يقولونَ إنَّ السفرَ يعني قليلاً من الموتِ. ولكنَّ هذا مجردُ خَاطِرٍِ شاعريٍٍّ.
والحقيقةُ شيءٌ آخرُ تماما: فالسفرُ هو التخلصُ من الروتينِ والترحالِ ورؤيةُ الأحداثِ يُهيِّئانِ المرءَ لأنْ يعتادَ على الحياةِ وأن يكونَ ذِهنُهُ في حالةٍ صافيةٍ من المقدرةِ على الاستقبالِ والتلقي للاتجاهاتِ الجديدةِ.
و زرتُ بالتفصيلِ كلَّ المصانعِ الكبرىَ في أوروبا ومن مراعي أيرلندا الخضراءَ إلى سهولِ روسيا التي ليس لها حدودٌ، ومن فرنسا ذاتِ السِمَاتِ الشخصيةِ والمميزةِ إلى ألمانيا المنظمةِ والضخمةِ ومن شواطئِ إيطاليا الجميلةِ إلى فيورداتِ النرويج ومن غاباتِ التيرولِ إلى السهولِ المبللةِ والقنواتِ المليئةِ بالمياهِ في هولندا. وهكذا تَشَكَّلَ تفكيري شيئا فشيئا أمامَ مظاهرِ نشاط ِالإنسانِ وقوةِ العملِ.
ووقَعتْ بعضُ الأحداثِ في هذه الرحلاتِ، وأذكُرُ في بعض الأحيانِ وباِبتسامةٍ تلكَ المغامراتِ الصغيرةِ التي لن تقومَ فيما بعدُ إلا بتزيينِ الذكرياتِ، ولكنها كانت تأخذُ أهميةً كبيرةً في الصِّبا.
ففي مانشسترَ حاولوا بكلِ وسيلةٍ أن يجعلوني أصعدُ ومع العددِ الصغيرِ من حُراسي في رافعةٍ تُستخدمُ بشكلٍ عامَ في رفعِ بالاتِ القطنِ. ولكنْ ما إن صَعَدناهَا وقَطَعْنَا متراً أو مترينِ حتى رفضتِ الآلةُ أن تَحَمِلنَا ونزلتْ بشكلٍ عنيفٍ ولم يحدُثْ لنا أيٌّ ضَرَرٍ، ولكني صَمَمَتُ مع كلِ السُلطةِ التي كانتَ لي في صِباي على أن أصعدَ بالسُلمِ. ولقد حقَّقتِ الأسانسيراتُ بعضَ التقدُمِ.
ومن جانبٍ آخرَ لم يكنْ هذا خطأ الرافعة. وعرفتُ بعد ذلكَ ومنذُ ذلك الوقتِ أنه إذا كانَ لكلِ شئٍ وظيفتُهُ وفائدتُهُ فلهُ أيضا استعمالُهُ الخاصُ. وحينما أرى شخصاً يَخرجُ عن دورِهِ ويُبْعِدُ الأشياءَ عَنْ وظِيفَتِها الطبيعيةِ أقولُ لنفسي: “واحِدٌ آخرُ يرغبُ في رُكوبِ الرافعةِ”
وأَثَّرَتْ مَصَانِعُ “إسن” في تَصَوّراتي. فهذه المدينةُ المليئةُ بالحديدِ والنارِ التي يَتَحَرَّكُ فيها الآلافُ مِنْ العُمَالِ قد أعطتني فكرةً عما يُمْكِنُ أن يفعلَهُ العِلمُ بالاشتراكِ مع العزيمةِ. وكان إعجابي بالمناطقِ الصناعيةِ في بلجيكا لا يقلُ عن ذلك. و زرتُ أيضاً هولندا حيث لم أملَّ من الإعجابِ باستمرارِ مجهودِ هذا الشعبِ الشُجَاعِ الذي هو في صراعٍ دائمٍ مع البحرِ. ويُظهِرُ امتدادُ المناطقِ المجففةِ من البحرِ والمزروعةِ وجوانبُ من خنادِقِهَا والشبكةُ المُتلألأةُ من قنواتِهَا هذه المعركةَ بين الإنسانِ والعناصرِ الطبيعيةِ التي حصلَ فيها الذكاءُ البشريُّ على نِقاط ٍفي غالبِ الأحيانِ.
وفي فرنسا اجْتَذَبَني الاتجاهُ الفرديُ للسكانِ والتوزيعُ الديموقراطيُ للمَلَكيةِ وتواكلُ الفلاحُ وحُبُّهُ للأرضِ وإخلاصُهُ للذكرياتِ وخاصةً تميُّزُهُ بالعقليةِ الاقتصاديةِ.
وتَمَلَّكَني الإعجابُ بإبداعِ العاملِ ودقة عملِهِ واستعداداتِهِ الخاصةِ للصناعاتِ الفنيةِ واهتمامهِ بتشكيلِ المادةِ وانشغالِهِ دائماً في عملِهِ بالمقاييسِ الجماليةِ.
وسمحتْ إيطاليا بأنْ أوازِنَ بين اختيارِ المناهجِ وبين الظروفِ. وحينما كنتُ في هولندا فقد شاهدتُ الصراعَ ضدَ البحرِ الذي كانَ يطغى على الأرضِ وهو يستعدُ دائمًا لِغَزْوِهَا، وفي إيطاليا رأيتُ الصراعَ من أجلِ ردمِ المستنقعاتِ. وذكروا لي أن النيلَ نفسَهُ قد أعطىَ المهندسينَ الفكرةَ بهذه الطريقةِ. ودُهِشْتُ لأنَّ إدارةَ الريِّ في مِصْرَ لمَ تتعاملَ أبداً معْ النهرِ بِخُطَةٍ طويلةِ المدى يكونُ نَجَاحُهَا مَضْمُوناً ونتائِجُهَا وفيرةَ النفعِ.
وشيئًا فشيئًا ودونَ أن أشُكَّ في ذلك ومع شعوري بالسرورِ البالغِ أكملتُ تعليمي عن طريقِ الدراسةِ لطبائعِ الأشياءِ والأماكنِ فقطْ. وكانت أحاسيسي كَطِفلٍ تَسمحُ لي في ذلك الوقتِ بمعرفةِ الرجالِ والتمييزِ بينهم.
وربما كانت ملاحظاتٍ سطحيةً إلى حدٍ ما . فمثلاً أحببتُ عِندَ الفرنسيينَّ بَساطتهم بدون تكلفٍ وفلسفتَهُم كرجالٍ سعداءَ وخصالُهُم البورجوازيةُ التي تصححُ الكثيرَ من النزعاتِ المؤقتةِ. ولقد أثرَ فيَّ الألمانُ بالقوةِ الكبيرةِ لانظباطِهِم وبمنهجِهِم. ووجدتُ لدى الإنجليزي العلاقاتِ المحبَّبَةِ في مجتمعٍ مقسَّمٍ بين سِحرِ الوُدِّ الساذَجِ وبينَ جمودِ شعبٍ متعالٍ ومنغلقٍ.
وباختصارٍ إني تعودتُ على تنوعِ الشعوبِ. واستعدَّ تفكيري لفهم صفاتِهِم وبالتالي التفكيرُ في أعمالِهِمْ وآمالِهِمْ!