التفرّد بشجاعة: إي إي كمنغز عن جرأة الشعور والحياة والفنون

 

” أن تكون كما أنت فريدًا عندما يحاصرك العالم ليلًا نهارًا لتكون كل شيء سواك – يعني أن تحارب في أكثر المعاركة الإنسانية شراسة.”

ماريا بوبوفا


«لا أحد يستطيع أن يبني لك الجسر الذي ستسلكه أنتَ، أنتَ ولا أحد سواك، لعبور نهر الحياة».” يكتب لنا نيتشه في عمر الثلاثين، ويردف الشاعر الأيرلندي شيموس هيني، الحائز على جائزة نوبل بعد قرن كامل من الزمان في محاولة لمواساة الشباب بقوله: ” إن المسار الأوحد والأصدق عبر التجربة وإليها هو أن تكون موقنًا لحقيقة عزلتك وحقيقة معارفك الدفينة ” ضمن خطابه الافتتاحي البديع لجائزة نوبل.

وتخال الأجيال على شاكلتها جميعًا أنها تحارب ضغوطات غير مسبوقة للخضوع ولذا فينبغي عليها -لزامًا- أن تشد العزم في المحاربة أكثر من الجيل الذي سبقها لحماية المعارف الدفينة التي تتأصل منها نزاهة الكيان البشري تجاه ذاته. وينبع جزء من هذا الفكر من نزعة الغرور السلوكية لحضارة أعماها انحيازها الزمني المتمحور حول الحاضر، المتجاهل للنظائر السياقية للماضي. ولكن كما يبدو فإن جزءًا كبيرًا من القرن الماضي ونصفه – مذ زمن نيتشه وخاصةً في الفترة المعاصرة لشيموس هيني – يعكس الظروف التي خلقناها بأنفسنا ولا نزال نتعامل على أساسها تدعيمًا لها في بيئة الحيوية المعلوماتية؛ فقد أنشأنا نظامًا بافلوفيًا من ردود الفعل المتواصلة حيث تجازى أكثر أرائنا بساطة وأكثرها شيوعًا بسخاء، كما تعاقب الأصوات المنشقّة عن القطيع على تغريدها خارج السرب.

إي.كامينغز للمخرج إدوارد ويستون (الصورة مقدمة من مركز التصوير الإبداعي)

ولم يواجه العديد هذه الصرخة العازلة تجاه الذات منذ أن أصدر رالف إمرسون وعظه تحت مسمى “ثق بنفسك” بخلاف إي إي كمنغز (أكتوبر 1894 – سبتمبر 1962) الذي واجهها بشجاعة ودون كلل. ولم يكن كمنغز فنانًا يقع تحت وطأة الجماعة فكان حسب وصف كاتب سيرته الذاتية ” يبغض الخوف وقد عاش حياته في معارضة كل من يستخدمه سلاحًا للتحكم في الغير.

وبعد حوالي الأسبوعين من الذكرى التاسعة والخمسين من ميلاد الشاعر، نشرت إحدى الصحف الصغيرة في ولاية ميشيغان مقالًا طويلًا كتبه كمنغز تحت عنوان ” نصائح لطلبة العلم يقدّمها شاعر”، تنطوي على حكم في الفن والحياة والشجاعة تحث على أن تكون كما أنت. واسترسل الشاعر بما كان مُلهمًا للكاتب والمهندس المعماري بكستر فُلر. ويندرج هذا المقال ضمن الأعمال الكاملة المراجعة لإي إي كمنغز (رابط للأعمال في النطاق العام) التي وصفها كمنغز على أنها “عنقود من الحكم وتسع وأربعون مقالًا في مختلف المواضيع، وقصيدة في هجو الدوغماطيقية ومختلف المقتطفات من أعمال مسرحية لم تكتمل.” والتي قدمت لنا رأي كمنغز حول المعنى الحقيقي لأن تكون فنانًا.

رسم توضيحي من شركة Enormous Smallness بقلم ماثيو بيرجس

ويحاكي كمنغز في خطابه الموجه لكل من يطمح أي يكون شاعرًا – أن تكون شاعرًا بأكثر المعاني البالدوينية الفضفاضة للكلمة ومن أوسع الأبواب التي يلج منها الفنانون وشاهدو العصر البواسل– يحاكي رسائل الشاعرة لورا رايدِنغز إلى فتاة في الثامنة من العمر في دعوة لأن تعيش كما أنت، فيقول:
وإن كلمات كمنغز هنا ما هي إلا من واقعٍ عاشه حيث خاض قبل أربع سنوات أصعب معاركه: عندما استلم الجائزة السنوية – جائزة ماك أرثر للشعر- من الأكاديمية الأمريكية المرموقة للشعراء، انهال عليه وابل من الانتقادات اللاذعة من الوسط الشعري التقليدي الذي أحاطه كرهًا جرّاء اتخاذه نهجًا مغايرًا يكسر التقاليد ولا يحاكي فيه شاعرًا سواه.
ويضيف شاعرنا بمصداقية إبداعية حافظ عليها جهده وأخلاقيات العمل العالية عنده قائلًا:

“أما في شأن التعبير عن مكنونات ذاتك كما هي بالكلمات فإن العمل الجاد والسير أبعد مما يسيرُه من لا يمتلك صفة الشعراء هما السبيل الأقوم؛ وذلك لأن أسهل الأمور هو استخدام كلمات غيرك للتعبير عن نفسك، ونحن مذنبون بفعل هذا على الدوام مما يحول بيننا وبين أن نكون شعراء.
وإن حدث ووجدت نفسك كتبت صدرًا واحدًا لبيت بعد عشر أو خمسة عشر عامًا من القتال والشعور فاعلم أنك محظوظٌ جدًا.
ولذا، فأنصح جميع الشباب الطامح لأن يكون له في الشعر باع أن: تفعل شيئًا سهلا كأن تتعلم كيف تفجّر العالم – إلا إن كان لديك من الرغبة والعزيمة والطواعية الرحبة لأن تشعر وتعمل وتضنى في قتالك حتى تفنى.

صفحة من Enormous Smallness بواسطة ماثيو بيرجس، تكريم مصور لإي.إي كامينغز

أيبدو وقع ذلك كئيبًا؟ كلا، ليس بالكئيب.
هذه هي الحياة الأفضل على هذا الكوكب،
أو على الأقل هكذا يحدّثني شعوري.

 

بقلم: ماريا بوبوفا | ترجمة: سحر عثماني | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر

Exit mobile version