صوت كلمة

انفجارُ البِتَّاتِ، وكلُّ شيءٍ آخرَ

من كتاب | الطوفان الرقمي

https://soundcloud.com/wordclub/bits/s-KKXJF

 

لقد تَغيرَ وجهُ العالمِ بَغتة، فكلُّ شيءٍ تقريبًا مُسجّلٌ على جهازِ كُمبيوترٍ يَقبعُ في مكانٍ ما مِن هذا العالم، وهذا يشملُ سجلاتِ المَحاكم، وما اِشتريتَهُ من مَحلِ البَقّالة، وصُورَ عائلتَِ التي تَعتزُّ بِها، بَل والبرامجَ الإذاعيةَ غيرَ الهادفة، وهَلُمَّ جَرَا. وتَتضمنُ أجهزةُ الكمبيوترِ اليومَ الكثيرَ ممَّا نَعُدُّهُ لا طائلَ مِنه، إلاَّ أَنَّ هُناكَ مَن يظُنُّ أنَّهُ في يومٍ مِنَ الأيامِ سَتَصيرُ لهُ قيمة، وكلُّ هذا يُختَزَلُ في تلكَ اللّغةِ الرّقميةِ التي لا تَعرِفُ إلاَّ عُنصُرَينِ اِثنين: الصِّفر والواحِد. وذلكَ الكَّمُّ الهائلُ مِنَ البِتَّاتِ مُكَدَّسٌ على أقراصِ أجهزةِ الكمبيوترِ المَنزِلية، وفي مراكزِ بياناتِ الشركاتِ الكُبرى والوَكالاتِ الحكومية، ولتلكَ الأقراصِ سَعَةٌ هائلةٌ تُغنينا عن انتقاِء واختيارِ ما علينا تَذَكُرُّه. هناكَ كمٌّ هائلٌ مِنَ المعلوماتِ والبياناتِ الرقميةِ الصحيحة، بَل والمُضَّلِّلَة، بل والكثيرِ من «النفاياتِ المعلوماتية» لا تستطيعُ العينُ البشريةِ مُلاحظتَها، ولا تَراها إلاَّ أجهزةُ الكُمبيوتر. وكلُّ يومٍ تزدادُ أجهزةُ الكمبيوترِ قُدرةً على استخلاصِ المعاني مِن كُلِّ هذا الركامُ الهائِل، فَنَجِدُها تستخرِجُ أنماطًا تُعينُ الشرطةَ في بعضِ الأحيانِ على حَلِّ الجَرائم، وتُقَدِّمُ اقتراحاتٍ مُثمِرَة، وتَكشِفُ أحيانًا عن أشياءَ لم يَدُرْ بِخُلدِنا يومًا أن يكتشِفُها الآخرون.

في مارسِ مِن عامَ ٢٠٠٨ استقالَ إليوت سبيتزر حاكمُ نيويورك بِسببِ فضيحةٍ جِنسيَّة، وكانَ العالمُ الرَّقميُّ يقفُ وراءَ اِفتِضَاحِ أَمرِه. تُوجِبُ قواعدُ مكافحةِ غَسلِ الأموالِ على البنوكِ أَن تُبلِغ الجهاتِ الرَّقابيةَ الفيدراليَّةِ عن أيِّ معاملاتٍ تَتجاوزَ عَشرةَ آلافِ دُولار، وقد حرَص سبيتزر على أن لا تتجاوزَ مَدفوعاتُهُ الوَهمِيَّةُ هذا الحدَّ القانوني، لكنَّ كمبيوترَ مَصرِفِهِ وَجَدَ أنَّ سلسلةَ مَدفوعاتِهِ الصغيرةَ تُشكِّلُ نَمَطًا يُثيرُ الرِّيبَة. لقد سَنَّت الحكومةُ الأمريكيةُ قواعدَ مكافحةِ غسلِ الأموالِ لمحاربةِ الإرهابِ والجريمةِ المُنَظَّمَة، لكنْ أثناءَ مُراقبةِ الكمبيوترِ للعملياتِ المَصرِفِيَّةِ الصغيرةِ بحثًا عن دليلٍ على وقوعِ جرائمَ كُبرى، وَقَفَ الكمبيوترُ على مبلغٍ خَرَجَ من حِسابِ سبيتزر المَصرِفِيّ مُقابِل خَدماتٍ تَلَقَّاَها، فكانَ ذلكَ هوَ الذي أَوقَعَ بِذلكَ الحَاكِم.

بمُجرّدِ أن يدخلَ شيءٌ ما على جهازِ الكمبيوتر ، يُمكن عملُ ما لا يُحصى من النُّسخِ منه، وفي غَمضةِ عينٍ يَجوبُ العالمَ بَأسرِه. فبِفضلِ الكمبيوتر صارَ عملُ مليونِ نسخةٍ طِبقَ الأصلِ من شيءٍ ما لا يستغرقُ إلا بُرهَة، وهذا ينطبقُ على ما نريدُ أن يطّلعَ عليهِ الآخرون، وما ليسَ كذلك. ها هوَ الانفجارُ الرقميُّ يُغَيِّرُ وجهَ العالمِ كما فعلَ اكتشافُ الطباعةِ من قبل، بل ونجدُ أن بعضَ تلكَ التغييراتِ تُبَاغِتُنَا وتأخذُنا على حينِ غِرَّة، فتُحطِّمُ تصوُّرَنا حولَ الطريقةِ التي يسيءُ بها العالمُ من حولِنا. حينَ ننظرُ إلى الانفجارِ الرقميِّ نجدُ أنهُ يبدو في ظاهرهِ طَفرةً نحوَ الأفضل، وأمرًا حميدًا، بل ورُبما قَفزَةً نحوَ المِثاليّة المنشودة. فبدلاً من أن تُرسلَ صورًا مطبوعةً لأطفالَك الصغار عن طريقِ البريدِ إلى جدّتهُم ، صِرتَ اليومَ يكفيكَ أن تنشرَ تلك الصور في ألبومٍ رقميّ على شبكةِ الإنترنت على موقعٍ مثلَ موقعِ فليكر، وحينَها لن تتمكن جدّتهم فحسب من رؤية أحفادِها الصغار، بل وصديقاتِها، بل والعالمِ بأسْرِه. لعلك تتساءل: وماذا في ذلك؟ إنها صورٌ لطيفة، وما بِها من بأس. لكن لنفترضَ أن سائحًا يلتقطُ صورةً فوتوغرافيةً أثناءَ إحدى العطلات، وحدث أن كنتَ أنتَ هناك فظهرتَ في خلفيةِ الصورةِ التي التقطها ذلكَ السائحُ، ولنفرِض أن ذلك المكانَ كانَ أحدَ المطاعمِ التي توجَّهتَ إليها لتناولِ الطعام، ولم تكن قد أخبرتَ أحدًا بذلك، فإذا ما حمَّل ذلك السائحُ تلك الصورَ البريئةَ على شبكةِ الإنترنت ، فحينَها ستعلمُ الدنيا بأسرِها أنك كنتَ في ذلك المطعم، بل وسيعلمُ الجميعُ متى كنتَ هناك.

إن كانت البيانات تتسرّب. من المُفترضِ أن سجلاتِ نطاقاتِ الائتمانِ تبقى محفوظةً في مستودعاتِ البيانات، لكنَّ لصوصَ الهوِّيةِ يَسطُون عليها. إننا في بعض ِالأحيانِ نُدلي بمعلوماتٍ نظيرَ شيءٍ ما نحصلُ عليه، ونجدُ أن بعضَ الشركاتِ قد تمنحُنا بعضَ المكالماتِ الهاتفيةِ المجانيةِ إلى أيِّ مكانٍ في العالمِ مقابلَ أن نقبلَ بمشاهدةِ إعلاناتٍ عن منتجاتٍ تعرِفُ تلكَ الشركات عن طريقِ أجهزتِها أنك تتحدثُ عنها.

مما يحدثُ الآن في عالمِنا، ولقد بدأ بالفعل عصرُ ذلك الانفجارِ الرقميّ، وما هذا إلا شيءٌ يسيرٌ، وما يُصاحبُهُ من تمزقٍ اجتماعيٍّ. نحنُ نعيشُ بالفعلِ في عالمٍ حيثُ تكفي الذاكرةُ الموجودةُ في الكاميرات الرقميةِ وحدَها لتخزينِ كلِّ كلمةٍ موجودةٍ في كلِّ كتابٍ في مكتبةٍ يفوقُ حجمُها حجمَ مكتبةِ الكونجرس الأمريكي بمائةِ مرة. إنَّ الكمَّ الهائلَ من رسائلِ البريدِ الإلكترونيِّ يكفي لنقلِ النصِّ الكاملِ لكل ما تحويهِ مكتبةُ الكونجرس الأمريكي من كتبٍ في غضونِ عشرِ دقائق. تَشْغَلُ الصورُ والأصواتُ الرقمية مساحةً أكبرَ من تلكَ التي تشغلُها الكلمات، وهذا يعني أن إرسالَ جميعِ الصورِ والأفلامِ والملفاتِ الصوتيةِ عن طريقِ البريدِ الإلكترونيّ قد يستغرقُ سنوات، لكن هذا بمقياسِ وقتنا الحالي، فالنُّمو الهائلِ لا يَزالُ مستمرًا، وفي كلِّ عامٍ تزدادُ القدرةُ الاستيعابيةُ للوسائطِ التي نحفظُ عليها المعلومات، وتزدادُ سرعةُ نقلِ المعلومات، وتزدادُ قدرتنُا على الابتكارِ عمَّا كانت عليهِ في العامِ الذي يَسبِقُه.

يَجري كلُّ عامٍ إنتاجُ ما يكفي من القدرةِ التخزينيةِ للأقراص ، بحيث يُمكِنُنَا استخدامُها في تسجيلِ صفحةِ معلوماتٍ عنكَ وعن كلِّ إنسانٍ آخرَ على الأرضِ كلَّ دقيقةٍ أو اثنتين. فَلعلَّ تصريحًا أَدلى بهِ مُنذُ فترةٍ طويلةٍ أحدُ المرشحين السياسيين يُعاوِدُ الظهورَ اكتشافًا مُهِمًّا، ولعلَّ رسالةً كُتِبَت على عَجَلٍ تَقَعُ في يدِ كاتبِ سِيَرٍ تُصبحُ اكتشافًا مُهمًّا. ولكَ أن تتخيَّلَ ما الذي يعنيهِ أن تُسَجِّلَ على كلِّ إنسانٍ كلمةً يَتَلَفَظُّ بِها أو يكتبُها طِيلةَ حياتِه! ولكَ أن تعلمَ أن الحاجزَ التكنولوجيّ الذي كان يَحولُ دُونَ ذلكَ قد أُزِيلَ بِالِفعل؛ إذ صارَ هناكَ ما يكفي مِن المساحةِ التخزينيةِ لفعلِ ذلك. لكن، هل ينبغي أن يكونَ هناكَ أيُّ حاجزٍ اجتماعيٍّ لمنعِ هذا؟

أحيانًا تَبدُو الأمورُ وكأنها تَصيرُ في الآنِ عَيْنِهِ أفضلَ وأسوأَ مِمَّا كانت عليهِ في الماضِي، فما نُسَمِّيهِ باسمِ «السِّجِّلِ المُعلَن» صارَ اليومَ مُعلنًا أكثرَ منَ اللازِم؛ فَلَعلَّكَ تُفاجَأ بِصاحبِ العملِ الجديدِ اليومَ وأنتَ في طريقِكَ للتعيينِ في ناشفيل بولاية تينيسي، وقد اِكتشَفَ أنكَ قبلَ عشرِ سنواتٍ انعطفتَ بسيارتِك يسارًا مُخالفًا قواعدَ المرورِ في لوبوك بولاية تكساس على بُعدِ مئاتِ الأميال. لقد صارَت الفكرةُ القديمةُ عن «سِجِلِ المحكمةِ المَختوم» ضَربًا من الخيالِ في أيَّامِنا هذهِ التي صارت فيها كلُّ معلومةٍ تُستَنسَخُ وتُصَنّفُ وتُنقَلُ هُنا وهناك بِلا نِهاية !

المصدر: الطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا | هال أبلسون وهاري لويس وكين ليدين | مؤسسة هنداوي

تسنيم محمد

ادرس صيدلة أقدم في الحفلات وألقي الشعر النبطي والفصيح. أعلق صوتيا في نادي كلمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى