البحث عن جنات عدن في مباحث آخر عظماء المستكشفين ويليام ف. ورين
تُعد محاولة الوزير ورئيس جامعة بوسطن ويليَم فيرفيلد وُرن إحدى المحاولات الأكثر إقناعًا التي بُذلت عبر التاريخ لتحديد موقع جنات عدن.
في هذا المقال، تلقي بروك ويلنسكي-لانفورد نظرةً على أفكار الرجل الذي اقترح في كتابه “العثور على الفردوس” أن القطب الشمالي هو موطن البشرية جمعاء.
تبدو فكرة البحث عن الفردوس أمرًا أشبه برحلات الاحتلال التي كان من المفترض أن تنطفئ شعلتها مع مطلع القرن التاسع عشر. فبعد اكتشافات كرِستوفر كولومبُس العظيمة ورحلات برستر جون المذهلة، لم يكن ليظنَّ أحدٌ أن هناك قطعة جغرافية لم تدنسها يد الإنسان قط, ولا أن توجد على كوكبنا هذا جنة دنيوية لم نسمع عن وجودها إلى الآن، فقد أصبح العالم -جغرافيًا- أكثر نضجًا واستطاع الإنسان اكتشاف المناطق النائية حول العالم والسيطرة عليها.
وقد سعى كتاب أصل الأنواع لدارون والذي صدر عام 1859م أن يثبت تدريجيًّا أن الإنسان والكائنات الأخرى مثل الطيور لم تُخلَق جميعًا مرةً واحدة وفي مكان واحد على الكرة الأرضية.
رفض داروين قطعًا البحث عن النقطة الجغرافية للأصول في كتابه أصل الإنسان (1871). وسبق أن قال بأنه “من المرجح أن أسلافنا الأوائل قد عاشوا في قارة أفريقيا” ولكنه زعم أيضًا أن قردًا كبيرًا جاب أوروبا منذ وقت ليس ببعيد، كما واستطرد بقوله إن كوكب الأرض قديم بما يسمح بهجرة بعض الكائنات البدائية إلى مختلف ربوع العالم وبذلك “لا جدوى من التفكير مطولا في هذا الموضوع.”
وكانت ڤكتوريا وودهل– المُدافعة عن حقوق المرأة الراديكالية والحب الحر أقلَّ دبلوماسية في خطابها الملحمي عن “جنات عدن” والذي أعادت إلقاءه في محافل مختلفة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، فكانت تقول عن فكرة وجود عدن على الأرض إنها محض هراء، “علينا توبيخ أي تلميذ يصل إلى عمر الثانية عشر، ويكون قادرًا على القراءة إذا ما قرأ وصف هذه الجنة ولم يكن قادرًا على استيعاب أن هذا الوصف لا يماثل أي المناطق الجغرافية على أرضنا”. ( وهنا يبدو أنها كانت ترمي المعنى على المبشّر والمستكشف ديْد ليفينغستُن الذي أعلن عن وجود الفردوس في منبع نهر النيل في بحيرة في منطقة بنغولو في زامبيا، بينما كان يصارع الجنون المترتب على مرض الملاريا عام 1871).
لم يكن ليفينغستُن الشخص الوحيد الذي ظل يبحث عن جنات عدن. كان هذا العالِم الجديد الشجاع يقلب المعتقدات العريقة رأسًا على عقب. وكانت نظرية التطور تزعم بأن الإنسان قد يزداد رفعة بسبب عامل الوقت مبتعدًا عن أصوله البدائية الحيوانية الأقل ذكاءً.
لكن الديانة المسيحية كانت تصر منذ قرون أن الإنسان نزل من السماوات بسبب الخطيئة الأصلية من جنات عدن إلى المجتمع البائس المنكوب في أواخر القرن التاسع عشر. وبذلك تزداد حيرة الإنسان المتحضر المؤمن؛ فأيٌّ من هاتين النظريتين يصدّق؟ هنا ظهر دور ويليَم فيرفيلد ورين؛ الوزير الميثودي المميز والمعلم، وبحكم عمله رئيسًا لجامعة بوسطن، كان ورين يعلم أن التوجه المستقبلي سيكون في مصلحة العلوم ولكنه لم يكن على استعداد للتخلي عن أصول دينه لصالح هذه الضوابط الجديدة، فكيف بإمكانه الدمج بين هذين المنظورين معًا؟
كانت نظرة وارن عن جنات عدن مخالفة للمنظور الشائع. وشرع وارن في ترجمة الإنجيل محولًا كلماته إلى علم: كانت جنات عدن “المكان الوحيد على الأرض حيث توجد أفضل الظروف البيولوجية”. ويقول سفر التكوين إن جنات عدن “تحتوي على أشجار كل منها تسر الناظرين وتوفر مصدرًا للغذاء”، ويرى وارن أنه لا يمكن تقريبًا تصور الترف والحيوية التي تنتج عن الغنى النباتي والحيواني في تلك البقعة”.
وقد لاحظ حقيقة اكتُشِفَت حديثًا: منذ ملايين السنين كانت الأرض المكان أكثر دفئًا. ومن تلك النقطة، تابع الكشف عن مخلوقات رائعة وأسطورية مثل الماموث الصوفي والديناصور وشجرة سيكويا العملاقة. ولكنه كان يعلم بوجود مكان ما على خريطة العالم لم تطأه ساق من قبل. مما أوصله إلى نتيجة حتمية مفادها: جنات عدن تقع في القطب الشمالي.
بدا الأمر منطقيًا نوعًا ما، فقد باءَت كل محاولات استكشاف كل من جنات عدن والقطب الشمالي والنيل منها بالفشل، بالرغم من مرور قرون طويلة من البعثات الكشفية الخطرة و المكلفة.
نشر وارن هذه النظرية في عام 1881 باسم “العثور على الفردوس: مهد الجنس البشري في القطب الشمالي”. طغت على هذا الكتاب صبغة أكاديمية بحتة. كانت هناك فقرات طويلة بالفرنسية والألمانية واليونانية القديمة في الحواشي. واستند في كتابته على تخصصه: علم الأساطير المقارن، والذي وصفه بكونه “علم أقدم المعتقدات التقليدية وذكريات البشرية”.
كان وارن مُلمًا بالفلكلور الملحمي العظيم الهندوسي والسلتي والصيني والفارسي. وشكل هذا الكتاب مجموعة نادرة من المعارف ندر ما يضاهيها في القرن التاسع عشر، حيث احتوت على الأصداء المجازية لقصص الإنجيل، و”الأدلة” الموضوعية على حقائق الديانة المسيحية.
يسرد فهرس “المؤلفون المشار إليهم أو المقتبس من أعمالهم” في كتاب “العثور على الفردوس” 580 مصدرًا على مدار 495 صفحة. اسم اغناطيوس دونيلي يجاور اسم داروين، وهو من ادعى حقيقة وجود قارة أتلانتس المفقودة؛ وأنها دُمرت حينما أوشك مُذنب على الاصطدام بالأرض.
كان كتابه “أتلانتس” الصادر عام 1882 ذا شعبية مذهلة. (زعم دونيلي في نظرية أخرى أن فرانسيس بيكُن هو الكاتب الحقيقي لمسرحيات شيكسپپير ولكن حينئذٍ لم يأخذ أحد هذه النظرية على محمل الجد). شعر بعض المراجعين أن مصادره لا تعتريها الصحة وبذلك لا تقوي حجته، ولكن يبدو أن العديد من القراء لم يزعجهم ذلك.
اكتنزت الطبعة الثانية من كتاب “العثور على الفردوس” – والتي أُصدرت بعد أشهر من الأولى – بالأدلة.
كتب وارن بفخر عن “تلميذ بسيط غير مثقف في مدرسة مسيحية”، وهو السيد ألكساندر سكيلتُن. كان سكيلتُن ميكانيكيًّا وحدادًا في باترسُن بنيو جيرسي. وتمكن هذا الرجل يومًا من بناء نظرية “مقنعة ومترابطة” تنص على فعلية وجود جنات عدن في القطب الشمالي.
تباهى وارن بأن أحد الأساتذة المتغطرسين السويسريين في علم الحفريات والذي يدعى هير ادعى أن وارن كان يسرق كتاباته. كما نشر شهادة من عالم الآثار البريطاني والأنكليكاني الأرشيبالد هنري سايس حيث قال: “يمكنني أن أقول مبدئيًّا إن وجهة نظرك تبدو لي منطقية…” (بغض النظر عن أن سايس كان يشير في الواقع إلى عمل سابق لوارن، حول علم الكونيات وعلاقته بالإلياذة التي ألفها هوميروس).
تغلبت نظرية وارن “بسرعة على كل الفرضيات السابقة” وذلك في كلا الجانبينِ من المحيط الأطلسي – حتى لو كانت هذه الشهادة من فم وارن نفسه. ولذلك كان استمرار ظهور نظريات جديدة عن موقع جنات عدن أمرًا مثيرا للإحباط.
وكان عالم الآثار الألماني موريتز إنجل من لايبزيغ يملك الشجاعة الكافية لنشر كتابه “الحل لسؤال موقع الفردوس” بالتزامن مع كتاب وارن “العثور على الفردوس”، وفي كتابه، اعتبر إنجل جنات عدن عبارة عن واحة في صحراء خارج دمشق. وكانت الأنهار الأربعة التي تحدث عنها تسيل بغزارة حتى موسم الجفاف في مايو أو يونيو.
فما كان من وارن إلا أن يرد على هذا الادعاء بقوله إن تصور إنجل لجنات عدن قبيح. وكان الأمر كما لو أن السيد إنجل لم يقرأ سفر التكوين أبدًا ولم ير صور الغزارة والترف المذكورة فيه! كما أن هذا الوصف أيضًا ضيق الأفق؛ فقد تجاهل عشرات الأساطير حول “الحديقة السعيدة” في نصوص الحضارات الأخرى! الأسوأ من ذلك كله أن كتاب إنجل غير مبني على أي أساس علمي ولم يُبذل فيه أي جهد لدمج “حقائق علماء الأعراق وعلماء الحيوان ونظرياتهم فيما يتعلق ببدايات الحياة البشرية …. فإن وقت الخوض في مثل هذه الدراسات ضيقة الأفق قد فات وانتهى”.
كان إصرار وارن مخلصًا لكون جنات عدن هي القطب الشمالي ولكنه ربما كان ساذجًا إلى حدٍّ ما بالنظرِ إلى السر الذي كشف عنه وارن بنفسه في الصفحة الأخيرة من كتابه حين قال إنه لا يعتقد في الواقع أن بالإمكان العثور على فردوسه هذا.
ويكتب وارن مرثيًا بحثه “عُثِرَ على جنات عدن المفقودة منذ فترة طويلة، ولكن بواباتها أوصدت في وجوهنا. الآن وكما نفينا في البداية فإن السيف يدور في الجهات كلها ليجد طريقة للحفاظ على آفاق شجرة الحياة … “
لن نتمكن من فعل أي شيء عند وصولنا إلى جنات عدن القطبية “إلا أن نركع وسط خراب متجمد مفغرين أفواهنا في دهشة، نذرف دمعات دافئة فوق قلب أقدم مواطن الإنسانية وأجملها”. وكانت الطريقة الوحيدة للعودة إلى جنات عدن هي الموت، إذا قبلنا ذبيحة المسيح. فعلينا اتباع يسوع في الحياة وفي الموت حيث يمكن المشي بجانب الملائكة بسيوفهم المشتعلة.”
وبهذه البساطة، على الرغم من بذله قصارى جهده لتكون له الكلمة الأخيرة في موضوع موقع جنات عدن، فتح وارن عن غير قصد الباب أمام جيل جديد من الباحثين عن جنات عدن وبدأوا في الظهور على الفور بعد نشر كتابه حتى أن العديد منهم اقتبسوه بصفته دليلا وحجة راسخة على صحة مزاعمهم تمامًا كما فعل وارن مع مصادره الـ 580.
بدأ الأمر بزملاء وارين في الكنيسة الميثودية. أعلن القس إي .دي .ليديارد لجمهور من 5000 شخص في إحدى الرحلات في مدينة نيويورك أن جنات عدن قريبة من موطنهم. “نرى في شاوتاوكوا مكانًا واحدًا استعادت فيه جنات عدن هباتها. المسيح هو الشخصية المحورية هنا ونستعيده باستعادة جنة آدم الثانية”.
وفي عام 1980، كتب مقالًا افتتاحيًّا مكوَّنًا من ثلاثة أجزاء في صحيفة سان خوسيه، كاليفورنيا المسائية بعنوان “جنة عدن: أخيرًا حددنا موقعها الأكيد على الخريطة” وأوضح أن وادي سانتا كلارا في كاليفورنيا يمتلك كل مقومات خصائص جنات عدن من حال قويم ومناخ مثالي ووجود شجرة سيكويا العملاقة. ودوَّن كاتب المقال بقوله إنه إذا كان وارن متحمسًا جدًّا بشأن أشجار السيكويا، لماذا لم يختَر كاليفورنيا؟
“عند الاقتراب من الحقيقة، فإن الأمر يبدو غريبًا أن الكاتب القدير ذا التوجه والزاد العلمي لم يكن بوسعه تحديد الموطن الأصلي للإنسان”.
لا يمكن أن يكون وارن قد سعد بثناء الروائي ويليس جورج إيمرسُن مؤلف رواية وايومنغ في مقدمة روايته الخيالية العلمية بعنوان “إله من دخان” عام 1908م.
وزَعَمَ الكتاب أنه يروي القصة الحقيقية للصياد النرويجي الذي سقط عام 1829م داخل حفرة في القطب الشمالي إلى المناطق الداخلية لجوف الأرض – حيث يمكن الوصول لجنات عدن عن طريق قطار كهربائي.
“في مثل هذا المجلد الدقيق، يظهر لنا أن السيد وارن قد أصاب إصبع قدمه بضربه على طرف الحقيقة الفعلية، ولكنه على ما يبدو فوّتها بمقدار سمك شعرة”.
وثق الدكتور جورج سي ألين عالم فيزياء في جامعة بوسطن بما قاله زميله وارن عن موقع جنات عدن. لكنه أجرى تعديلًا واحدًا مهمًّا. حيث ادعى في عام 1921م أن القطب الشمالي يتحرك بالكامل حول العالم كل خمسة وعشرين ألف سنة، لذلك “وفق الحسابات الرياضية الدقيقة، فإن موقع الجنة الأصلية الآن هو أوهايو”.
ظل وارن نفسه الذي توفي عام 1929م عن عمر يناهز 96 عامًا مقتنعًا ومؤمنًا بصحة نظريته الأصلية. إن جنات عدن في القطب الشمالي “هو التعميم الأسمى المستمد من حقائق المعرفة الحديثة التي تحترم الإنسان والعالم. لقد ألفت هذه النظرية بين تقاليد الدين العريقة وأحدث إنجازات العلم …”
لكن جنات عدن الميتة والوعود بحياة مثالية بعد الموت لم تخفف من اللهفة للعثور على جنة حية – لهفة تبين لاحقًا أن معالمها كانت ولم تزل حديثة.
كانت فكرة وجود جنة غير مرئية بعد الموت أمرًا بعيدًا وصعب الاستيعاب، ولذلك فقد استمر عدد من المفكرين في القرن العشرين في محاولة لإعادة جنات عدن إلى الأرض.
أصر القس لاندون ويست المسؤول عن تجديدية العماد في أوهايو في عام 1901 على أن العمل الطبيعي العملاق المعروف باسم تل الثعبان خارج شيليكوث كان موقع تجلي المعالم المادية لخطيئة الإنسان الأولى.
يعتقد تسى تسان تاي الثوري المسيحي في هونغ كونغ أن وضع جنات عدن في منغوليا الخارجية يمكن أن يساعد في إنهاء الحرب العالمية الأولى. واستخدم المحامي الليبرالي إلفي إديسون كالاوي علم الأرقام لإثبات أن الله خلق الإنسان في فلوريدا بانهاندل، وفي عام 1956 افتتح حديقة للعامة. كان كل من هؤلاء الباحثين مثل وليام وارين يعملون على التوفيق بين معتقداتهم الدينية العريقة ومتطلبات العلم الحديث. ويستمر هذا السعي الدؤوب إلى يومنا هذا.
بقلم: بروك ويلنسكي-لانفورد | ترجمة: سحر عثماني | تدقيق: عهود المخينية | المصدر