الموسيقى فلسفة غناها بالأفكار يفوق بلاغة اللغات
على الرغم من أن الجائحة جعلتنا أقرب لذواتنا؛ إلا أنها أحدثت خللاً مخفياً في نُظم إيقاعاتنا. بتنا نواجه العديد من الحركات المتضاربة للألحان الثائرة. وكأننا نعيش في متاهة من المفاتيح الصغيرة والإيقاعات اللامتناهية . نمشي على نمط متناغم ، خطوة تتبعها خطوة، ونعيش في تحد مع عدم التناغم. إننا نبحث عما نتوافق معه. و نخوض في رحلة للبحث عن حل يشبهنا.
إذا كانت هذه السلسلة من التعابير مألوفة بالنسبة لك، فأنت على صواب. فهي بمثابة اللبنات الأساسية للموسيقى. قد لا ننفك نقول لأنفسنا: لنغير قليلاً من وقع النغمة، أو المفتاح، ولكننا، ومع وقع كل يوم، و بدون أدنى وعي نعيش حياتنا كمعزوفة موسيقية، كسيمفونية خالدة، أو نشيد وطني، أو كمقطع من أغنية هيب هوب.
ألفنا صحبة الموسيقى، و بتنا نعمد إليها كوسيلة للمتعة. فقد عنون ليو تولستوي مسرحيته الشهيرة “الجثة الحية” (1911) بقوله: “الموسيقى اختزال للمشاعر”. وهذا وصف فائق الدقة، فالموسيقى ترحل بنا بعيدا عن العالم، وتزيح عنا الحزن، و تزرع فينا الفرح، وتهيج مشاعرنا، وتجمعنا في حشود، متحدين. كما تساعدنا الموسيقى في مواجهة مخاوفنا وأمنياتنا. حينما قال عازف الساكسوفون تشارلي باركر:” الموسيقى تمثل تجربتك الخاصة، وتمثل أفكارك، وحكمتك. إذ لم تعشها، فلن تخرج عن آلتك” لم يكن يقصد أن تبعث الحياة في موسيقاك؛ بل كان يتحدث عن كون الموسيقى هي حياتك.
ماذا لو خُطت صفحات الحياة بقلم الملحن الموسيقي؟ لو استمعنا إلى صمت الموسيقى ووقفاتها، نشازها وتناغمها، تغير مفاتيحها ونغماتها، ماذا يمكن أن نتعلم؟ ماذا لو كانت حياتك نصا موسيقيا كيف ستكون خاتمتها يا ترى؟ هل ستكون جوقة في أغنية تتصدر القوائم، أو استهلالا بطيئا كاستهلالات واجنر؟ ربما ترتجل أيامك. وقد ترحب بالنشاز الصوتي كغريب تلاقيه بتحية. هل أنت من أولئك الذين يعانقون الصمت في حضرة الصخب؟ لو كنت المؤلف الموسيقي لحياتك، كيف ستبدو ألحانها؟
في رحلة بحثنا لدليل يرشدنا في الحياة، نبحث عن كل ما هو مباشر، وملموس، توكيدات ملهمة تضيء شاشات هواتفنا: برامج بودكاست ذكية من أشخاص أذكياء. نقتني الكتب التي تخبرنا أن نتبنى فلسفة مارسيل براوست أو لاو تزو. نبحث عن طرق تحيي فينا إحساس التوازن عبر قراءة “الحياة في الغابة” لهنري ديفيد ثورو. نطيل النظر في اللوحات الفنية لنفهم البُعد الفني. غير أن الموسيقى، تأتي بشكل غير محسوس، لا يمكننا احتواؤها بين أيدينا فهي كما يقول ليوناردو دافنشي : “يمكننا أن نطلق على الموسيقى أخت الرسم، كونها تعتمد على السمع، الحس الذي يأتي في المرتبة الثانية، في حين أن الرسم يتفوق على الموسيقى لأنه لا يتلاشى بمجرد ولادته كما تتلاشى النغمات”
كوني مغنية أوبرا وأكاديمية، فقد أتيحت أمامي الفرصة في استكشاف التفكير الموسيقي منذ بداية مسيرتي المهنية. وذلك حينما أتيحت لي فرصة تدريبية على يد عازفة القيثارة الراحلة جانين ريس، مستشارة ومدربة مقربة لصاحبة الصوت الشجي ماريا كالاس. كانت ريس من أشعلت بداخلي شرارة الفضول لاكتشاف النص الموسيقي كمدرب حياة. في كل حصة، كانت تردد ببطء وتأكيد، ووقفات مدروسة: “السر يكمن في المسافة، المسافة بين النوتات الموسيقية”. يعتبر أغلب الملحنين نصيحتها شعارا، أما بالنسبة لها فلم تستلهمها إلا من فرانسيس بولانك دون غيره. وكما لا نحتاج لدراسة علم النبات لندرك دروس التوازن والتناسخ المتمثل في جمال الطبيعة، فنحن لسنا بحاجة إلى أن نكون موسيقيين محترفين أو أساتذة مخضرمين لننخرط في فن التفكير الموسيقي .
ومثلما تحمل اللغة في طياتها خواص متعددة، يحمل النظام الموسيقي مستويات مختلفة للألحان دائمة التغيير، كالإيقاعات، ونقاط السكون والنغمات السريعة. ولهذا، نجد صعوبة في فهم ترابطها ببعضها. لذلك، لا يمكننا الاستماع إلى موسيقى مايلز ديفيس الارتجالية أو سيمفونية بيير بوليز كخلفية، بسبب الكم الفائض من المعلومات. في المقابل، يمكننا التأمل ونحن نستمع إلى موسيقى العصر الجديد (New Age) البسيطة بدون مشتتات. ويوضح عالم الأعصاب والموسيقي دانييل ليفيتين ذلك بدقة في كتابه “دماغك والاستماع للموسيقى” (2006)، حيث يقول أن دماغنا يعمل بسرعة وكفاءة مضاعفة، ويعمل أكثر من 100 جزء كيميائي عصبي على حوسبة حدة نغمات الموسيقى، ومدتها، وجودتها. ويوضح ليفيتين أن الموسيقى تحفز الأعصاب في مناطق عديدة في الدماغ أكثر من أي نشاط آخر تقريبا.
بما أن دماغنا يشكل التجربة الموسيقية ككل، فنحن بحاجة إلى تدريب أنفسنا أن نعزل، ونستفهم ونحلل كل عنصر موسيقي في لغة الموسيقى، كل وِحدة على حدة. بمعنًى آخر، أن نفكر بعقلية الملحن الموسيقي. “أن تتعلم التلحين يعني أن تتعلم كيف تستمع” حسب ما يقول الملحن لويس أندريسن. فنحن نبدأ من تصورنا الشخصي. في إحدى المحاضرات التي أقيمت في عام 1939 ، قال الملحن إيجور سترافينسكي: “نحن مسؤولون تجاه الموسيقى، ومسؤوليتنا تكمن في اختراعها”. كما نحمل نفس المسؤولية تجاه حياتنا في أن نبنيها بإدراك ما دامت الحياة تدب فينا بمقدار نبضات قلوبنا. في أغنية بوب لا تتجاوز الثلاث دقائق ، يستطيع الملحن تلحين ما يقارب 324 نغمة ليستطيع إبهارنا. ويمكن لأغنية ارتجالية لكيث جاريت أو فوجا لباخ أن تحلق بنا لأن كلاهما يضع حسابا لكل نغمة.
وبالنظر إلى النغمات، من خلال تجربتنا اليومية في خوض غمار التفكير الموسيقي، بإمكاننا تغيير النغمة، من خلال تنعيم أصواتنا لتشابه الصوت الهادئ لتهويدة كلما تحدثنا مع الأطفال. أو من خلال إطلاق أغنيتنا التحفيزية الداخلية لنعزز روح الفريق بين زملائنا. ونصبح عندها مدركين لرصيد من الاحتمالات: التبدل والتشكل اللانهائي للأوقات، والفترات، والأحجام، والسكنات التي غدت في متناول أيدينا بينما نخوض هذه التجربة في الإحساس بالموسيقى.
لنعد إلى مادام ريس وبولانك وفكرة الصمت. يعد الصمت مصدر خوف للكثيرين . فالصمت هو ألم الانتظار،أو نذير للغياب والفناء. أما في التفكير الموسيقي، فالأمر مختلف تماما، فالصمت يتوغل الجسد ويفيض بالتوقعات، وأحيانا بالإيجابية. في حديثها مع صحفي في العام 1983، قالت الفنانة لويز بورجوا:
“الصمت من المواضيع التي تثير اهتمامي بشكل كبير. طول الصمت، وعمقه، سخرية الصمت، وتوقيته، عداوة الصمت، وبريقه وحب الصمت”.
يفتح لنا تعليقها ويعمق إحساسنا بالجانب الجمالي للصمت، وذلك حافز لنا لأن نعيد التفكير في لحظات صمتنا عندما نخوض في حديث مع الآخرين.
عندما نستمع إلى الصمت الذي يتغلغل في أعمال الفنان تورو تاكيميتسو و بالتحديد عمله الأوركسترالي “أفق دوريان” 1966، نتعرف عن قرب إلى المفهوم الياباني الـ “ما”، أي الفجوة، أو الفراغ أو الوقفة بين بنيتين. يعلمنا تاكيميتسو أن الفضاء الفارغ (الصمت) ليس فراغا محضًا، بل هو كيان مغمور بالطاقة وله هدف معين. ففي معزوفة الروحاني الجورجي جييا كانتشيلي Abii ne Viderem (1992)، يمثل الصمت كيانا متفجرا، نابضا بالحياة، ويرمز لقوة ذات سلطة وحكمة، باعثة للبهجة والتأمل. نتعلم من سماع الصمت الخفي في الموسيقى أن نلاحظ معنىً مقصوداً غير منطوق. وهو ما يطلق عليه الموسيقيون بالصمت الحدِّي. وفي الفصل الأخير من أغنية الأوبرا “البوهيمي” 1896، يرسم جياكومو بوتشيني ملامح من الصمت العابر. ففي برهةٍ من الزمن، لا الصوت ولا اللحن ولا الكلمات غدا لها صوت؛ بل ضربة على صنج تركي والتي كانت إعلانا لموت ميمي، تبعتها صرخات بصخب الفقد من حبيبها. الدقة متحدث بارع. وكما تقول سوزان سونتاج في كتابها Styles of Radical Will (1969): ” يظل الصمت بدون أدنى شك، شكلا من أشكال الكلام “.
تعكس الثنائية المتمثلة في الصوت والصمت فلسفات مألوفة لنا مثل قانون الين واليانج في النظرية الصينية لنشأة الكون، أو نظرية أفلاطون لازدواجية الكون. تعلمنا هذه الثنائيات أن نتقبل القيم المتضادة في السعي للكمال. ويذكرنا هذا بالتنافر، القيمة التي تعدها المجتمعات الغربية بشكل عام مصدرا للسلبية، وللتضارب وعدم الاتفاق. خلافا للتناغم الذي ينظر إليه كالبطل النبيل الذي من شأنه إعادة التوازن والوفاق من جديد. إلا أن التنافر صفة أصيلة في الموسيقى مثله مثل التناغم. سواء كان رجفة على نوتة معلقة، أو متاهة (كروماتية). ثم إن التنافر مربك ومثبط. كما أنه يثير التوتر، ويقودنا للوعي في الموسيقى و كذلك في الحياة، و قد أكد على ذلك وليام كارلوس ويليامز في قصيدته الملحمية “باترسون” بقوله: “يقود التنافر إن شئت إلى الاكتشاف”.
بالنظر إلى الجمال الذي يشبه الباليه في الحركة المتعاكسة للسلم الموسيقي للبيانو، بإمكاننا أن نستشعر الطبيعة الجوهرية للتنافر. حيث أن طريقة الأداء في هذا السلم بسيطة، بُنيةً وصوتا، لكنها واضحة: يدان تبتعدان عن بعضهما إلى المدى الذي تصل إليه، لترجع لبعضهما في نقطة التقاء بإشارة من نوتة موسيقية واحدة. ويمكن أن نذكر أنفسنا بهذه الرحلة كاستعارة لأي ما قد ينطبق عليها: فهي تذكير لنا بأن نتحلى بالثقة في نظرتنا المختلفة، وأن نحترم الاختلاف في أنفسنا وبيننا وبين الآخرين، وأن نطمئن أنفسنا على أن الخلاف مع الآخرين ما هو إلا حركة متعاكسة لأصوات مختلفة لن تنفك حتى تصل لاتفاق.
الموسيقى ما هي إلا معلم سقراطي، فألحانها وآليات التفاعل ، والتغير في المفاتيح والإيقاعات، تأخذنا بعيدا عن التفكير الخطي إلى التفكير العميق . فعندما نستمع لموسيقى مرتجلة، أو نتتبع رحلة الصوت في أي من استهلالات باخ، أو نصغي لصوت آلة واحدة من الآلات في سيمفونية، كالمزمار في السمفونية رقم 3 لآرفو بارت، أو الكلارينت (آلة نفخ) في معزوفة Rhapsody in Blue لجورج جرشوين، نصبح قادرين على توظيف الإبداعات الموسيقية في حياتنا اليومية، من خلال تحسين أسلوبنا في طرح الأسئلة للوصول إلى أجوبة أكثر إبداعا. قال نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل للآداب مرةً: “الذكي يُعرف من إجاباته، والحكيم يُعرف من أسئلته”. وتعلمنا الموسيقى أن أسئلتنا محدودة بمقدار فضولنا ومخيلتنا.
يقدم فن التفكير الموسيقي وجهة نظر وسياقاً لصياغة معزوفاتنا الخاصة. كما يقدم أساسا راسخاً من وجهة نظر فلسفية تجمع بين أوجه التضاد والتناغم، ويلعب الصمت والضجيج دور البطلين بقوى متساوية التأثير. كل هذا التناقض يجعلنا ندرك أن تعايش الثنائيات كالخلاف والاتفاق مبدأ أساسي في حياة كاملة. وإذا تعلمنا أن نستمع إلى صوت لحظتنا العظيمة، سنفتح مساراً غير متوقع لفهم ذواتنا وسنساهم في إعادة تشكيل المجتمع الذي نصنعه. يتبع هذا الفن المسار الشمولي الذي يتبعه الموسيقيون في محاولتهم لتشكيل لوح ألوانهم الخاص و المتنوع من الخصائص السمعية ، ويحظى هؤلاء بميزة استثنائية وهي أنهم يتحكمون بالنهايات.
بقلم: زينيا هانوسياك | ترجمة: سامية السليمانية | تدقيق: مريم الغافرية | مراجعة لغوية: وفاء المعمرية | المصدر