حتى لو فشل آخر المجتمعات التعاونية التولستوية التي بقيت على قيد الحياة في تحقيق المثل العليا لليو تولستوي، إلا أنه ما يزال من الممكن تحويله إلى شيء مفيد، إذ يمكن جعله مكانًا للأشخاص الذين لا يرغبون في أن يُعثرَ عليهم.
هيو وليامز ليس راهبًا؛ بل على العكس تمامًا فهو يجيب على الهاتف عندما أزوره، وهاتفه موصول بمقبس في مكان ما، على الرغم من أنني لا أفهم كيف يمكن أن يعمل بصورة صحيحة؛ إذ يبدو من المستحيل لمثل ذلك الكوخ البدائي والمتداعي أن يدعم شيئا بتقنية متطورة كالهاتف.
الأرضيات مغطاة بأدوات كهربائية مكسورة، وساطور، وأشرطة فيديو لا تحمل تسميات، وصحف قديمة تعود إلى عقود خلت، وصناديق قمامة مطروحة أرضا، وكانت القطط الثلاث التي تجوب المكان قد ملأتها ذات مرة. ولا تخفي نتانة البول والقذارة رائحة العفن على الموقد، حيث بقايا وجبات الطعام التي مرت فترة طويلة على إعدادها، وقد أدت إلى تآكل الأواني التي استخدمت في إعداد تلك الوجبات. لقد كان الكوخ باردًا جدًا لدرجة كانت الأنفاس تتحول إلى بخار عندما يتحدث أي شخص.
كانت قشور البرتقال المجففة تتدلى من السقف. يخبرني ويليامز البالغ من العمر 76 عامًا على نحو مبهم: “هذه إحدى الطرق لكسر الخطوط المستقيمة، فأنا أمقت التواجد داخل صندوق ذو خطوط مستقيمة”. يبث المذياع برنامجًا إذاعيًا حواريًا عن البيئة هنا في إيدوول، وهو مجتمع صغير يبعد حوالي 35 ميلًا بالسيارة من سبوكين، واشنطن. كان ذلك المذياع جزءًا من مشغل لأشرطة التسجيل المزدوجة الذي كان شائعًا في الثمانينيات، ولكن القواعد التي ينبغي أن توضع عليها أشرطة التسجيل كانت مكسرة.
عندما جئت إلى كوخ ويليامز في ظهيرة أحد الأيام الماطرة من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، توقعت أنه كان فارغًا. وقد تعذر على جهاز تحديد المواقع الخاص بي تحديد موقعه، ولم يكن الجيران متأكدين ما إذا كان مسكونًا أم لا. كانت الشاحنات والسيارات التي أصابها الصدأ تحيط بالكوخ، والذي بدوره يرقد على تلة صغيرة فوق طريق ترابي يتفرع إلى طريق ترابية أخرى تؤدي بدورها إلى بضعة طرق ترابية.
ولكن على الرغم من عزلة وليامز، إلا أنه لا يختبئ؛ فقد نشأ على هذه الأرض وهي مزرعة للماشية والقمح لوالديه . انتقل إليها وليامز في السبعينيات بعد أن هربت زوجته الأولى مع صديقهم وأخذت الأطفال معها، كما عاش هنا مع زوجته الثانية، حتى تركته هي الأخرى وذهبت مع رجل آخر. ويمكن لأي شخص العثور عليه، إذا كان ذلك الشخص مهتمًا، ولعل ذلك الأمر هو الجزء الأصعب.
يعاني ويليامز من سرطان البروستاتا، ومتلازمة القولون العصبي، وسرطان الجلد، والتصلب اللويحي، ويعتقد أنه قد يعاني من الهوس الاكتئابي. يتكلم ببطء وهدوء، كما لو أن أنفاسه ستنقطع في أي لحظة. وقد جعلته لحيته الطويلة وملابسه الرثة يبدو مثل مفجر الجامعات والطائرات.غير أنه كان غريب الأطوار حتى عندما كان معتادًا أكثر على الخروج. وكان يمارس السفر التطفلي في جميع أنحاء البلاد للاحتجاج على الحرب النووية، واعتقل مرة أو اثنتين. وبعد مروره بفترة وجيزة من العزوبية، أصبح عاهرًا فمارس الجنس مع والدة صاحب زوجته. أما الأمر الأكثر إثارة هو أنه أسس في العام 1963 مزرعة تبلغ مساحتها 240 فداناً في أحد الأماكن القريبة، وكانت من بين البقايا الأطول عمرًا لمجتمعات التعاونية التي تعود إلى ستينيات القرن العشرين، والتي نعتها تشارلز مانسون بنعت سيئ، وكانت تلك المزرعة قد أسست بناء على تعاليم ليو تولستوي.
في المزرعة، أطلق عليه لقب “زمار”، لأنه كان يعزف المزمار للأطفال. وظن زمار أنه كان سيشكل مع أصدقائه في المزرعة طليعة حركة طوباوية كان من شأنها أن تجتاح أمريكا، لكن لم يكتب لها ذلك.
يمكن القول، بل من المؤكد أن تولستوي هو أعظم روائي في التاريخ؛ ففي استطلاع أجرته مجلة التايم لـ 125 مؤلفًا، اختيرت رواية “آنا كارنينا” كأعظم كتاب على الإطلاق، فيما احتلت رواية “الحرب والسلام” المرتبة الثالثة، ووصف كل من دوستويفسكي ونابوكوف “آنا كارنينا” بأنها “لا تشوبها شائبة”، واعترف جيمس جويس وفيرجينيا وولف بألمعيته. ومن جانبه اختصرإسحاق بابل ذلك الإجماع من خلال الإشارة إلى الواقعية منقطعة النظير في كتبه قائلا: “لو كان العالم قادرًا على الكتابة من تلقاء نفسه، لكتب مثل تولستوي”.
ولد الرجل الذي كتب مثل العالم في العام 1828، وكان الرابع من بين خمسة أطفال. وعندما توفي والداه الأرستقراطيان وهو في ريعان الشباب، تحول القسط الأوفر من تربيته إلى عائلته الممتدة في قصرهم الفخم الذي كانت تبلغ مساحته 4000 فدان، والذي كان يسمى ياسنايا بوليانا. وكان القصر الذي يقع 120 ميلا جنوب موسكو مليئا ببرك الماء والمتنزهات والحدائق ذات المناظر الطبيعية، وبساتين الفاكهة والممرات، وحوالي 300 من الأقنان الذي كانوا يعملون في الأرض.
ترك تولستوي الجامعة بعد عامين، ولما بلغ تسعة عشر ربيعًا، كان يعيش حياة العزوبية والفجور في موسكو، فأدى به الأمر إلى الإصابة بداء السيلان وإدمان المقامرة. وبعد محاولة خجولة أخرى للعودة إلى الجامعة في سانت بطرسبورغ وقضاء فترة وجيزة في المنزل، انضم إلى الجيش الروسي، وقاتل في القوقاز وسيفاستوبول خلال حرب القرم في النصف الأول من خمسينيات القرن التاسع عشر بينما كان يكتب الروايات في أوقات فراغه.
حقق تولستوي شهرته على الفور ولم يخسرها أبدًا، حتى عندما أراد أن يخسرها.
حقق نجاحًا نقديًا وتجاريًا فوريًا مع نشر روايته القصيرة الأولى “الطفولة”، كما بدأ بكتابة البرقيات التي كانت أحد الأشكال القديمة للتقارير الحربية عن تجاربه الحربية بطريقة مبتكرة. وقرأ القيصر بنفسه أعمال تولستوي ونشرها في منشور حكومي. حقق تولستوي شهرته على الفور ولم يفقدها أبدًا، حتى عندما أراد أن يخسرها.
في العام 1865 ، بدأت رواية “الحرب والسلام” تظهر في حلقات في إحدى المجلات (وكانت رواية دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” تنشر في المنشور نفسه مرة كل شهرين). حظي الكتاب بشعبية كبيرة: لدرجة أن إحدى الصحف الروسية ذكرت أن البلاد بأكملها كانت تنتظر لتعرف كيف انتهت القصة، وتبعتها رواية “آنا كارنينا”، وكذلك القصص القصيرة التي كانت تحتل منزلة القصص التي كتبها تشيخوف الذي كان أحد المعجبين بها.
كان تولستوي يتمتع بشعبية جارفة لدرجة أن أحد نظرائه وصفه بالقيصر الثاني (غير أنه كان أقل إلهاما للقتلة المأجورين من الأول)؛ ففي الوقت الذي توفي فيه، عام 1910، كان تولستوي قد “أنتج أعمالا عبقرية جعلته يُنظر إليه خلال العقدين الأخيرين، بوصفه الكاتب الأكثر شهرة في العالم الغربي” على حد تعبير صحيفة نيويورك تايمز في نعيها له. وأردفت: “إذ تعد تلك الكتب بالفعل من بين الكتب الخالدة في العالم.” هذا هو تولستوي كما نتذكره اليوم، وهو الذي اختير في نادي أوبرا للكتب عام 2004 والذي ألهمت أعماله عشرات الأفلام.
لكن هناك تولستوي آخر ضاع في التاريخ؛ فعلى الرغم من شهرته كروائي، في روسيا وغيرها من الأماكن كانت شهرة تولستوي الروائي وبصمته ذواتيْ أهمية ثانوية مقارنة بتولستوي مؤلف الكتب الواقعية في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية. وقد علقت ماري بيرد خبيرة الأدب الكلاسيكي في كتابها: “إن نجاحه في العام 1910 يعزى إلى نشاطه السياسي والأخلاقي ووضعه كشخص رؤيوي وإصلاحي، ومعلم روحي في الأخلاق والفلسفة أكثر من مواهبه بوصفه كاتبا روائيا”.. لقد صاغ تولستوي أسلوبًا متناسقًا ومتكاملًا للحياة يتمحور حول فهمه الفريد للمسيحية، إلا أن عددًا قليلًا فقط من النقاد الأدبيين يذكرونه اليوم. وأصبح معتنقو ذلك الأسلوب يعرفون باسم “التولستويون”، الأمر الذي كان يثير حنقه. وفي إحدى الفترات كان ثمة المئات، وربما الآلاف، من التابعين لتعاليم تولستوي في جميع أنحاء العالم من الهند إلى كندا. لقد تخلوا عن المدن ووسائل الراحة والقوانين والمتعة والحداثة، أما الآن فقد رحلوا جميعًا تقريبا!
يجلس زمار على الأريكة المتعفنة في كوخه، وشعره الفضي الطويل الأشعث يتدلى أسفل رأسه من الخلف. وهو يرتدي سترة خضراء منقوشة قديمة. عيناه مترهلتان وتتحركان ببطء. ولكنه، كأحد فلاسفة الضفة اليسرى الفرنسيين، لديه أفكار ويعتقد أنه يستطيع إنقاذ العالم، لو أنصت له العالم، غير أن ذلك لم يحدث أبدًا.
زمار رجل حزين، بل ومحطم، لكنه لم يكن كذلك دومًا، على الرغم أنه قال مرة في مقابلة “لقد كان عندي كل شيء، عندما كان عمري 14 عامًا، كنت أمتلك سيارتي الخاصة، وبضعة أبقار، و600 دولار في حسابي المصرفي”. لكن في العام التالي، احترق منزله وكذلك كل شيء كان يحبه: طوابعه البريدية وتصاميمه وكتبه. كان يشعر بالحزن، وأخذ ينام في الهواء الطلق، وقرر بعدها ألا يتعلق مرة أخرى بالممتلكات المادية.
كانت والدته تعاني من مشاكل في الصحة العقلية، كانت تشعر بالرعب من أن اليابان سوف تغزو أمريكا في أي وقت. يقول: “أنا شديد الحذر بالفطرة”، وقال لي” إنه كان يجب على والدته” أن تختفي لبعض الوقت في بعض الأحيان”. ولكن عندما كانت في المنزل، كانت تغرس الجدية الأخلاقية في ابنها. كانت الأسرة تزور الكنيسة الميثودية القريبة بصورة منتظمة، وفي ذلك المكان سمع أحد دعاة السلم الذي كان يعمل مبشرًا في الصين. وتحدث الواعظ عن المجاعة في الصين في الخمسينيات من القرن العشرين، وعن أن الحب هو الحل لمشاكل العالم. وقال: إن ذلك الحديث “ألهم بصيرتي”. وفي سنته الأولى من المدرسة الثانوية، قرأ بعض الرسائل الإخبارية التي تحدثت عن المهاتما غاندي، وشيئًا كان الزعيم الهندي قد أقامه في جنوب إفريقيا يسمى “مزرعة تولستوي”.
عندما كان تولستوي مراهقا بدأ في التساؤل عن الثروة التي ورثها، وحاول حرمان نفسه من وسائل الراحة والتخلي عن الجوارب و ارتداء قطعة واحدة من الملابس التي تبدو كملابس داخلية طويلة. وكان باستطاعته التخفي بين الأقنان الذين كانوا يعيشون في ياسنايا بوليانا بارتداء الملابس الرثة، وقد صُدم لسماعه ازدراءهم أسرته. كان قد تعلم أن القنانة مفيدة للجميع -بمن فيهم العبيد- ولذلك فوجيء أنهم كانوا يحتقرون ذلك النظام.
كان ذلك بداية لتحول تولستوي على مدى عقود طويلة إلى ناشط ديني تخلى عن كامل ثروته. غير أن تلك المسيرة تخللتها فترات توقف، بما فيها إحدى وقائع يومياته التي كتبها في 1855 أثناء وجوده في الجيش، والتي آذنت بتفكيره فيما بعد.
بالأمس ، قادني حديث حول الألوهية والإيمان إلى فكرة عظيمة ومذهلة ، أدركت أنني قادر على تكريس حياتي كلها لها. هذه الفكرة هي أساس ديانة جديدة تتطابق مع تطور البشرية – دين المسيح ، ولكنها تطهر من العقيدة والغموض، دين عملي، لا تبشر فقط بالخير في المستقبل بل توفر النعيم على الأرض.
يقول الإنجيل إن المسيح بشر بالمحبة والغفران واللاعنف والزهد. وكانت عبادة أي شيء آخر، بما في ذلك الطقوس الدينية وهيئة الكهنوت والأسرة والوطن تعد غير لازمة في أحسن الأحوال، ومخالفة لإرادة الرب في أسوئها. وبالنسبة لتولستوي، كان العيش مع الامتثال لأي شيء غير تعاليم المسيح ومثله لا قيمة له، إذ ما الغاية أن يتحدى المرء أوامر الرب التي تبين أفضل طريقة للعيش؟ وبالنسبة لتولستوي، أصبح وعظ يسوع بالأولوية الأسمى المتمثلة بحب المخلوقات الأخرى تدريجيًا مصدرًا للألم، الذي كان بمثابة هم طغى على كامل تفكيره.
“لقد صاغ تولستوي أسلوبًا متناسقًا ومتكاملًا للحياة يرتكز على فهمه الفريد للمسيحية. وأصبح معتنقو ذلك الأسلوب يعرفون باسم التولستويون، الأمر الذي كان يثير حنقه”
بعد أن عاد تولستوي من الخارج، أجرى محادثات مع أقنانه وصاغها في رواية “آنا كارنينا” إذ أخبرهم فيها أنه يريد تحريرهم. (لم يثقوا بخطته ورفضوا اقتراحه بإبرام عقد بينهم). أسس 21 مدرسة لتعليم أطفال الفلاحين، وكتب أكثر الكتب التمهيدية مبيعًا في محو الأمية، الأمر الذي أغضب جيرانه، الذين كانوا يخشون أن يصاب عبيدهم بعدوى أفكار الحرية و المساواة، وناضل ضد الحكومة الروسية بسبب نظامها التعليمي الرديء و تعطشها للحروب ولا مبالاتها بالجوع.
تولستوي الناشط ناضل روحيًا ضد تولستوي الأناني؛ فقد عرف الثاني أنه كان عبقريًا وكان بحاجة للوقت لإبداع فنه، في الوقت الذي كان يجسد ترف الطبقة الأرستقراطية الروسية قبل الثورة. تزوج تولستوي وأنجب 14 ولدا من زوجته صوفيا التي عانت طويلًا (وتعرضت لعدد من حالات الإجهاض). وأمضى سنوات في تأليف روايتي “الحرب والسلام” و”آنا كارنينا”، بينما كان الخدم (وصوفيا) يسهرون على خدمته، وكان يزجي وقته بين القراءة والأبحاث والصيد والمشي في ياسنايا بوليانا.
كان الرابط بين هذين التولستويين هو الآلام، الآلام المتكررة والكثيرة، وبعد عامين فقط من إنهاء “الحرب والسلام”، أخبر تولستوي أحد أصدقائه أنه لم تكن لديه أية رغبة في العيش. إذ جعل الموت، بحتميته وديمومته، الحياة تبدو بلا طائل بسبب سرعة زوالها وعدم دوامها. وبعد بضع سنوات، توقف مؤقتًا عن كتابة “آنا كارنينا” بسبب اكتئابه، وأخبر صديقا آخر أن الوجود “دعابة فارغة وسمجة”، وذهب مرة للصيد دون بندقية حتى لا يميل إلى اتباع مسار آنا وإنهاء حياته.
لقد أنهى “آنا كارنينا” بالطبع، لكن فقط من خلال التخلي عن الرواية وإغراق نفسه في الأفكار التي كان مقدرا لها أن تتطور إلى فلسفة جديدة.
قام زمار الذي وجد الإلهام في غاندي في سن 17، بتسجيل نفسه لدى الحكومة الفيدرالية بوصفه رافضا للخدمة العسكرية بوحي الضمير، وبدأ في تشكيل التنظيمات ضد حرب فيتنام. وذهب لدراسة الزراعة في جامعة واشنطن، مصمما على إيجاد نهاية لمشاكل الجوع في العالم. وأثناء مقرر الأدب للطلبة الجدد، تعرف على العلاقة بين غاندي وتولستوي. وفي محل لبيع الكتب في سياتل، اشترى نسخًا بغلاف من الجلد لأعمال تولستوي الكاملة، واعتمد السياسة المتطرفة. فاحتج على التمييز العنصري ونظّم الطلاب ضد الأسلحة النووية. وأقام بمنزل خارج الحرم الجامعي حيث كان السكان يتشاركون فيه الطعام والدواء، حيث كانوا يتناولون العشاء معا ويناقشون الشؤون السياسية. وكان ذلك بداية حركة اليسار في مراحلها المبكرة، وكان الأعضاء الأكثر أناقة واحترامًا يحضرون الحفلات الشعبية وبعدها ينصرفون إلى مشاغلهم.
غير أن زمار انضم إلى مسيرة 700 ميل من نيوهامبشير إلى واشنطن العاصمة للاحتجاج على التجارب النووية، وخلال ذلك المسير قرر التوقف عن الدراسة.
لم يستطع أحد مراسلي الإسكواير الذي لم يكن مدركًا أن البلاد كانت على وشك الانفجار بالاحتجاجات من كل الأنواع، من أجل الحقوق المدنية وضد حرب فيتنام، أن يساعد التعامل مع المجموعة بتعالِ حين وصفهم بأنهم “ثلاثة عشر من دعاة السلام بدا أنهم كانوا يعتقدون أن مسيرة للدعوة إلى السلام قد تساعد في وقف سباق التسلح”. لم يستطيعوا وقف سباق التسلح، لكنهم اعتقلوا بتهمة “التسبب بخطر عام” من خلال تنظيم مسيرة حول البيت الأبيض، ولكن سرعان ما تم إسقاط تهمة زمار، وعاد إلى المنزل متطفلا الركوب مع الآخرين. وحدث ذلك عندما استولى على مزرعة أجداده، في دافنبورت، على بعد 30 ميلاً إلى الغرب من مسقط رأسه؛ فوضع خطة لمجتمع تعاوني يقوم على مدرسة تولستوي.
وفي تحدي تولستوي لتوسلات زوجته والناشرين والقراء لمواصلة كتابة الروايات، بدأ تولستوي في الصلاة كل صباح، والذهاب إلى الكنيسة والصيام وزيارة الأديرة، وتناول العشاء الرباني وحضر مناظرات بين المسيحيين الأرثوذكس والمعارضين المسيحيين، وسار جنبًا إلى جنب مع حجاج الدين في زيارة أماكنهم المقدسة. وبدأ يتجاهل عائلته وأملاكه، إذ كان يشعر بالاشمئزاز من جشعهم وعبثهم؛ فكيف يمكن لأي شخص محترم أن يستأثر بالثراء الفاحش بينما يعيش الآخرون في عوز، بل وفي المنزل نفسه؟!
بدلا من الروايات التي حققت الشهرة له، كتب أعمالا قوامها الدين والفلسفة تحمل عناوين مثل “التحقيق في اللاهوت العقيدي”. ويصف الكتاب الثالوث المقدس بأنه “كذبة وضيعة وإجرامية وتنم عن تجديف” ويرفض فكرة أن المسيح قد فدى البشر عن طريق الموت على الصليب؛ لأن البشر رغم ذلك “بقوا على حالهم” حتى بعد صلبه. ونشر كتاب “الإنجيل باختصار”، واختزل الكتاب المقدس إلى ما شعر بأنها الرسائل الحقيقية للمسيح، الخالية من أية ألوهية أو قيامة. وكتب: “لماذا أحتاج إلى معرفة أنه قد قام؟! طوبى له إن فعل. أما بالنسبة لي فالمهم هو معرفة ما يجب عليّ القيام به، وكيف ينبغي أن أعيش”.
غرق تولستوي في كتابة أعماله الثورية متجاهلا تحذيرات السلطات، وأثبت كتاب “ملكوت الرب في داخلك” أنه الأكثر تأثيرًا من بين كتبه غير الروائية، والأكثر تعبيرًا عن فكره. إذ كتب قائلًا: “إن المعنى الوحيد لحياة الإنسان يتمثل في خدمة العالم من خلال التعاون في مؤسسات ملكوت الرب”.
بالنسبة لتولستوي كان حريّاً بالبشر أن يجسدوا المسيح قدر المستطاع، وإعمار مملكة السماء على الأرض من خلال ذلك، ويجب أن تكون جميع العلاقات بين البشر طوعية وسلمية وتعاونية ومتكافئة. وكان تولستوي يعتقد أنه بإمكان الأقنان الذين رآهم “أن يبينوا للشعوب الأخرى الطريق لحياة حرة وسعيدة خارج الاستغلال والعبودية الصناعييَن والرأسمالييَن: هذه هي المهمة التاريخية للشعب الروسي”.
وبعد أن سمع الأقنان عن الأيديولوجية الغريبة لتولستوي، كانوا يحتشدون على باب منزله باستمرار لكنه رفض إبعادهم. وكان يرتدي ملابس رثه بصورة دائمة ونقل حقوق أعماله الأدبية ووكالته إلى زوجته، وكان يعد المال شراً، وكذلك كانت الدولة نفسها؛ فأي شيء يعتمد على القوة بدلاً من التعاون الطوعي كان معادياً للمسيحية بنظره. وكان الجنس أيضًا مقززًا؛ فهو عمل حيواني يحط من قدر الناس الذين يمارسونه (على الرغم من أنه هو نفسه لم يتمكن من تجنبه، كما يشهد على ذلك الأطفال الأربعة عشر وحالات الإجهاض الإضافية).
بدأت الشرطة الروسية بمراقبة تولستوي، وحذر أحد الرؤساء العلمانيين البارزين للكنيسة الأرثوذكسية الروسية من أنه “استسلم للهوس الديني.. إذ إنه يبشر بالأخلاق المسيحية بالمعنى العقلاني، رافضًا تعليم رب شخصي وألوهية المسيح المخلّص”. وفي نهاية المطاف، عزلته الكنيسة الأرثوذكسية في العام 1901. وكان على وشك أن يُنفى عدة مرات، وناقشت المحاكم إرساله إلى ما كان يسمى آنذاك مستشفى المجانين، ولكن في نهاية المطاف رفض القيصر قتل تولستوي بسبب عقيدته رغم اشمئزازه منه.
لما اقتربت نهاية حياة تولستوي في العقود الأولى من القرن العشرين، كان ما لا يقل عن 35 شخصًا يزورونه في اليوم، إذ كانوا ينظرون إليه بوصفه مستحقا للتبجيل أو الإعجاب. كتب صحفي بريطاني: كان “رجلاً عبقرياّ يقضي وقته في زراعة البطاطا وإصلاح الأحذية، وكان فنانًا أدبيًا عظيمًا أسس دعاية للفوضوية المسيحية، وأرستقراطيًا قضى حياته كالفلاح البسيط، وإن من شأن مثل ذلك الرجل في أي بلد أن يستحوذ على الاهتمام. أما في روسيا فهو يحتكره”. تحول تولستوي من كونه أشهر كاتب روائي على كوكب الأرض إلى كونه شخصًا لم يتخلَّ عن كتابة الرواية فحسب، بل كان نباتيًا لم يدخن أو يشرب أو يقضِ الوقت مع عائلته أو يصطَد أو يأكل اللحوم، أو يمارس الجنس، أو في الحقيقة يحظَ بأي نوع من المرح على الإطلاق.
“توارى تولستوي لكتابة أعماله الثورية متجاهلا تحذيرات السلطات”
في نهاية المطاف، تخلى عن ياسنايا بوليانا لأنه كان عازما على أن يعيش مُثُله لدرجة استحال معها العيش في ملكية خاصة أو مع مسؤوليات عائلية، وفي سن الـ 82، غادر في منتصف الليل وذلك للهروب دون أن تكتشفه صوفيا، ولم يكن لديه سوى الملابس الرثة التي كان يرتديها، وكان عليه أن يواجه الشتاء الروسي الذي دمر جيش نابليون في “الحرب والسلام”. وزار ديرًا للرهبان ثم ديرًا للراهبات وأخيرًا استقل أحد القطارات. ومرض فمات في إحدى محطات القطار القريبة من منزله، ولكن البعيدة عن النبيلة التي ولد فيها. وحضر مئات الأشخاص جنازة تولستوي التي أطلق عليها أول حدث إعلامي. توفي تولستوي غريب الأطوار، والمستحيل، ومنكر الذات، والمنافق، والمحتقر، والمحبوب، والرؤيوي قصير النظر والكاتب الأكثر شهرة في العالم.
ذات مرة شرح زمار نشأة مزرعته فقال لأحد المؤرخين: “في الحقيقة، كان ثمة قصة كتبها تولستوي عن أولئك المسيحيين الأوائل الذين عاشوا متعاونين”، وكانت تسمى “اعمل الصالحات تمشِ بنور الرب”، وكان ذلك “يبدو صحيحًا بالنسبة لي”.
نُشِرَ في عام 1893، عنوان الرواية مأخوذ من يوليو 12:35: “تمشى بينما يكون لك النور ، لئلا يحل الظلام عليك ، لأن من يسير في الظلام لا يعرف”. مترجم “قصة بين مسيحي وثني”. المشي في النور بينما يي ليس لديك الضوء هو مجموعة من المثل في روما القديمة بعد قرن من ولادة المسيح. مكتوبة بلغة وأسلوب الكتاب المقدس.
وتحكي قصة رجلين، أحدهما يتبع تعاليم يسوع والآخر يوليوس، الذي يعاني من خيبات الأمل المتكررة في حياته المادية والعلمانية قبل أن يقبل في نهاية المطاف تعاليم المسيحية المتطرفة أي بصورة أساسية قبل قبول عقيدة تولستوي. وورد في السطور الأخيرة: “وجد يوليوس راحة البال، وبدأ في العيش والعمل من أجل الإخوة وفقا لقوته”. وعاش لذلك بفرح عشرين سنة أطول، وهو لم يدرك كيف مات الموت الجسدي”.
وضع زمار إعلانات في رسائل إخبارية سلمية وكتب رسائل إلى الأصدقاء، ودعاهم للمساعدة في خلق مجتمع من نوع جديد على أرضه. وكان من المقرر أن توفر المزرعة المأوى والعون لأي شخص يتظاهر ضد حرب فيتنام. وكانت إحدى المزارع في ولاية كونيكتيكت قد قامت بالشيء نفسه، ولكنها كانت تفتقر إلى العناصر الأخرى في عقيدة تولستوي، مثل مناهضة النظام الاقتصادي الصناعي والشيوعية، التي خطط لها زمار في مزرعته. وأوضح زمار في وقت لاحق قائلا: “يبدو أن الحرب والعنف والقمع متأصلة في أسلوب الحياة الأمريكية”، ولذلك فإن مزرعته ستقدم وسيلة بديلة.
كان معظم مؤسسي مزارع تولستوي العشرة تقريبًا من قدامى المشاركين في مسيرة السلام. كان أحدهم روسي، وترك الجامعة للانضمام إليهم. وكانت بيني، التي لم تكن حتى تبلغ العشرين من عمرها، لكنها قامت بعصيان مدني في أحد السجون النسائية في قرية غرينتش، وبمجرد إطلاق سراحها، وضعت في المكان علامة تقول: “السجون ليست الجواب”. لكن زمار فقط كان تولستويًا حقيقيا. إذ لم يقرأ الكاتب بعمق ويفهم روحه المسيحية إلا هو. أما الآخرين فقد أرادوا العيش خارج الأرض، أو أن يكونوا في بيئة مجتمعية، أو يهربوا من المجتمع الصناعي، أو الثلاثة معًا، لكن هذا لا يعني أنهم اعتنقوا فلسفة تولستوي أو زمار.
لقد هجروا الراحة من البداية، وكانوا يعيشون في فقر طوعي، في منزل واحد من دون كهرباء أو مياه جارية، واستخدموا معدات زراعية قديمة، ووصف أحد الزائرين المعاصرين تلك المزرعة بأنها مزرعة تنتشر فيها الأكواخ والمساكن المؤقتة، وهي تذكر بـ”هوفرفيل” في ثلاثينيات القرن العشرين”. ولم يكن هناك أي شيء قسري: لا شرطة ولا محاكم ولا سجن ولا حكومة (غير أنهم كانوا يعيشون على القسائم الغذائية والمساعدات الحكومية، وهو تناقض لم يتم حله).
كان كل شيء مملوكاً بشكل مشترك في البداية، بما في ذلك الضروريات الأساسية. أي عنصر مادي جديد يتطلب التصويت بالأغلبية. لكن الأموال كانت شحيحة ، لذلك صوت العديد من الأعضاء ضد معجون الأسنان والصابون ومنظفات الغسيل.
كانت المقاساة تستحق العناء بالنسبة لبعض الناس، لأن المزرعة كان الممكن لها أن تكون مفعمة بالأمل وملهمة وآمنة. وعلى أي حال، فإن الجميع في العالم كانوا سيعيشون بهذه الطريقة قريبًا جدًا، وذكر المؤرخ تيموثي ميلر في كتابه الذي نشر في العام 1999″المجتمعات التعاونية في السيتينيات أنه ” كان لدى السكان شعور بأن أولئك الذين كانوا قد تعلموا العيش خارج أنظمة الدعم التكنولوجي للثقافة السائدة سيكونون أفضل حالاً، كما كان الكثير يعتقدون، حينما يأتي الوقت عندما ستؤدي الأزمة العالمية إلى إزالة تلك الأنظمة”. وتنبأ زمار في السنوات الأولى قائلا: “عندما تتدمر البلاد، ستتوقف الكهرباء عن المرور عبر الأسلاك، لذلك يمكن لنا أن نستغني عنها الآن”.
لم يهتم الناس في دافِنبورت بغريبي الأطوار، وحظر على أتباع مبادئ تولستوي الأكل في المطاعم المحلية بعد عثور الشرطة على المخدرات ومصادرتها في المزرعة. ولأن الخارجين عن القانون كانوا يعرفون أن لدى أتباع مذهب تولستوي ملاذا آمنًا لا يتم طردهم منه، هاجروا إلى المزرعة. وكان هناك ممن تغيبوا عن الجيش دون إجازة، والرجل الذي كان يهرب البنادق إلى كوبا، والذي طلب من الصحفي أن يبقي على اسمه مجهولاً لأن “ثمة الكثير من الناس الذين لا أريدهم أن يعرفوني”. وفي بعض الأوقات جاء شخصان من المتهمين بالتحرش بالأطفال للعيش هناك، واعترف أحد الأعضاء “بأننا لم نكن نعرف حتى الفرق بين المنحرفين وغير المنحرفين”.
أصبح من السهل على دافنبورت دمج مزارعي تولستوي مع الهيبيين، لكن التولستويين لم يهتموا بالروك أند رول أو بالعامية أو كانوا يحتقرون كبار السن لديهم. لقد طلبوا من الصحفيين ألا ينشروا موقع مزرعة تولستوي لأنهم لم يكونوا يريدون طوفانًا من “المتسولين من مدمني العقاقير المهلوسة”.
لكن الهيبيين جاءوا على أية حال خاصة في فترات الصيف، ولأن سياسة زمار لم تكن تهدف إلى إبعاد أي شخص، شعر السكان أنهم كانوا مضطرين إلى السماح للهيبيين بالبقاء. عمت الإباحية والحشيش المخدر المكان، وزرع الهيبيون الماريجوانا في المزرعة وباعوها في سبوكان. كانت ذات تأثير قوي جدًا حتى أصبحت تعرف باسم “تولستوي غولد”، وربما كان ذلك هو أول مرة تلتقي فيها مسارات الروائي الروسي مع مجموعة “هاي تايمز”. وأدى ذلك إلى أول مداهمة أمنية للمزرعة بسبب الماريجوانا، في العام 1965، حيث تم القبض على 16 شخصًا، لكن في الحقيقة الرجال الذين زرعوا ذلك الشيء نجوا بفعلتهم.
خلال تلك السنوات الأولى، تشاركوا كل شيء لديهم بما في ذلك بعضهم البعض، ومعظم الأزواج الذين جاءوا انفصلوا عن بعضهم، وثبت أن تعدد الزوجات والعلاقات العاطفية صعب وأحيانا عنف مطلق. وقال لي زمار: “كان المرء يمر بتلك التغيرات النفسية، ولم تكن الأسباب التي دعتك لأن تكون مع كائن من كان بالضرورة موجودة بعد الآن”. وتزوج زمار إحدى النساء، سيلفيا، التي انتقلت في نهاية المطاف مع شخص آخر يعيش في المزرعة، وكان ثمة زواج واحد لفترة قصيرة من ستة اتجاهات بين ثلاث نساء وثلاثة رجال.
سأل الناس زمار عن الحكمة، وقال لهم إن كل ما تربوا على تصديقه كان هراء. قد يكون متعجرفا، الأمر الذي جلب له السخرية من إيمانه بالمساواة ونفور الآخرين الذين أراد أن يقودهم. لم يعتقد زمار أنه كان ينبغي على أي شخص القيام بأي شيء لا يريده بما في ذلك العمل. لذلك لم يكونوا يعملون في كثير من الأحيان. وفي أحد الأوقات اشترى الأعضاء بقرة، ثم أدركوا أن معظم الناس لا يريدون حلبها، لذا لم يعتنوا بها وتم إطلاقها، فأمسكها أحد الجيران وقام ببيعها في مزاد.
تنبأ بايبر في السنوات الأولى: “عندما يتم تدمير البلاد، ستتوقف الكهرباء عن المرور عبر الأسلاك، لذلك بإمكاننا الاستغناء عنها الآن”.
بعد فترة وجيزة، ثبت أن أسلوب الحياة في المزرعة فوضوي للغاية وقاموا بإدخال تعديلات. ووصف أحد المقيمين ذلك الأسلوب بـ “أزمات عاطفية، وشجار على كل شيء”. عادة ما كان يتم وضع الطعام على الطاولة، وكان كل شخص يتصرف على سجيته. “فإذا وقفت في الخلف لم تكن لتحصل على شيء. وعندما يعيش الناس بالقرب من بعضهم البعض بهذا الشكل، يصبحون أقل حساسية، وتختفي الآداب بسرعة وعلى نحو مفاجئ”.
قرر الناس في النهاية العيش منفصلين وأن ينقسمون إلى أكواخ مستقلة. وسرعان ما أصبح عيد الشكر هو الطقس الجماعي الوحيد الذي يمارسونه في مبنى مدرسة بناها زمار، بالإضافة إلى شيء آخر سمي رقصة الذرة. وفي تلك السنة الأولى، قام زمار بصنع طبلة، واجتمعوا على سفح التل؛ فشربوا ورقصوا و عزفوا على الآلات الموسيقية.
في مرحلة ما، أصبح من الواضح أن بقية العالم لا يسير على النهج نفسه المتمثل في إزالة التصنيع أو تبني اللاعنف. وكان لدى معظم الناس الذين علموا بمزرعة تولستوي ردود فعل تتراوح بين الاشمئزاز والسخرية. وحتى بعد التخلي عن المعتقدات الصارمة للمدرسة التولستوية، ثبت أنه من غير الممكن الحفاظ على بقاء المكان، وبالأخص وظيفته بوصفه أحد النماذج التي يمكن أن تحذو حذوها بقية الإنسانية. إذ توقفت مزرعة تولستوي عن كونها مثالا على ذلك. وبدلا من ذلك، أصبحت ملجأ؛ فكان الخاسرون، والطوباويون، والمتسربون، والهاربون، والهبيون الجدد، والمزراعون، والانطوائيون، والمرضى العقليون جميعهم مرحب بهم في مزرعة تولستوي.
في أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر، بدأ تولستوي السماع عن التولستويين. وغالبا ما تعرضوا لتجارب التحول الديني -كما يسمونه- بعد قراءة أحد كتب تولستوي، وحاولوا العيش وفق المبادئ التي تبناها. وعلى الرغم من حظر بعض كتابات تولستوي غير الروائية في روسيا، إلا أن نسخًا غير قانونية تم تداولها، وخاصة في أوساط النخبة المثقفة المتطرفة والأوساط العسكرية. ورفض المستنكفون الضميريون الدخول في الجيش الروسي، وفي العام 1908، كتب 32 جنديًا وبحارًا إلى تولستوي قائلين إنه جعلهم يدركون أن خدمتهم تنتهك الأخلاقيات المسيحية. وسرعان ما كان لديه عدد كاف من الأتباع -على الرغم من أنه لم يكن يعتقد أنه كان قائدًا لأي شيء- لدرجة أن سلطات الكنيسة الأرثوذكسية أعلنت مذهب تولستوي بوصفه “طائفة كاملة التكوين” كانت تشكل “خطرًا كبيرًا على الكنيسة والدولة”. وبدأ الناس يظهرون في مزرعة تولستوي على أمل إما أن يتعرفوا على فلسفة تولستوي أو يبدأوا في تطبيق أفكاره إلى جانبه. وكشفت صوفيا تولستوي في مذكراتها قائلة: “يا لهم من أناس غريبي الأطوار ومزعجين، وكم كان ثمة الكثير منهم!”
ظهرت مراكز تولستوي في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وهولندا وبلغاريا وفنلندا وهنغاريا واليابان وجنوب أفريقيا وتشيلي. وسميت المجلات بأسماء مثل “التولستوي” و”الأفكار الحرة”. وأسس بعض من تلاميذه الأكثر إخلاصا المجتمعات والمستعمرات القائمة على مبادئ المُشَاعِيَّةِ، والزراعية، والسلمية، وأحيانًا النباتية. وبحلول الوقت الذي توفي فيه، كان ثمة أكثر من اثني عشر مجتمعًا تسولتويًا قائما.
وقرأ غاندي كتاب تولستوي “مملكة الرب داخلك” أول مرة في العام 1893. ولاحقا تذكر قائلا: “كنت في ذلك الوقت مؤمنًا بالعنف، لكن قراءته ساعدتني في الشفاء من شكوكي وجعلتني شديد الإيمان بـ [اللاعنف]”. وحمل الكتاب معه إلى المحكمة ومن سجن إلى آخر. وزار مستعمرة تولستوي في إنجلترا، وقرأ “رسالة إلى هندوسي”، وفي نهاية المطاف كان لديه 20000 نسخة مطبوعة. ونصحت “رسالة” الهندوس في الهند بمقاومة بريطانيا بطريقة غير عنيفة؛ لأن استخدام العنف يعني توظيف الأساليب نفسها التي استخدمها العدو نفسه الذي كانوا يهدفون إلى إلحاق الهزيمة به. وبدأ غاندي مراسلة مثمرة بين الاثنين، حيث قاما بتزكية كتبٍ كتباها وقرآها لبعضهما البعض؛ وكانت آخر رسالة طويلة كتبها تولستوي هي الرسالة التي كتبها لغاندي. وفي العام 1910، ساعد غاندي في تأسيس مزرعة تولستوي في جنوب أفريقيا، حيث كان يطور فلسفته ويعلمها للآخرين. وعندما توفي تولستوي في وقت لاحق من ذلك العام، كتب غاندي نعيًا في صحيفة إنديان أوبينيون: “كان بالنسبة لنا أكثر من كونه واحد من أعظم الرجال في عصره، وقد سعينا، قدر الإمكان، وبقدر ما فهمناه، إلى اتباع تعاليمه”.
انتشر أتباع تولستوي في جميع بقاع الأرض وكانوا يتمتعون بالنفوذ لدى الحركات الاجتماعية اللاعنفية التي ما زالت تجلب الناس إلى الشوارع، لكن الحركة نفسها اختفت خلال جيل واحد. فقد اكتشف التولستويون ما فعله زمار بعد عقود. إذ كان من الصعوبة بمكان تلبية متطلبات فلسفة تولستوي، في الوقت الذي كان فيه أنصارها عرضة للأخطاء والعيوب مثل كل البشر الآخرين؛ فحتى لو شعر الناس بأنهم مجبرون على حب بعضهم البعض أكثر من كل شيء آخر، إلا أنهم كانوا يعانون من الابتلاء بغيرها من الدوافع التي تتسم بالقدر نفسه من القوة: ألا وهي النزوع للرفاهية، والكراهية، والتمتع بالملذات المادية، والسعي إلى السلطة والمكانة. وإذا حدث وأن تذكر المؤرخون المغمورون التولوستية فإنهم لا يتذكرونها إلا على أنها مجرد تجربة أخرى من التجارب الفاشلة وغير المجدية للإنسانية مع المدينة الفاضلة.
عندما اتصلت بالمزرعة لأول مرة، قامت امرأة تدعى ديان بتوضيح وضعها الحالي وعلاقتها بزمار. وأعطتني الموافقة على أن أقوم بزيارة المزرعة وكتابة تجربتي عنها. وعندما أتى الوقت للحجز لرحلتي، أصبحت متحفظة وغير متأكدة. وكما قد يتوقع المرء من الفوضويين الذين ينبذون الحياة الحديثة، كانوا متشككين بي في بادئ الأمر، وأخبرتني ديان أنه كان يجب عليّ أن أتحدث مع رجل يدعى تيم ثبت أنه من الصعب الوصول إليه. ولكنني استطعت التحدث إليه في نهاية المطاف، وقال تيم إنه يجب أن تتم الموافقة على رحلتي بالإجماع. وإذا أتيت، لا يمكنني المكوث في الليل إلى اليوم التالي. ولكن بعد الحصول على الضوء الأخضر من الجميع في المزرعة وإبلاغ تيم بأنني سوف أنام خارج المزرعة، لم يعطني أية إرشادات حول موقع المزرعة. وأخيرًا، وبعد عدد من رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية غير الناجحة، حجزت رحلتي وقررت أن أجد طريقي إلى المزرعة بنفسي.
كنت قد استأجرت سيارة دفع رباعي عن طريق الخطأ وشعرت بالذنب وأنا أركب سيارة ذات خزان يبتلع الوقود إلى مزرعة كان السكان فيها يتجنبون وسائل الراحة الأساسية. ولكن ثبت أن ذلك كان من حسن حظي، فكما هو الحال مع مكان زمار على بعد 20 ميلاً، يتطلب السفر إلى مزرعة تولستوي القيادة على طرق شبه معبدة. واتضح أن العثور على المكان كان أمرًا صعبًا، وهذا هو بالطبع النقطة الأساسية. “لا يعيش هنا إلا من لا يريدون أن يتم العثور عليهم”، كما قال أحد السكان لي.
ولذلك السبب، فإن تقييم مزرعة تولستوي بناء على معاييرها الفاضلة هو أمر غير حكيم؛ فإذا لم تصبح المزرعة مملكة الله على الأرض التي تصورها زمار، فإنها مع ذلك تحولت إلى شيء آخر ذي أهمية، شيء أقل فخامة، نعم، ولكن شيء قيّم رغم ذلك. فهي مكان للأشخاص الذين لا يرغبون في أن يتم العثور عليهم. وكان بعد الموقع أحد أبرز الميزات الجاذبة فيه عندما كان في الماضي يحمي الخارجين عن القانون والمجرمين، أما الآن فإن بعده يجتذب أولئك الذين يطربهم الهروب من تعقيدات العالم وسرعته وغموضه.
“لم تعد مزرعة تولستوي نموذجا يحتذى به، بل أصبحت ملجأ.”
عملت لورا في تلك الحقول لمدة عقدين.ويعيش أكثر من 20 شخصًا في المزرعة، ويجتمعون معًا لتناول وجبة تشارك الأطباق مساء الأحد. وباستثناء ذلك ليس ثمة شيء آخر يجب أن يفعلوه مع بعضهم البعض. وكانوا جميعهم فوضويين، معارضين للحكومة الأمريكية -وأخبرتني لورا أنه “لا يوجد يمينيين”- لكنهم كانوا يتصلون بالشرطة عندما يسيء الجيران التصرف، وهو تناقض أيديولوجي يتم التقليل من شأنه. واتضح أن بعض الناس كانوا يصرون على حرق نفاياتهم وكانت الحطام والأدخنة تتطاير عبر المزرعة. وعندما تمت مواجهتهم، لوحوا بالبندقية. وبعدها تم استدعاء الشرطة. وتقول لورا “نحن فوضويون، صحيح ، ولكن ماذا عسانا أن نفعل؟”.
إنهم لا ينظمون المزرعة حول اللاعنف، التي هي شرط أساسي في مذهب تولستوي. وتقول: “أعتقد أن الناس يجب أن يكون لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم إذا تعرضوا للهجوم”. إن ذلك بعيد كل البعد عن خيال زمار المتمثل في استضافة حاضنة لمجتمع لأتباع تولستوي الذين سيخرجون ويحولون العالم إلى سلام. “إننا لسنا جميعًا منظمين حقاً، نحن مجرد مجموعة من الأفراد لدينا أماكن خاصة بنا، ونعيش حياتنا الخاصة، ونحن نتفاعل إذا أردنا ذلك، ولكن ليس ثمة أية حاجة على الإطلاق”.
تقول لورا إن جميع السكان الحاليين يشتركون في سمة واحدة فقط، إنهم “كلهم موجودون هنا نوعا ما”. وبينما كنا نتحدث، ظهرت امرأة مسنة عبر الطريق وجاءت إلينا. فأخبرتها لورا بأنني مراسل لكن سرعان ما ابتعدت، وقالت إنها لا تريد التحدث عن “كل ما حدث”. يمكن أنها كانت تشير إلى المداهمات المتعلقة بالمخدرات، أو الحرائق، أو الجموح الجنسي، أو أي شيء آخر تمامًا. لقد مرّ أكثر من 50 عامًا وكانت حافلة بالأحداث.
عادت لورا إلى ترددها و وجهتني إلى البوابات الرئيسية للمزرعة، بالقرب من بعض صناديق البريد التي وضعت على سياج مكتوب عليها “مزرعة تولستوي”. فدخلت ووجدت طاولة كان ثمة أناس يتحركون حولها بينما يقومون بفرز الخضراوات. وهناك التقيت بتيم، وهو رجل طويل القامة يتحدث بلطافة ويبلغ من العمر 50 عامًا، وكان ما يزال متشككاً إلى حد ما في نواياي.
تبدو المزرعة مختلفة تمامًا عما تخيلت، إذ إنها شاسعة، وتنتشر الأكواخ فيها على مساحة تبلغ عدة هكتارات. وكانت تبدو أقل شبها بالمجتمعات التعاونية التي تخيلتها إذ كانت أقرب إلى قرية صغيرة. وكان فقط حوالي ثلث الأشخاص الذين يعيشون هنا في الواقع يعملون كمزارعين. أما بقية الأشخاص الذين يتراوح عددهم بين 55 و60 شخصًا يعملون عبر الإنترنت أو في المدينة أو ببساطة لا يعملون. وكان المزارعون يجمعون ثمار عملهم و يقايضونها في سوق سبوكان كل بضعة أسابيع. وكان الدخل القليل الذي كانوا يحصلون عليه كافيا للحفاظ على استمرارية المزرعة.
أعود إلى لورا، التي كانت تحفر مجرى تصريف بالقرب من منزلها -المطر لا يردعها- وتقول بفخر إنها شيدته باستخدام مواد طبيعية موجودة فقط. ففي الشتاء، تتراكم الثلوج، ويجب أن تجرفه حتى لا يتبلل القبو الخاص بها، لذلك وضعت الطين لمنعه من التسرب إلى منزلها.
إنها لا تزال متشككة، إذ تسألني: “هل أنت عميل لمكتب التحقيقات الفيدرالية؟ كيف نعرف أنك كاتب حقيقي؟” (إنها لا تزال تعمل على العثور على إجابة على ذلك السؤال). ولكن سرعان ما تتحمس وتخبرني عن حياتها. هي أيضا وجدت الحب في المزرعة، مع رجل يدعى ماك، الذي كان يعيش في المزرعة وخارجها منذ كان في سن المراهقة، وكان يعرف بأنه أفضل ميكانيكي في الأنحاء. إنها على وشك أن تكون جدة، وهو ما تتطلع إليه.
تقول لورا إنها تحب العمل في المزرعة، “لأنك تحتاج إلى استخدام جسمك أكثر من دماغك.” وتقول لي إنها ليست شخصا اجتماعيا، فإذا أرادت الصحبة، تتحدث إلى ماك أو مع الأصدقاء القريبين في المزرعة. وإلا فإنها تقضي معظم وقتها في العمل بمفردها على منزلها.
إن أحد أهم عوامل الجذب لهذا النوع من الحياة، كما أرى، هو أن عملك مهم للغاية؛ فأنت تعمل من أجل المأوى أو الطعام أو الاحتياجات الأساسية الأخرى. وتضيف العلاقة الوثيقة بين الجهد والنتيجة طابعاً ذا معنى إلى العمل، وهو أمر غائب عن معظم الوظائف في أماكن أخرى. والجميع هنا مفيد ويتم تقدير عملهم؛ فالمجتمع صغير بما فيه الكفاية بحيث لا يمكن للفردية التي يتمتع بها أي أحد الضياع في بحر من من فقدان الهوية. ولا يهم لنا ماضي أي أحد، ولا حتى المستقبل . ولا شيء إضافي، أو يبدو بلا جدوى أو غير طبيعي؛ فقد يكون تأثير حياتك صغيرًا، لكنه ملموس. قد يشعرك ذلك بالوحدة، ولكن يمكن أن تسبب بذلك الحياة الحضرية والضواحي. ولكن على الأقل هنا تشعر بأن الوحدة طبيعية وقديمة وخاصة.
بعد فترة، أصبح المطر غزيرًا، وأخبرتها بأنني سأذهب لسيارتي؛ فاقترحت بدلًا من ذلك أن أقف على شرفتها المحمية بينما تواصل هي الحفر. وأخبرتني عن ماضيها. إذ كانت هي أيضًا من واضعي اليد على أملاك غيرها، “منبوذة” كما تصفها. ثم قررت العيش في مزرعة عضوية وكانت هذه المزرعة هي الأرخص. وتحتفظ بشكوكها حول العالم الخارجي. إذ إنها تشك في الصناعة الطبية وتتجنب رحلة إلى الطبيب لسنوات. وتقول: “إن كونك تتمتع بالصحة وتعيش في بيئة صحية ربما يكون أفضل دواء لك”. وهي تكره نزوعنا نحو تمديد الحياة حتى على حساب الاستقلال والاعتماد على النفس. “عندما تكون على وشك الموت، ويكون قد حان وقت موتك، فإنك تمضي وتموت”.
نشأ أليكس سوكوب في الغالب في أجزاء مختلفة من ولاية بنسلفانيا وعشق الحياة الزراعية أثناء حضوره مدرسة ثانوية كويكر. وكان والداه مهاجرين من أوروبا الوسطى، وكان يقضي الصيف في المزارع في المجر وألمانيا. وبدلا من الذهاب إلى الكلية على الفور، ذهب للتدريب في مزرعة تولستوي في العام 1998؛ فقدمت له الخبرة الزراعية بالإضافة إلى عنصر إيديولوجي جذاب.
كان أليكس شابًا روحانيًا، وبينما كان يعمل هنا، كان يسأل الكون عما ينبغي أن يكون عليه مكانه؛ فكان الجواب الذي حصل عليه هو أنه ينبغي أن يكون مزارعًا، وخطط لقضاء وقت طويل في مزرعة تولستوي، لكنه تحدث أيضًا عن بناء مزرعته الخاصة به وتأسيس عائلة.
عاش أليكس في مزرعة تولستوي في مأوى كان قد بناه بين الأشجار، وكان عبارة عن منصة من دون جدران أو سقف مناسب، وكان دائما ما يحب النوم على الأرضيات. انتقل مع صديقة له في الخمسينيات من عمرها، وهي عضو قديم في مزرعة تولستوي وكان منزلها يفتقر إلى التمديدات الصحية والكهرباء، كما كانت حال جميع المنازل، ولكن كان لديها موقد يعمل بالحطب وغرفة نوم إضافية ومعينا لا ينضب من السخاء؛ فانتقلت أخت أليكس الأكبر سنا، سيلفيا، وهي كاتبة إلى هناك لأيام وساعدت في رعايته، وبعدها لم يعد قادرًا على تدبير نفسه، ثم فقد القدرة على الاستحمام.
لم يكن أليكس خائفا بل ظل يخطط لأشياء مثل حفر قبو تحت الأرض والذي كان مستحيلًا تمامًا لشخص في حالته. حتى أنه لم يكن يكره السرطان؛ فلم ينظر إليها على أنها خلايا غريبة على جسده أو وجوده، وبدلاً من ذلك، كان السرطان جزءًا منه، تمامًا كما كانت ذراعاه أو خلايا دمه الحمراء جزءًا منه، وكان يعتقد أن السرطان كان يتشارك جسمه مع الأجزاء الأخرى منه التي كانت هي أيضا تحتاج إلى التغذية مثله.
لم يكن الأمر يعني أنه كان يريد الموت، بل على العكس تماما. لكنه لم يرغب في العيش من دون حياة.
ولكن سرعان ما نمت أورام أليكس خارج القولون ووصلت إلى كبده. وأخبره الأطباء أنه كان أمامه ثلاثة أسابيع فقط للبقاء على قيد الحياة. وكانت ممرضة إحدى دور العجزة تزوره في المزرعة، وبدأ يأخذ طعامه عن طريق الوريد.
في 14 ديسمبر 2000 ، كان أليكس متعبًا. وفي ساعات الصباح الباكر، شعرت سيلفيا (التي تكتب مذكرات عن أليكس) أنه كان يقترب من النهاية بحلول الفجر؛ فضمته إليها في تلك الدقائق الأخيرة، وكان تحس به وهو في سكرات الموت يصارع أنفاسه الأخيرة ويغادر العالم، على الأرض التي فهمته.
بقلم : جوردان مايكل سميث | ترجمة : زيانة الرقيشي | تدقيق الترجمة : د. علاء الدين الزهران | تدقيق لغوي : محمد الشبراوي | المصدر