هل تنتصر اللغة للمتحدث أم المتلقي في تطورها؟
تعد بعض الكلمات في اللغة أكثر شيوعا من غيرها. فعلى سبيل المثال، في عينة من 18 مليون كلمة من نصوص منشورة ترد كلمة can بما يناهز 70000 مرة ، بينما وردت كلمة souse مرة واحدة فقط. وكلمة can ليست فقط الأكثر شيوعاً لكنها الأكثر إبهاماً في المعنى، وذلك لأنها تحمل معاني عدة. فتعني تارةً علبة لحفظ الطعام والشراب (He drinks beer straight from the can) إنه يشرب العصير مباشرة من العلبة. وتارة أخرى تعمل كفعل يقصد به عملية وضع شيء داخل علبة (I need to can this food) (يجب عليّ تعليب هذا الطعام). كما تستخدم كفعل مساعد يعبر عن القدرة أو السماح بفعل شيء (she can open the can) (بإمكانها فتح العلبة). وفي أحيان أقل تستخدم كفعل يعبر عن الطرد (can they can him for stealing that can?) (هل من المحتمل أن يطرد لسرقته لتلك العلبة؟)، وكاسم، يأتي بمعنى السجن في سياق غير رسمي (well, it`s better than a year in the can) (ذلك أفضل من قضاء سنة داخل السجن).
ويثير تعدد الاستخدامات المحتملة للكلمات تساؤلا فحواه: كيف اكتسبت كلمة can و كلمة souse وغيرها من الكلمات هذا العدد من المعاني؟ قد تكمن الإجابة في عوامل جوهرية متضاربة وظيفتها تشكيل اللغة وتطورها.
ومما يثير الفضول، أن العلاقة بين ورود الكلمة وبين الإبهام في المعنى تتجاوز هاتين الكلمتين. حيث لاحظ عالم اللغويات جورج كينجسلي زيبف عام 1945 أن الكلمات الإنجليزية الأكثر شيوعاً مبهمة المعنى أكثر من الكلمات الأقل شيوعاً. هذا النمط وعلى غير المتوقع واضح بقوة في مختلف اللغات لدرجة أنه يوصف أحيانا بقانون زيبف.
وأكثر التفسيرات توضيحاً لهذه الظاهرة هو ما قدمه زيبف بنفسه ويبدأ من منطلق أن اللغات تتطور للوصول لتواصل أكثر فاعلية. ومن هذا المنظور، يمكن قياس تغير اللغة بالتطور البيولوجي (بشكل تقريبي). فكما تتطور الكائنات البيولوجية وتتشكل في أجيال متعاقبة حسب متطلبات البيئة التي تعيش فيها، فاللغة أيضا تحدها احتياجات الأشخاص الذين يتحدثونها. وبالتحديد تتطور اللغات لتقليل الجهد المطلوب لتوصيل المعلومة.
تبدو هذه النظرية واضحة للوهلة الأولى. فلا يتوقع أن تتغير اللغة بطريقة تجعلها غير قابلة للاستخدام. ومن لا يفضل التحدث بلغة موجزة على لغة مسهبة؟ لكن الصورة معقدة بحكم أن التواصل طريق ذو اتجاهين. فالتواصل، تحدثاً أو رمزاً أو كتابةً يتطلب متحدثاً، أي الشخص الذي يرغب بإيصال رسالة، ومتلقٍّ، أي الشخص الذي يحاول فهم الرسالة. وإذا محَّصْنا في ذلك نجد أن ما يجده متحدث اللغة وافيا ليس دائما كذلك بالنسبة لمتلقي اللغة.
وما لم يكن هناك عوامل مؤثرة أخرى، يفضل المتحدث على الأرجح أن يختار عبارات قصيرة وسهلة، فلماذا قد يختار أحدهم التعبير بعشر كلمات في حين أن كلمة واحدة تؤدي الغرض؟ قد تكون هذه التجربة مألوفة لنا جميعا. فبدل ذكر كل تفصيل دقيق في حدث ما، يمكننا استخدام تعبير أبسط لكنه أكثر غموضاً مثل “كان هنا اليوم”. وبالطبع يقع على كاهل المستمع استنتاج المعنى، والذي قد يفضل الحصول على معلومة دقيقة بناء على مدى معرفته بالموقف: “سيمون أتى إلى المقهى الذي أعمل فيه اليوم”.
ويحاجج زيبف أن هذه المنافع المتضاربة تظهر في لب تكوين المعجم اللغوي. فاللغة المثالية للمتحدث من حيث الجهد المطلوب هي ببساطة الكلمة الواحدة. في هذه اللغة كلمة مثل “با” قد تعني أي شيء مثل “قهوة من فضلك” أو “عاصمة فرنسا هي باريس”. لو كان الأمر على هذا الحال، لتطلب جهداً أكبر من المستمع، فكل موقف قد يتحول إلى تمرين على قراءة الأفكار. (فبدون شك سيكون هذا المقال تحدٍّ في القراءة، إلا أنه سيكون ربما أسهل في الكتابة إذا ما استبدلت كل كلمة بكلمة “با”). وفي المقابل فإن اللغة المثالية بالنسبة للمستمع هي التعبير عن كل معنى باستخدام كلمة مختلفة للتقليل من احتمالية عدم الفهم. وتوجب هذه العوامل مجتمعة – والتي أنشأتها احتياجات المتحدثين والمستمعين، هذه القوى التي يطلق عليها زيبف التوحيد والتنويع – وجود توازن بينها، حينها فقط تصل اللغة لتسوية.
وهنا يأتي قانون زيبف، فكما يقول زيبف هذا القانون ما هو إلا نتيجة لهذه التسوية. هناك كلمات كثيرة غير “با” تلبي بشكل جزئي حاجة المستمع للوضوح. لكن العديد من هذه الكلمات، والأكثر ترددا منها على وجه الخصوص، يمكن أن تستخدم لتعبر عن أكثر من معنى، الأمر الذي يصب لصالح المتحدثين. بطريقة أخرى: تعمل قوى التنويع والتوحيد المتضاربة عكس بعضها ونتيجة لذلك هناك قانون زيبف.
لكن هذا التوضيح غير مكتمل. هل يعني الحل الوسط بين التنويع والتوحيد أن هذه القوى متساوية في القوة، أو أن إحداها تمارس ضغطا أكبر عن الأخرى؟
يقول بعض علماء اللغة أن بعض جوانب بنية اللغة كالنحو مثلاً، تتشكل بصورة أساسية بناء على الضغط الذي يمارسه المتحدث بغرض تسهيل قول الشيء. وبالنظر للجهد المبذول في إنتاج اللغة، حيث يترجِم المتحدث الأفكار التي يرغب بإيصالها إلى سلسلة معقدة من الأوامر الحركية عبر الدماغ، فإنه من المنطقي أن يختار المتحدث الخيار الأسهل متى ما أمكنه، وأن النحو سيتطور بطريقة تضمن توفر هذا الخيار. على سبيل المثال، تُعطي الخيارات النحوية المتحدث الحرية في بدء الجملة سواءً (the noise startled the boy) الضوضاء روعت الولد، أو(The boy was startled by the noise) تروع الولد بفعل الضوضاء، حيث يعتمد خيار المتحدث على أيها حاضر ذهنياً وقت الحديث.
أما بالنسبة للمفردات المعجمية، فلا نعرف ما يكفي عنها. فمعرفة إذا ما كان هناك جانب مسيطر فيما يتعلق بمعنى الكلمات يتطلب وجود قاعدة محايدة. يعني أننا نحتاج أن نعرف كم معنى يمكن أن تحمل الكلمة بشكل افتراضي في غياب ضغط يمارسه المتحدث أو المستمع. وريثما نملك افتراضا معينا، بالإمكان مقارنته بالبيانات الحقيقية، في هذه الحالة، كم معنى تحمل كل كلمة واقعياً. فإذا كانت كلمة شائعة مثل can تحمل معاني أكثر مما هو متوقع، فيوحي ذلك أن المتحدث يمارس ضغطا أقوى. وإذا كانت كلمة مثل can تحمل معاني أقل مما هو متوقع، فيوحي ذلك أن المستمع يمارس ضغطا أقوى. وهذا كان أحدث ما عملنا عليه من عمل يقوده المنطق أنا وزميلي بينجامين بيرجن.
وكانت أهم خطوة في العمل هي أن نحدد قاعدة محايدة لا تنحاز لجانب ضد آخر سواء كان المتحدث أم المتلقي. فاخترنا طريقة ممتازة وهي تحديد عدد متوقع من المعاني لكل كلمة بناء على قانون تكرار الأصوات في الكلمة. فكل لغة لها قواعد تخص الأصوات التي تبدأ وتنتهي بها الكلمة، وأي الأصوات تظهر في أي تسلسل، وهلم جرا. على سبيل المثال،لا تبدأ الكلمات في اللغة الإنجليزية الحديثة بالصوت (مب) mb، بينما تبدأ به الكلمات في اللغة السواحلية. وبسبب هذه الأنماط (أو قانون تتابع الأصوات)، نجد في أي لغة أن بعض الكلمات أكثر ورودا عن غيرها، فهي تحتوي على تسلسلات من الأصوات توجد بشكل أكثر في كلمات تلك اللغة.
يمكن حساب تكرار التسلسلات الصوتية للكلمة باستخدام نموذج ماركوف الذي يبحث في جميع الكلمات في أي لغة ويحدد أي التسلسلات الصوتية أكثر وروداً وأيها أقل وروداً في تلك اللغة. بفضل هذا النموذج أصبح حساب عدد المعاني التي تحملها الكلمة في الوضع المحايد أمرا سهلاً: نضرب تكرار الأصوات في الكلمة بمجموع عدد المعاني للكلمات من نفس الطول.
باستخدام هذه الطريقة اكتشفنا أنه بالرغم من أن بعض الكلمات شائعة الاستخدام مثل can والتي تعد مبهمة نتيجة لتعدد معانيها، تحمل في غالب الأحيان معانٍ أقل مما تفترضه القاعدة المحايدة. تكررت هذه النتيجة مع المعجم الإنجليزي كاملاً، ومع جميع اللغات الأخرى التي اختبرناها وهي اللغة الهولندية، والألمانية، والفرنسية، واليابانية والمندرين الصينية. فالكلمات الشائعة في كل لغة بالرغم من إبهامها كانت أقل إبهاما من المتوقع بناء على مقياس تكرار التسلسلات الصوتية. وتتماشى هذه النتيجة مع حقيقة وجود ضغط أقوى يمارسه المتلقي. وفي هذه الحالة، يتضح لنا أنه بينما يتوجب على المتحدثين والمتلقين الوصول لتسوية، انتهى المطاف بأن تميل الكفة لصالح المتلقين.
تعد هذه النتيجة في محلها ومنطقية من جهة. فلو كانت الكلمات الشائعة غاية في الغموض، كأن يكون لكلمة can مائة معنى مختلف، فسيواجه المستمعون قدراً كبيراً من الغموض باستمرار بطريقة قد تعيق التواصل كلياً. لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه النتيجة لم تكن في المتناول منذ البداية، فهي تتعارض مع نظريات أخرى حاولت تفسير سبب كون اللغة بالشكل التي هي عليه. وكما أسلفنا سابقاً، فإن إنتاج اللغة محمل بالتحديات بحد ذاته، وهذا ما يدعو بعض الباحثين بالزعم أن النحو يرتكز على المتحدث. ولذات الأسباب قد يتوقع أحدنا أن ينتج عن هذه التحديات معجم لغوي ينحاز للمتحدث بوجود عدد من الكلمات سهلة القول والاسترجاع، كل منها محمل بالعديد من المعاني. والمدهش في الأمر أن بذل الجهد لتجنب الغموض هو نمط مفضل في تشكيل المعجم اللغوي الإنساني.
بحثاً عن نتائج أخرى، بإمكان علماء اللغة أن يطبقوا هذه النتيجة على عينات أكبر من اللغات بما فيها اللغات التي تنتمي لعائلة النيجرو كونجو وعائلة اللغات الأسترونيزية. كما بإمكانهم بحث العلاقة بين هذا الضغط وبين الأمثلة على (تقليل الغموض) التي لوحظت سابقا. فعلى سبيل المثال، وجدت أبحاث حديثة أدلة على تقليل الغموض في تغير الأصوات في تاريخ اللغة. ففي بعض الأحيان، تُدمج أصوات مختلفة في اللغة مع مرور الزمن، بمعنى أنها لا تفرق عن بعضها مثل السابق، من أمثلة ذلك كلمتيcot وcaught اللتان تنطقان الآن بنفس الطريقة في بعض اللهجات الإنجليزية. ولكن حسب أندرو ويدل وزملائه فإن احتمالية حدوث دمج الأصوات قليلة عندما ينتج عنه كثرة المتجانسات الصوتية في اللغة، ويعد هذا من الأمثلة المهمة على أثر تقليل الغموض في تشكيل عمليات تغير اللغة.
بالإضافة إلى ذلك، ما زال هنالك أسئلة عميقة حول تطور اللغة، وبالأخص حول التغيرات الكبرى في اللغة وانبثاقها من تغيرات على مستوى الاستخدام اللغوي الفردي. أي، كيف يؤثر التواصل اليومي الفردي في إحداث تغييرات في هيكل المعجم اللغوي؟ هناك احتمال تخميني في ما ندرسه الآن وهو أن متلقي اللغة يواجهون تحدياً في فهم كلمة لها معانٍ عدة بالإضافة إلى المعنى المقصود. مع مرور الوقت، قد يستخدم المتحدثون كلمات أخرى لتوصيل نفس المعنى. وإذا حدث الخطأ في الفهم بشكل منتظم كفاية، من الممكن أن يلاحظه الأفراد في محادثاتهم المختلفة وبالتالي يقللون من غموض الكلمة.
اللغات أحياء نشطة، فهي تتغير بمرور الزمن أحياناً بطرق مُلغزة. إلا أن البحث حول تطور اللغة قد أظهر أن هذه التغيرات منتظمة في أغلب الأحيان. تتشكل أنظمة التواصل بشكل أساسي من خلال العوامل المتنافسة التي نلاحظها في محادثاتنا اليومية، منها رغبة المتحدث في اختيار البساطة في قول شيء، ورغبة المستمع بتجنب الغموض. وبذلك تعكس اللغة تاريخا طويلا من التنازلات والتسويات.
بقلم: شون تروتيس | ترجمة: سامية السليمانية | تدقيق: لمياء العريمية | المصدر