبِ و الدَّوْلةِ، ومُستَقْبَلِ الأَدَبِ في الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ أو في الدِّيَارِ الشَّرْقَيَّةِ على الإجمالِ.
فَهَلْ من الحَقِّ أَنَّ الأَدَبَ مُحْتَاجٌ إلى اعْتِرَافٍ من الدولةِ لِحُقُوقِهِ؟
أمَّا أنا فَإِنَّنِي لأَسْتَعِيذُ بِاللهِ من اليَوْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فِيهِ شَأنُ الأَدَبِ على اعْتِرَافِ الدولةِ و مَقَاييسِ الدولةِ و رِجَالِ الدولةِ.
لأَنَّ مقاييسَ هَؤُلاءِ الرِّجَالِ و مقاييسَ الأَدَبِ نَقِيضَانِ أو مُفْتَرِقَانِ لا يَلتَقِيَانِ على قياسٍ واحدٍ.
فمقاييسُ الدولةِ هي مَقَاييسُ القِيَمِ الشائعةِ التي تَتَكرَّرُ و تَطَّرِدُ و تَجْرِي عَلَى وَتِيرَة ٍوَاحِدَةٍ. وَ مَقاييسُ الأدبِ هي مقاييسُ القِيمِ الخاصةِ التي تَخْتَلفُ و تَتَجَدَّدُ و تَسْبِقُ الأيامَ.
مقاييسُ الدولةِ هي عُنْوانُ الحَاضِرِ المُصْطَلحِ عَلَيهِ.
و مَقَاييسُ الأدبِ هِي عُنْوَانُ الحُرِّيَّةِ التي لا تتقيَّدُ باصطِلاحٍ مَرْسُومٍ، و قَدْ تَنْزعُ إلى اصطلاحٍ جديدٍ يَنْزِلُ مَعَ الزَّمَنِ في مَنْزِلَةِ الاصطلاحِ القديمِ.
مقاييسُ الدولةِ هي مقاييسُ العُرفِ المطروقِ، و مقاييسُ الأدبِ هي مقاييسُ الابتكارِ المخلوقِ.
مقاييسُ الدولةِ هي مقاييسُ الأشياءِ التي تُنشِئهَا الدولةُ أو تُدَبِّرهَا الدَّولَةُ أو تَرْفَعُهَا الدولةُ تَارةً وتَنْزِلُ بها تارةً أخرى.
و مقاييسُ الأدبِ هي مقاييسُ الأشياءِ التي لا سُلطَانَ عليها لِلدُّوَلِ مُجْتَمِعَاتٍ و لا مُتفرقاتٍ، فَلَو اتَّفَقَتْ دُولُ الأرضِ جميعًا لَمَا اسْتطَاعَتْ أن تَرْتَفِع بِالأديبِ فَوْقَ مَقَامِهِ أو تَهْبط بِهِ دُونَ مَقَامِهِ، ولا اسْتَطَاعَتْ أن تُغَيرَ القيمَةَ في سَطْرٍ واحدٍ ممَّا يُكْتَبُ، ولا في خَاطرةٍ واحدةٍ من الخَوَاطِرِ التي تُوْحِي إليه تلْكَ الكتابةُ.
ومِن هُنا كَانَ ذلك العَدَاءُ الخَفِيُّ بَينَ مُعْظَمِ رِجَالِ الدَّوْلَةِ و مُعْظَمِ رِجَالِ الأَدَبِ في الزَّمنِ الحَدِيثِ على التَّخْصِيصِ.
لأَنَّ رِجالَ الدولةِ يُحِبُّونَ أن يَشعُرُوا بِسُلطَانِهم على النَّاسِ ويريدون أن يَقْبِضُوا بِأَيديهِم عَلَى كُلِّ زِمَامٍ، فَإِذَا بالأدبِ و لَهُ حكمٌ غيرُ حُكْمِهِم، ومِقْيَاسٌ غَيرُ مِقْيَاسِهِم، وميدانٌ غَيرُ ميدانِهم، و إذا بالعصرِ الحديثِ يفتحُ للأدَباَءِ بابًا غيرَ أبوابِهِم، وقِبلةً غير قِبلَتهم التي تَوجّه إليها الأدباءُ فيما غَبرَ مِن العُصُورِ .
ولو بَلَغْنَا إلى اليومِ الذي تَعْتَرِفُ فيه الدولةُ بالأدباءِ لَمَا اعْتَرَفَتْ بِأَفْضَلِهِم ولا بِأَقْدَرِهِم ولا بِأصحابِ المزيَةِ مِنهُم، ولكنَّها تعترفُ بِمَن يَخْضَعُونَ لَهَا ويُرْضُون كِبرِيَاءها ويَهبِطُونَ أو يَصْعَدُونَ بِغَضَبِهَا أو رِضَاهَا.
و لَسْنَا في مصرَ بِدَعًا بينَ دُولِ المغربِ و المشرقِ، فما مِن دولةٍ في العالمِ تَعْتَرِفُ بأمثال ِبرناردْ شُو وبِرْترانَد رَسِل و رومان رُولان كما تعترفُ بالحُثَالَةِ من أَوَاسِطِ الكتّابِ.
هذا عَن الأدبِ و شَأْنِهِ المُعْتَرفِ به بينَ رِجَالِ الدُّول، فَمَاذا عن التفرُّقِ والتجمُّعِ، أو عن أَثَرِ هَذا أو ذاكَ في تقويمِ أقدارِ الأدباءِ؟
أصحيحٌ أنَّ الأدباءَ في حاجةٍ إلى الاجتماعِ؟
أنفَعُ من هذا و أقربُ إلى تبيينِ الصوابِ أن تسألَ: هل صحيحٌ أنَّ شاعرينِ يشتركانِ في نَظْمِ قَصِيدةٍ واحدةٍ؟ وهل صحيحٌ أنَّ الأدبَ في لُبابِهِ عملٌ من أعمالِ التعاونِ و الاشتراكِ؟
الحقيقةُ أنَّ الأدباءَ حين يَخْلُقُونَ أَعْمَالَهُم فَردِيُون مُنْعَزِلُونَ، فلا حاجةَ بِهِم إلى مَحْفل يُسَهِّلُ لَهُم الخَلْقُ و الإبداعُ، و لا فائدةَ لَهُم على الإَطلاقِ من اتِّفاقٍ أو اجتماعٍ.
و الحقيقةُ أنَّ التعاونَ إنَّما يكُونُ في مسائِلِ الحِصَصِ و السُّهومِ و الأجزاءِ، ولا يَكُونُ في مَسَائلِ الخَلْقِ و التكوينِ و الإحياءِ.
لأنَّ الفِكرة َالفنيةَ كَائنٌ حَيٌ و وِحْدَةٌ قائِمَةٌ ليس يشترِكُ فِيهَا ذِهنَان، كما ليس يشتركُ في الوَلَدِ الوَاحدِ أَبَوان.
فإذا كان تعاونٌ بينَ الأدباءِ، فإنَّما يكونُ على مِثَالِ التعاونِ بينَ الآباءِ. إنمَّا يكونُ تعاونًا على رعايةِ أبْنَائِهِم و حِماية ذُرِّيَاتِهِم، و قَلَّمَا يحتاجُ الآباءُ إلى مثْلِ هذا التعاونِ إلا في نوادِرِ الأَوْقاتِ.
فإذا اجتمعَ الأدباءُ فلن يَرجِعَ اجتِمَاعُهُم إلا إلى حواشِي الأدبِ أو ” ظُرُوفِ” الأدبِ كما يقولونَ، دونَ الأدبِ في صَميمِهِ.
و إذا اجتمعَ الأطباءُ فَهُناك طِبٌ واحدٌ، أو اجتمعَ المُحامونَ فهناك قانونٌ واحدٌ وقضاءٌ واحدٌ، أو اجتمعَ المهندسونَ فهناك هندسةٌ واحدةٌ و بِناءٌ واحدٌ ، فكيف يجتمعُ الأدباءُ كما يجتمعُ الأطباءُ و المحامونَ والمهندسونَ و كلُّ أديبٍ منهُم نَموذجٌ لا يتكرَّرُ، ونمطٌ لا يقبلُ المُحاكاةَ، و أدبٌ تقابلُهُ آداب ٌمتفرقاتٌ.
إن محاميًا قديرًا لَيُغنِي عن محامٍ قدير، ولكن هل يُغني أديبٌ كبيرٌ عن أديبٍ كبيرٍ؟ وهل يَنُوبُ خالقٌ في الفنونِ عن خَالقٍ آخرَ في الفنونِ؟ كلَّا … لن يَنُوبُ هذا عن ذاكَ ولَنْ يَخْتَلطَ هذا بِذاكَ، كما أنَّ الوَجْهَ الجَميلَ لا ينوبُ عندَ عاشِقِهِ عن الوَجهِ الجميلِ ولَو اشتَرَكَا معًا في صِفةِ الجَمَالِ.
كُلُّ أديبٍ نمطٌ وحدهُ، وكُلُّ أديبٍ في غنى عن سائرِ الأدباءِ، إلا أن يتعاوَنوا كما أسْلَفْنَا في الحَوَاشي والظروفِ دونَ الجوهرِ واللُّبابِ.
أَللأديبِ رسالةٌ؟
نعم، ليسَ بالأديبِ من لَيسَت لَهُ في عالمِ الفِكْرِ رسالةٌ، ومن ليس له وَحيٌ وهِدايةٌ.
ولكن هل للأدب ِكُلِّهِ رسالةٌ تتَّفِقُ في غَايَتِهَا مع اختلافِ رسائلِ الأدباء وتعدُّدِ القرائحِ و الآراءِ؟
نَعَم لَهُم جميعًا رسالةٌ واحدةٌ هي رسالةُ الحُرِّيَّةِ والجَمَالِ.
عَدُوُّ الأدبِ مِنْهُم مَنْ يَخْدِمُ الاستبدَادَ، ومن يُقَيِّدُ الفِكرَ، ومن يُشَوِّهُ محاسنَ الأشياءِ.
و خائنٌ للأمانةِ الأدبيةِ من يَدعُو إلى عقيدةٍ غيرِ عقيدةِ الحُرِّيَّةِ.
أَفَيَدرِي الأستاذُ توفيقُ ما هوَ -في رَأيي- خَطْبُ الثقافةِ الإنسانيةِ الذي يَخْشَاهُ دومًا مِنهُ كتَّابُ أوروبا كافةً على مصيِر الذَّوقِ و التَّفكيرِ والفَنِّ و الشُعُورِ المُستقيمِ؟
أَفيدرِي الأستاذُ توفيقُ ما هوَ -في رأيي- سِرُّ الفتنةِ الحِسِّيَّةِ التي غَلَبَتْ على الطبائعِ و الأذواقِ وتمثَّلّتْ في ملاهي المُجُونِ أو ملاهي الأدبِ الرخيصِ؟
سِرُّها الأكبرُ هو وَباءُ “الدكتاتوريةِ” الذي فَشَا بينَ كثيرٍ من الأممِ في العصرِ الأخيرِ . لأنَّ الدكتاتوريةَ كائنةٌ ما كانت تَرْجِعُ إلى تَغَلُّبِ القوةِ العضليَّةِ على القُوَّةِ الذهنيةِ والقوةِ النَّفسِيَّةِ. و لأَنَّها تَرْجِعُ بالإنسانِ إلى حالةِ الآلةِ التي تُطيعُ و تَعْمَلُ بِغَيرِ مشيئَةٍ و بغيرِ تَفْكيرٍ.
وأينَ تذهبُ المعانِي و الثقافاتُ بَين القُوى العَضَليَّة و الآلاَتِ؟
وأينَ الأديبُ الذي يَسْتَحِقُّ أَمَانَةَ الأدبِ وهو يُبَشِّرُ بدِينِ الاسْتِبْدَادِ!
لِهَذا بَقِيَتْ عُقُولٌ تكتُبُ و قَرائِحُ تُبدِعُ في الشعوبِ الديمُوقرَاطِيَّةِ، ولم يَبْقَ عَقلٌ ولا قَريحَةٌ في بلدٍ من بلادِ الدكتاتوريةِ.
فإذا تعطَّلتْ الكِتابةُ و الإِبدَاعُ بعضَ التَّعطيلِ في أمةٍ ديمقراطيةٍ فإنَّمَا تَتَعَطَّلُ مِن حَالةٍ فِيها تُشبهُ أَحوَالَ الاسْتِبدادِ، وهِي انتِشَارُ الكَثرَةِ العَدديَّةِ بينَ جَمْهَرةِ الشُّعَراءِ، والرُّجُوعُ بالذَّوقِ إلى العددِ الكَثيرِ دُونَ المَزِيَّةِ النَّادِرَةِ.أي الرُّجُوعُ بِهِ إلى “الثَّورَةِ العَضَلِيَّةِ” لا إلى الحُرِّيَّةِ أو المَزِيَّةِ الفَرْديَّةِ.
لِكُلِّ أديبٍ رسالةٌ.
وِ رِسَالَةُ الأُدَباءِ كافةً هي التَّبْشَيرُ بِدِينِ الحُرِّيَّةِ والإِنحَاءِ على صَوْلَةِ المُسْتَبِدِّين، فَمَا مِن عَدَاوَةٍ للأدبِ و لا مِن خِيانةٍ لأَماَنَةِ الأديبِ أشدُّ مِنْ عَدَاوَةِ “القُوَّةِ العَضَلية” و أَخوَنُ مِن خيَانَةِ الاستبدادِ.