قراءة في رواية | طعم الذئب لـ عبدالله البصيص
عنوان الكتاب | طعم الذئب
مؤلف الكتاب | عبدالله البصيص
دار النشر | المركز العربي الثقافي
رقم الطبعة | الأولى
سنة الطباعة | 2016
كيف ينجو الإنسان من دائرة مجتمعه، لا فكاك، بل إن الظفر لا يخرج من اللحم كما يقول المثل. ذيبان ابن بيئته، وعقله وجسده وكل ما فيه يملكها مجتمعه وقبيلته والبدو كلهم، فهم كتلة واحدة، فالشرف واحد والعادات واحدة والرأي واحد والعقل واحد، وإن حاد شخص واحد عنها فهو إما مقتول وإما منبوذ، وذيبان ذاق الأمرين ولم يفلت منهما.
كانت الحكاية تبدأ من الدائرة البدوية التي شكلت من هو ذيبان ولكن من بعيد، أي أن ذيبان لم يكن سوى أداة تحركها القبيلة وإن لم يكن غير ذلك فليس ذيبان من دمهم!
منذ البدء لم يعرف ذيبان نفسه بل لم يتدخل أصلاً في تشكيل ذاته – مصدر هويته وعنوان استقلاليته، فالقبيلة سمته ولقبته وألصقت به ما لا يريده ولكن من يقدر على محو إرادة قبيلة بأكملها عليك؟
ذيبان رغم أن الاسم رمز للشجاعة إلا أن أمه وأبناء جماعته سموه كوبان وألحقوا به صفات ذميمة كالجبان وأنه عار على القبيلة لضعفه. إن الدائرة التي نعنيها تعبر عن مشاهد واضحة خنقت ذيبان لأنها كبلت حريته في أن يختار أن يكون هو. من أول يوم في الحياة يعتقد ذيبان أنه لم يكن مرحبًّا به في هذه الأرض، وشاءت الأقدار أن تؤكد ذلك حين تسبب في مقتل اثنين من أبناء أخواله مما جعل القبيلة كلها تنبذه كما لو كان حشرة ، ومن هنا بدأت القصة.
في دلالة الجماعة قوة الانتماء، لكن حين يكون هذا الانتماء هو السبب في تشكيل ضعفك وخنوعك فإن التمرد هو الحل بالهروب من هذا العالم الفض مصداقا لقول “قاسم حداد”: (دع للقبيلة قيدها واخرج معي حرا من التقليد).
وكلنا يعرف كيف أن البدو شديدو التمسك بالقبيلة وأفكارها ودمها وتقاليدها، وكيف أن الخروج عن ولي الطاعة معصية كبيرة لا تغتفر، وأنها فضيحة بألف سيف!
فر ذيبان من المكان الذي لفظه منذ زمن، المكان الذي لا يطيق حتى اسمه. وهو – أي ذيبان – لم ير نفسه يومًا في هذا المكان. فكل شيء لا يريد وجوده، وما فائدة أن يعيش مع الأشياء التي لا ترغب فيه!
بعد أن ترجل إلى الصحراء وغاص في مهمات عديدة أدرك ذيبان أمورًا ما كان ليتعرف عليها وهو في قبضة قبيلته، وهنا تتجلى عظمة العزلة في أنها النقطة التي تحولك إلى مسار ما كنت لتبصره من قبل وأنت بين الناس.
العزلة كانت بالنسبة لذيبان إجبارية مثل لاجئ يبحث عن حماية فتشبث بالشجر والنار والشمس والزوادة والقمر والماء والجحر ليبقى حيا، حيا فقط.
الجحر قصة طويلة ومثيرة للسؤال والبحث عن الذات والغوص في الأعماق ومعرفة كنه الحياة وصيرورتها مرورًا بالموت وما بعد الحياة عبر الصحراء والذئب وذيبان نفسه. كان الجحر يقول أشياء لم يفهمها ذيبان أو فهمها، المهم أنه خاض معركة ما كانت في الحلم يتوقع حدوثها.
حلم أم حقيقة؟
أحيانًا تختلط موضوعات عديدة على الإنسان فلا يعرف كيف يفرق بين الأبيض والأسود وسط معمعة الحيرة والخوف والدهشة، وكم من مرات يتوقف الإنسان عند نقطة معينة ولا يستطيع اجتيازها إلا بعد عناء حين يتبصر خيطا دقيقا حول ما يحدث أمامه فلا يعرف أهو حقيقة أم حلم، هل هو في المنام أم في اليقظة، وها هو ذيبان يعبر مراحل فلسفية مع الوحدة، والهلع، وغور الذات، وسؤال الكون، وتوسل الحياة بعد أن رأى أن لا مفر من البحث عنها عبر الحلم أو الحقيقة.
استدعى خلال هذه الرحلة أحداثا بطريقة المونولوج الداخلي (الحوار) مثل: لقاءاته مع الفتيات وخاصة غالية التي يحبها وهو يغني لهن قصائده ويعزفها على الربابة، وتارة يتذكر قبيلته وخاله وزوجة خاله وما نعتوه به من أبشع الصفات وإعلانهم رفضه ومقاومتهم له، وتارة عن مستقبله القادم المجهول وعن نيته للقاء الكويت وكيف يصبح شخصًا آخر.
إن الوحدة في مكان بعيد وموحش وقاحل لا يبعث على الطمأنينة يأتي بكل الأفكار والأحداث السلبية والمؤلمة، وهذا ما كان لذيبان في رحلة مضنية وجديرة بأن تروى، فذيبان يكلم الذئب، ويقاتل الذئب، بل ويسكن في جحر لأيام كأنه في رواية وليس في حقيقة: “العالم، قد يكون العالم ليس حقيقيا، مثل الحلم، في الحلم أتألم وأجوع وأعطش وأخاف، في الحلم ألوان وصحراء وسماء، وكذلك مطر وإبل وأغنام وحميدان أيضا، حميدان وخالي سلطان رأيتهما في الحلم، ما الذي يؤكد أن الحلم واليقظة شيئان مختلفان؟… لماذا لا تكون الحياة حلما والموت هو اليقظة التي تقطعه”.
جعلت الوحدة من ذيبان فريسة الهلوسة والهذيان المتواصل. يحادث نفسه عن مفاهيم ما تطرق به من قبل. إنه يشعر أن الأفكار الغريبة تحضر ذهنه مجبورة ومشدودة إليه. كيف لا وهو في قمة الخوف والمشاعر المؤلمة. يفتش عن درب واضح يقوده إلى النجاة فهل يجد؟
الخيال والمتخيل الشعبي
كثير من الكتابات العربية عبّرت عن الموروث الشعبي من الخرافات والأساطير بصورة تحكي عن الواقع العربي المولع بالخيال في حياته اليومية. والبصيص عبر مشاهد المتخيل في رؤيته فشكلت النص والمكان وصاغت العقلية البدوية العربية (قصص الجن، والموت، وأخيرا الذئب)، فيرويها على لسان العجائز مثل قوله: “مضى الظلام يسترسل دامسًا في الجحر ويُظلم أكثر فأكثر، حتى ليصدق ظن ذيبان بأنه في ظلمات ثلاث كما سمع مرة من إحدى العجائز أنها حدثت مع أحد الرجال الطيبين؛ ابتلعه حوت ذات ليلة، وأصبح في ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. هو الآن في ظلمة الليل، وظلمة العاصفة الرملية، وظلمة الجحر”. إن الربط العجيب بين ظلمة المكان الموحش وظلمة الحوت ضمنت أبلغ تعبير عما يمكن أن تعتري الحالة النفسية من الوحشة والفزع والوحدة.
يسترسل المؤلف في سرد المتخيل من الموروث الشعبي في مسألة الحلم، التي يؤمن بها كثير من الناس في أنها تحمل دلالات لشيء ما وأنها قابلة أن تتحقق يومًا ما : “فكر بالحلم الذي رآه قبل قليل محاولاً فك رموزه وإشاراته التي لا شك أنها تدل على شيء؛ “الأحلام تخبر عما ستقبل به أيام المرء”، كما سمع من العجائز أنها ألغاز يجب أن يفكها العارفون بإشارات المنامات ودلالاتها، لأنها من كلمات الملائكة. لكن هذا الحلم بدا له من الغرابة بمكان يصعب معه التفسير، فما دلالة ذئب يقول الشعر؟”.
وأما عن قصص الجن فإن العرب كثيرا ما يلجأون إلى تأليف الغريب من الحكايا حولهم، من خلال تخيل أشكالهم وأماكن وجودهم، وما يحبون وما يكرهون، في محاولة للوصول إلى معرفة كنه هذا الكائن الغيبي وعوالمه، وهنا يقول ذيبان – بطل الرواية -: “… كقصة الذويبي الذي أرعبته رعبا شديدا عندما سمعها أول مرة، لدرجة أنه لم يرقد ليلتها إلى الصباح، وهو عن فارس شجاع يقال له الذويبي بات ليلة تحت شجرة أُثل معروفة بأنها من مساكن الجن، وعندما فز من صميم النوم على صوت ارتطام جسم ثقيل عند رأسه، وجد جنية لها رأس ماعز وشعر فتاة حريري منسدل، ابتسم الذويبي وهو يمسد شعرها ليؤكد صلابته قائلاً: “شعر ضافٍ”، فقالت الجنية معجبة بقوة قلبه الذي لم يمسه الخوف: “قلب وافٍ””.
ما زال ذيبان في غمرة هذيانه من شدة تعب ما لاقاه، فيحلم أنه يكلم ذئبًا في حوارات فلسفية عميقة وقد بدأها بــ: “نحن الذئاب نحب أن نصادق البشر، ليلة واحدة في العمر، في هذه الليلة أريد أن تكون صديقي، فإذا جاء الصباح نعود كما كنا، ذئب جائع وبشر خائف، هل تفهم ما أعني؟ هذه الليلة هي ليلتي الوحيدة في العمر ذيبان…”
وأنا أقرأ الحوارات بين ذيبان والذئب، يتضح من الكاتب أنه يريد التعبير عن دلالات فلسفية عبر الأفكار المطروحة عن الموت والقوة والسلطة والذات، وقد نجح المؤلف في إيصال أفكاره بلغة متناغمة وواضحة مملوءة فلسفة عبر لسان إنسان وحيوان. وفي المقابل، كنت أفكر في رسم الخيال المحبوك (ذئب يكلم إنسانا) في حوار سلس وتركيب متواز في الفكرة، أليس من الفن أن نرى في الأدب هذا التقارب بين جنس البشر وجنس الحيوان في محاولة لدمج الطبيعة في أرض واحدة قريبة؟
بمعنى آخر، أرجعنا المؤلف إلى الأدب القديم الذي كان يجمع أفكاره على لسان الحيوانات لإيصال أهدافه بشكل غير مباشر، وكانت السياسة والحكام (السلطة) هي المعني الأول في أغلب الأحيان، وربما أراد عبدالله البصيص أن يفعل ذلك ويقول أشياء عبر الذئب.
أرى أن الرواية تستحق الفوز بجائزة أفضل رواية في معرض الشارقة 2017 لأنها عرفت كيف تقبض على المعنى في مكانه الصحيح دون أن تحيد عن الهدف. شكرًا عبد الله البصيص.
مراجعة جميلة وشاملة
سلمت الأيادي