أثر وهم الحقيقة: لماذا نؤمن بالأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة والپروپاغندا؟
عندما يكون مذاق “الحقيقة” رائعا ويتكرر بما فيه الكفاية، فإننا نميل إلى تصديقها، بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أم خاطئة. إن فهمنا لأثر وهم الحقيقة يجنّبنا الوقوع ضحية لوهم الخداع.
***
تناول مقال نُشر مؤخرًا على موقع ڤيرج (Verge) بعض الجوانب المكروهة في العمل كمشرفين على محتوى فيسبوك (Facebook)، وهم أشخاص يقضون أيامهم في تنظيف المحتوى الأكثر سمية في شبكة التواصل الاجتماعي. حيث برز تفصيلٌ غريبٌ حينما أفاد المشرفون الذين تحدثتْ معهم ڤيرج بأنهم وزملاؤهم في العمل دائما ما يجدون أنفسهم يصدقون أفكار نظريات المؤامرات والخطابات الداعية لإثارة الكراهية، والتي كان بإمكانهم تجاهلها في ظل الظروف الطبيعية، ووصف آخرون أنهم يعانون من الأفكار السوداوية والمخاوف الشديدة على سلامتهم.
إن التحول بين ليلة وضحاها من الشك إلى الإيمان المتّقد بنظريات المؤامرة ليس مقصورًا على مشرفي المحتوى فقط، ففي مقال كتبته لورا هازارد أووين (Laura Hazard Owen) لصالح مؤسسة نيمان لاب (Nieman Lab) أوضحت أن الباحثين الذين يدرسون انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت يجدون أنفسهم يكافحون للتأكد من معتقداتهم ويحتاجون إلى بذل جهد فعال للتصدي لما يرونه. كما يعترف بعض من أكثر منظري المؤامرة حماسة وشغفا بأنهم وصلوا إلى المجهول حينما حاولوا الكشف عن المعتقدات التي يؤمنون بها الآن. كل هذه الحالات يمكن تفسيرها بسبب واحد ألا وهو أثر وهم الحقيقة.
أثر وهم الحقيقة
لا يمكن للحقائق أن تختفي عندما يتم تجاهلها ألدوس هكسلي
ليس كل ما نؤمن به صحيحا، فقد نعمل بهذه المعتقدات ويكون الاعتقاد بخلاف ذلك أمرًا مزعجًا وصعبًا؛ ولكننا حتمًا نتمسك بعدد من المعتقدات غير الصحيحة موضوعيًا. إن الأمر غير متعلق بالآراء ووجهات النظر المختلفة؛ فالمعتقدات الخاطئة يمكن ببساطة أن تُعاد على مسامعنا بكثرة.
إذا قلتُ إن القمر مصنوع من الجبن، فلن يصدقني أي أحد يقرأ هذا المقال، بغض النظر عن عدد المرات التي كررت فيها هذه العبارة؛ لأنها عبارة هزيلة للغاية. ولكن ماذا لو تطرقت لأمر معقول أكثر؟ ماذا لو قلت بأن صخور القمر لها الكثافة ذاتها التي تمتلكها جبنة الشيدر؟ وماذا لو لم أكن أنا الشخص الوحيد الذي يقول هذا؟ ماذا لو قرأتَ تغريدة تروّج لمثل هذه الحقيقة الملفّقة. وسمعتَها مرةً أيضًا من صديقك، وقرأتَ منشورًا عنها في مدونةٍ ما؟
طالما أنك لست جيولوجيا أو مهتمًّا بالقمر أو لست شخصًا كثير الاطلاع والبحث والتقصي للمعلومات الخاطئة المتعلقة بصخور القمر، فإن احتمالية تصديقك لحقيقة ملفّقة مثل هذه دون التفكير في التحقق من صحتها كبيرةٌ جدًّا. إذ ربما ستشارك المعلومة هذه عبر الإنترنت أو ترددها على مسامع الآخرين، هذه هي الطريقة التي يعمل بها أثر وهم الحقيقة: نميل جميعنا للاعتقاد أن أمرًا ما صحيحًا بعد أن نتعرض له عدة مرات؛ إذ تبدو الحقائق أكثر صدقا كلما استمعنا إليها أكثر. إن هذا الأثر قوي جدًا لدرجة أن التكرار يمكنه إقناعنا بأن المعلومات التي نؤمن بها هي معلومات خاطئة من الأساس. هل سبق وفكرت بأن منتَجًا ما كان سخيفًا ولكن انتهى بك المطاف بشرائه بشكل مستمر؟ أو كنتَ تعتقد أن مديرتك الجديدة جيدة، وها أنت الآن تنهمك في القيل والقال عنها؟
إن أثر وهم الحقيقة هو السبب وراء نجاح الإعلانات واعتبار الدعاية واحدة من أقوى أدوات التحكم بطريقة تفكير البشر. كما أنها السبب الذي يجعل حديث السياسيين يبدو غريبًا ويجعل اختبارات الاختيارات المتعددة تسبب مشاكل للطلاب في وقت لاحق. هذا وبالإضافة لكونها السبب في انتشار الشائعات وعدم نجاح عملية تصحيح المعلومات المضللة. سنتطرق في هذا المقال للكيفية التي يعمل بها أثر وهم الحقيقة، والكيفية التي يشكل بها إدراكنا للعالم، وكيف يمكننا تجنبه.
اكتشاف أثر وهم الحقيقة
بدلا من الحب، من المال، من الشهرة، أعطني الحقيقة هنري ديڤيد ثورو
وُصف أثر وهم الحقيقة لأول مرة في عام 1977 في بحث بعنوان “Frequency and the Conference of Referential Validity” للين هشر (Lynn Hasher) وديفيد غولدشتاين (David Goldstein) من جامعة تمبل وتوماس توبينو من جامعة ڤيلانوڤا. حيث قدم الباحثون 60 عبارة لمجموعة من الطلاب وطلبوا منهم تقييم نسبة تأكدهم من صحة أو خطأ كل عبارة من العبارات. اختيرت هذه العبارات من مجموعة من المواضيع وكان الهدف منها هو ألا تكون غامضة للغاية، ولكن في الوقت نفسه من المستبعد أن تكون مألوفة لدى المشاركين في الدراسة. كل عبارة من العبارات كانت موضوعية، أي يمكن التحقق من صحتها أو عدمها وأنها ليست مسألة مبدأ. على سبيل المثال، عبارة ” أكبر متحف في العالم هو متحف اللوفر في باريس.” كانت عبارة صحيحة.
صَنّف الطلاب تأكيدهم ثلاث مرات، بحيث أُعطوا مدة أسبوعين بين التقييم والآخر. كانت بعض العبارات مكررة في كل مرة من المرات الثلاث، بينما لم يتم تكرار البعض الآخر، إذ أن في كل تكرار يصبح الطلاب أكثر تأكيدا بشأن العبارات التي صنفوها بأنها صحيحة. وكما يبدو فإنهم يستخدمون مألوفية المعلومات كمقياس لمدى ثقتهم بمعتقداتهم.
إحدى التفاصيل المهمة هي أن الباحثون لم يكرروا أول وآخر عشرة بنود في كل قائمة؛ لأنهم شعروا بأنه من المرجح أن يتذكر الطلاب هذه البنود وبالتالي يكونون قادرين على البحث عنها قبل الجولة الثانية من الدراسة. لم تكن هذه الدراسة دليلا قاطعا على وجود أثر وهم الحقيقة، ولكن الأبحاث اللاحقة أكدت نتائجها.
السبب وراء حدوث أثر وهم الحقيقة
حقيقة الأمر المحزنة هي أن الحقيقة محزنة ليموني سنيكيت
لمَ يجعلنا تكرار حقيقة ما أكثر عرضة لتصديقها، ويصبح إيماننا بهذا التصديق أقوى؟ على غرار الاختصارات المعرفية الأخرى، فإن التفسير النموذجي هو أن هذه هي الطريقة التي تقوم بها أدمغتنا بتوفير الطاقة. إن التفكير عمل شاق للغاية، لا تنس أن الدماغ البشري يستهلك حوالي 20٪ من طاقة الفرد، على الرغم من أنه يمثل 2٪ فقط من وزن الجسم.
هكذا يقودنا أثر وهم الحقيقة إلى نظرية طلاقة المعالجة. فعندما تكون معالجة فكرة ما أمرا سهلا، فإن هذا يتطلب من أدمغتنا استخدام طاقة أقل مما يدفعنا إلى تفضيلها. لاحظ الطلاب العبارات المتكررة في دراسة هشر (Hasher) الأصلية حتى وإن كان بشكل غير واع، ما يعني أن معالجة تلك العبارات كانت أسهل بالنسبة لأدمغتهم.
يبدو أن طلاقة المعالجة لها تأثير واسع على إدراكنا للمصداقية. وجد رولف ريبر (Rolf Reber) ونوربرت شوارتز (Norbert Schwarz) في مقالهما ” آثار الطلاقة الإدراكية على أحكام الحقيقة” (“Effects of Perceptual Fluency on Judgments of Truth,” ) أن العبارات المعروضة بلون سهل القراءة يُحكم عليها على أنها أكثر احتمالية لأن تكون صحيحة من تلك المعروضة بطريقة أقل قابلية للقراءة. كما وجد ماثيو إس ماكغلون (Matthew S. McGlone) وجسيكا توفيغباخش (Jessica Tofighbakhsh) في مقالهما “Birds of a Feather Flock Conjointly (?): Rhyme as Reason in Aphorisms,” أن الأمثال التي تتناغم مع القافية مثل: “what sobriety conceals, alcohol reveals”، أي “ما تخفيه الرصانة، يكشف عنه الكحول”، تبدو أكثر صحة من صيغها الأخرى دون القافية، حتى وإن لم يسمعها أحد من قبل. وهذا مرة أخرى يعزى إلى السهولة في المعالجة.
أخبار كاذبة
من أتعس دروس التاريخ: إذا كنا مخدوعين لمدة طويلة، فإننا نميل إلى رفض كل دليل على أننا مخدوعون. لم نعد مهتمين بإيجاد الحقيقة، فقد أسرنا الاستغفال. ببساطة، إنه لأمر مؤلم للغاية أن نعترف حتى لأنفسنا بأننا قد اُستغفلنا كارل ساغان
إن أثر وهم الحقيقة هو أحد العوامل التي تجعل القصص الإخبارية الملفقة تكتسب أحيانا زخمًا قويًّا و تأثيرًا واسعًا. وحين يحدث ذلك، قد يكون رد فعلنا الأول هو أن أي شخص يصدق الأخبار الكاذبة يجب أن يكون ساذجا بشكل غير عادي أو غبي تمامًا. وعلى نحو ذلك، كتب إيفان ديڤيس (Evan Davis) في بوست تروث (Post Truth): لم يسبق أبدا أن يكون هنالك شعور أقوى من أن يكون إخوتنا المواطنين قد تعرضوا للخداع، وأننا جميعا أصبحنا نعاني من تبعات إضعافهم الفكري.” ويسترسل ديڤيس في حديثه، بأن هذا الافتراض لن يعود بالفائدة لأي شخص، فليس بإمكاننا أن نفهم السبب وراء تصديق الناس للأخبار الكاذبة والسخيفة إلا أن نفكر في بعض الأسباب النفسية التي قد تؤدي إلى حدوث ذلك.
تندرج الأخبار الكاذبة تحت مظلة “التلوث المعلوماتي”، والتي تشمل أيضا العناصر الإخبارية التي تُحرّف المعلومات أو تُخرجها من السياق أو تَسخر منها أو تخفق في تحري الحقائق أو إجراء بحثٍ أساسيٍّ أو تأخذ ادعاءات من مصادر غير موثوقة على محمل الجد. حيث أن بعضًا من هذه الأخبار تُنشر على مواقع إخبارية ذات مصداقية وذات مكانة محترمة وذلك بسبب الرقابة المتواضعة. في حين أن هنالك بعض الأشخاص الذين يتابعون المواقع التمثيلية والساخرة -وهي مواقع متعارف عليها بأنها ساخرة ولا تستند على حقائق- من باب الترفيه فقط، غير أن هؤلاء المتابعين يصدقون المحتوى التمثيلي باعتباره حقيقة. يتصفح بعض الأشخاص هذه المواقع التي تحاكي شكل وأسلوب المصادر الموثوقة باستخدام تصميم ويب وعناوين ويب مماثلة. كما تأتي بعض الأخبار الكاذبة من مواقع مخصصة بالكامل لنشر المعلومات المضللة وبشكل صريح.
إن تلوث المعلومات كثيرا ما يقع بين طرفين نقيضين يحظيان بقدر واسع من الاهتمام. فهو يحدث نتيجةً لوقوع الناس تحت ضغط العمل أو أنهم في عجالة من أمرهم وبالتالي يكونون غير قادرين على توخي الحرص الواجب التي تتطلبها الصحافة الموثوقة. وهذا ما يحدث تمامًا عندما نغرِّد بشيء ما على عجلٍ أو نذكرُه في منشور مدونة ولا ندرك أنه ليس صحيحًا تمامًا. إذ أن هذا الأمر يمتد ليشمل الاقتباسات الخاطئة والصور المزيفة والكتب القصصية التي تبدو وكأنها مذكرات أو الإحصاءات المضللة.
إنه من الصعب تمييز المعلومات الصحيحة من المعلومات الخاطئة في زخم الكم الهائل من ضجيج المعلومات الذي نتعرض إليه لدرجة أننا نواجه صعوبة في اكتشاف ما يجب الانتباه إليه وما يجب علينا تجاهله. إلا أنه لا أحد لديه متسع من الوقت للتحقق من كل شيء يقرؤه على الإنترنت. وبالتأكيد، فإن الوسائل الإعلامية غير الإلكترونية ليست مثالية أيضا. إن قدرات معالجة المعلومات لدينا محدودة، وكلما زاد استهلاكنا، أصبح هذا التقييم أكثر صعوبة.
علاوة على ذلك، فإننا غالبًا ما نكون بعيدًا عن دائرة اختصاصنا، بحيث نقرأ عن مواضيع لا نمتلك الخبرة فيها لكي نقيّم دقتها بأي طريقة مجدية. إن هذا التنقيط من تلوث المعلومات هو في الحقيقة أمرٌ ضار. تمامًا مثل تلوث الهواء، فإنه يتراكم بمرور الوقت، وكلما زاد تعرضُنا له زادت احتمالية أن ينتهي بنا المطاف باختيار معتقداتٍ خاطئةٍ يصعب تغييرُها بعد ذلك. على سبيل المثال، يؤمن الكثير من الناس بأن الجريمة، وخاصة الصنف العنيف منها، في تصاعد مستمر عاما بعد عام، وذلك في دراسة أجرتها مؤسسة پيو ريسيرتش (Pew Research) عام 2016، حيث يعتقد 57٪ من الأميركان أن الجرائم أصبحت تتفاقم منذ عام 2008. على الرغم من ذلك، فإن الجرائم العنيفة في الواقع انخفضت بمقدار الخُمس تقريبًا خلال تلك الفترة. من الممكن أن يكون هذا الاعتقاد الخاطئ نابع من حقيقة أن جرائم العنف تتلقى قدرًا أكبر من التغطية الإعلامية مقارنة بنظيراتها، مما يعطيها قيمة واسعة ومتكررة.
عندما يُطلب من الناس أن يقيّموا المصداقية الظاهرة في القصص الإخبارية، فإنهم يُقيِّمون القصص التي سبق وقرؤوها عدة مرات بأنها أكثر مصداقية من تلك التي لم يسبق لهم قراءتها. فسرت دانييل سي پوليج (Danielle C. Polage) في مقالها ” تلفيق التاريخ: ذكريات خاطئة عن قصص إخبارية ملفّقة،” (Making Up History: False Memories of Fake News Stories)، أن القصة الزائفة التي يتعرض لها شخص ما أكثر من مرة واحدة تبدو أكثر مصداقية من القصة الحقيقية التي يراها لأول مرة. كما يخطئ الأشخاص المشاركون في الدراسة التجريبية في نسب تعرضهم للقصص السابقة خلال التجربة، معتقدين أنهم قرؤوا الخبر من مصدر آخر بينما هم في الحقيقة رأوه في جزئية سابقة من الدراسة. حتى عندما يعرف الناس أن القصة جزء من التجربة، فإنهم يعتقدون أحيانا أنهم أيضا قرؤوها في مكان آخر. التكرار هو العامل الأساسي في تحديد ذلك كله.
نظرا لتعرضنا الكبير للمعلومات المتضاربة؛ فإنه لا سبيل لعدم تصديقنا لأي معلومة سلفًا دون التحري عنها.
الدعاية ( الپروپاغندا )
إذا طبعتَ الكذبة في كثير من الأحيان بشكل كافٍ، فإنها تصبح شبه حقيقة، وإذا تكررت هذه الحقيقة مرارًا وتكرارًا، فإنها تصبح مادة اعتقاد، وإيمان، ويموت البشر دفاعًا عنها إيسا بلاغدن
تتشابه الدعاية مع الأخبار الكاذبة، فمن خلال التكرار يستطيع مروجو الدعاية تغيير معتقدات الناس وقيمهم.
هنالك العديد من القواسم المشتركة بين الپروپاغندا و الإعلانات الترويجية ولكن بدلا من بيع منتجٍ أو خدمة، فإن الپروپاغندا تدور حول إقناع الناس بصحة قضية معينة. إذ ليس بالضرورة أن تكون الپروپاغندا مُغرضَة، ففي أحيان كثير يكون الهدف منها هو تحسين الصحة العامة أو تعزيز الحس الوطني للتشجيع للانضمام للجيش. ولكن في غالب الأحيان تستخدم الپروپاغندا لإعاقة العمليات السياسية لزيادة الأجندات الضيقة والأصولية والعدوانية.
عمل مصمم الجرافيك أبراهام غيمس ( Abraham Games) أثناء الحرب العالمية الثانية كفنان حرب رسمي للحكومة البريطانية. حيث تعتبر أعماله أيقونية، وتدل على تلك الحقبة من الزمن بأسلوبه البصري الزاهي الألوان. وغالبا ما تتضمن تصاميمه الخاصة في الجيش شخصية واحدة يتم عرضها مع بعض الكلمات وبطريقة تبعث الفخر والقوة والإعجاب . إذ تصوّر تصاميمه أنواع الصفات الإيجابية التي من المفترض أن يكتسبها الأفراد خلال خدمتهم العسكرية. وأما إن كان هذا صحيحا أم لا، فهو مسألة أخرى. رسخت إعلانات غيمس الصورة التي أرادها الجيش في أذهان المشاهدين من خلال تعرضهم المتكرر للإعلانات، مما أثر في معتقداتهم وسلوكياتهم.
إضافة إلى ذلك، فإنه من المرجح أن تكون الدعاية اليوم مسألة الكم أكثر من أن تكون مسألة الكيف. إن الأمر لا يتعلق بالإعلانات الفنية، بل بإشباع المشهد الفكري بالمحتوى الذي يدعم أجندة مجموعة معيّنة، فقد أصبحت التقنيات القديمة ضعيفة للغاية مع تزايد الأعباء المفروضة على اهتماماتنا.
أشار الباحثان بمؤسسة راند (Rand Corporation) كريستوفر پول (Christopher Paul) وميريام ماثيوز (Miriam Matthews) إلى الطريقة التي يُمطَر على الناس بمعلومات ملفقة على أنها نموذج “firehose of propaganda”. بينما يتركز التقرير على الپروپاغندا الروسية الحديثة، إلا إن تلك الأساليب ليست مقتصرة على روسيا فقط. كما تستفيد هذه التقنيات من أثر وهم الحقيقة إلى جانب الاختصارات المعرفية. للدعاية (Firehose) أربع سمات مميزة:
- عالية الحجم ومتعددة القنوات.
- سريعة ومستمرة ومتكررة.
- لا تلتزم بالحقائق الموضوعية.
- لا تلتزم بتحقيق الاتساق.
تستند پروپاغندا (خرطوم الحريق) Firehose على تعريض الناس لنفس الرسائل بشكل متكرر بقدر الإمكان، حيث أنها تشمل قدرا كبيرا من المحتوى الذي يتكرر مرارا وتكرارا عبر قنوات عديدة: المواقع الإخبارية، والمقاطع المرئية، والمذياع، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتلفاز وما إلى ذلك. واليوم، يمكن أن يشمل ذلك مستخدمي الإنترنت الذين يُدفع لهم لمعارضة المعلومات الصحيحة مقابل النشر المتكرر في المنتديات والدردشات وفي التعليقات وفي وسائل التواصل الاجتماعي ؛ وهكذا تُطمس الحقيقة بنجاح عن طريق هذا الحجم الهائل من المستخدمين. كما أشارت الأبحاث التي تدور حول أثر وهم الحقيقة بأنه بإمكاننا الاقتناع كذلك بالمعلومات التي نستمع إليها من مصادر متعددة، ومن هنا تأتي فعالية توجيه الپروپاغندا عبر مجموعة من القنوات.
إن التكرار يؤدي إلى الإيمان في كثير من الحالات، إذ أن پروپاغندا Firehose ليست بحاجة إلى وضع الحقيقة في الاعتبار أو حتى أن تكون متسقة. ومن ذلك، لا يحتاج المصدر لأن يكون موثوقا كي ينتهي بنا الأمر إلى تصديق رسائله. وبالرغم من أننا نشعر بأننا مضطرون لعدم تجاهل مواد الپروپاغندا غير الصحيحة بشكل واضح، إلا أن كثرة التدقيق في الحقائق لا تفيد لأنها تزيد من التكرار.
تعمل پروپاغندا Firehose أكثر من مجرد نشر الأخبار الكاذبة، فهي تدفع بنا نحو مشاعر مثل الهلع وانعدام الثقة والشك وازدراء الخبرة. كل ذلك يجعل الپروپاغندا المستقبلية أكثر فعالية. وعلى عكس الذين يتبنَّون الحقيقة، فإن مروجي الپروپاغندا بإمكانهم التحرك سريعًا لأنهم يختلقون كل ما يدعونه أو بعضًا منه، ما يعني أنهم يكسبون مكانة في عقولنا أولا. إن الانطباعات الأولى فعالة، والمألوفية تولد الثقة.
كيف نكافح أثر وهم الحقيقة؟
إذن كيف نحمي أنفسَنا من تصديق الأخبار الكاذبة ومن أن يتم التلاعب بنا عن طريق الدعاية الناجمة عن أثر وهم الحقيقة؟ الطريق الأفضل هو أن نكون أكثر انتقائية. فالمعلومات التي نستهلكها مثلها مثل الطعام الذي نتناوله؛ إذا كانت غير مرغوب بها فإن تفكيرنا سيعكس ذلك.
لسنا بحاجة إلى قضاء الكثير من الوقت في قراءة الأخبار كما يفعل معظمنا. فكما هو الحال مع العديد من الأشياء الأخرى في الحياة، فخير الأمور ما قل ودل. والغالبية العظمى من الأخبار هي مجرد تلوث معلوماتي لأنها لا تخدم مصلحة أي أحد منا.
إن إحدى أفضل الحلول هو الابتعاد عن متابعة الأخبار، فهذا يوفر الوقت والطاقة للتعامل مع الحكمة المترسخة في العقل التي من شأنها تحسين حياتك. جرّب ذلك لمدة أسبوعين، وإن لم تقتنع، اقرأ عددا من الصحف لبضعة أيام من عام 1978. سترى بعدها عدم جدوى الأخبار.
إن لم تتمكن من الابتعاد عن عادة متابعة الأخبار فعليك الالتزام بالمتابعة من المصادر الموثوقة والمعروفة التي تحافظ على سمعتها. حاول متى ما استطعت أن تبتعد عن المصادر المشبوهة، حتى وإن كنت ترى ذلك من جانب ترفيهي، فقد ينتهي بك المطاف إلى تصديقها. ابحث عن المصادر غير المألوفة قبل الوثوق بها، من المواقع التي يتم تمويلها بالكامل بالإعلانات (أو التي تدفع لصحفييها بناء على المشاهدات) وإن أمكن، اسعَ إلى دعم مصادر الأخبار الممولة من القارئ والتي تحصل على فائدة منها. امنح الأولوية للمواقع التي تعامل صحفييها باحترام ولا تتوقع منهم أن ينشروا عشرات المقالات الطائشة في اليوم. ولا تعتمد على الأخبار في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي بدون مصادر ومن أشخاص خارج دوائر اختصاصهم.
تجنب تناول الأخبار كنوع من الترفيه واستهلاكها كوسيلة لتمضية الوقت في الحافلة أو في طابور الانتظار. وضع في اعتبارك أنك إذا ما أردت أن تطّلع على موضوع ما، خصص له وقتا لتتعرف إليه من مصادر مختلفة وجديرة بالثقة. لا تفترض بأن الأخبار العاجلة أفضل، لأن التفاصيل الكاملة للقصة قد تستغرق وقتا حتى تظهر، وقد يتسارع الأشخاص في ملء الفجوات بالمعلومات المضللة. تقبّل فكرة أنه ليس بإمكانك أن تكون على علم بكل شيء لأن معظم الأمور في الحقيقة ليست مهمة. انتبه للأخبار التي تشعرك بالغضب أو بمشاعر عنيفة أخرى؛ لأن هذا قد يكون علامة على التلاعب. واعلم بأن تصحيح المعلومات الخاطئة بإمكانه زيادة تأجيج أثر وهم الحقيقة عن طريق التكرار.
ليس بإمكاننا إيقاف أثر وهم الحقيقة من الوجود، ولكننا نستطيع أن نعي بأنه حقيقة، وأن علينا أن نسعى لمنع أنفسنا من الاستسلام له في المقام الأول.
الخلاصة
إن الذاكرة البشرية ليست مثالية، فمن السهل أن يضللنا أثر وهم الحقيقة، والذي يمكن أن يُعيد توجيه معتقداتنا ويغيِّر فهمنا للماضي، وهو أمر غير متعلق بالذكاء، فهو يحدث لنا جميعا. وهو تأثير قوي للغاية بالنسبة لنا لنتخطاه فقط عن طريق معرفة الحقيقة. ومن الناحية الذهنية، لا يوجد تمييز بين الذاكرة الحقيقية والذاكرة الزائفة. فأدمغتنا صممت لتوفير الطاقة، لذا من الضروري أن نتقبل ذلك.
لا يمكننا أن نشاهد ما يحدث باعتبار أننا في مأمن مما يجري والاعتقاد بأن وهم الحقيقة يحدث فقط لغيرنا، فهو يحدث لنا جميعا. جميعنا مسؤولون عن معتقداتنا. ولا يمكننا إلقاء اللوم على الإعلام وخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي أو أي شيء آخر. إذ أننا عندما نبذل جهدًا في التفكير والتشكيك في المعلومات التي نتلقاها، سنكون أقل عرضة للوقوع في شرك أثر وهم الحقيقة. فالتعرّف إلى الأثر هو أفضل طريقة لندرك الأوقات التي يتشوّه فيها منظورنا للعالم. وقبل أن نستخدم المعلومات كأساس لاتخاذ قرارات مهمة، من الجيد التحقق مما إذا كانت المعلومة صحيحة، أو ما إذا ترددتْ على مسامعنا بكثرة.
إن الحقيقة أمر محفوف بالمخاطر، ليس لأنها غير موجودة موضوعيا؛ ولكن لأن الحوافز لتشويهها يمكن أن تكون قوية للغاية. نحن جميعًا مكلفون بالبحث عنها.
بقلم: محرر Farnam Street | ترجمة: جهينة بني عُرابة | تدقيق: منال الندابية | المصدر