عندما وصل والت ويتمان إلى واشنطن في نهاية عام 1862م للإقامة في المدينة والعمل بوصفه متطوعًا في أحد مستشفياتها، لم يكن حينئذ بناء مقر الكونغرس الأمريكي (الكابيتول) قد اكتمل بعد. وقد وصف ويتمان قبة المقر في نشرة صدرت بتاريخ 4 أكتوبر 1863م لصحيفة نيويورك تايمز بأنها أشبه بـ”قشرة البيض الكبيرة المصنوعة من حديدٍ وزجاج”، وأنها “ما هي إلا فقاعة جميلة، تقف بصمتٍ مهيب شامخة من أعلى تلة كثيفة من الأشجار”. وروى الشاعر مصادفته لتمثال الحرية، بينما كان يطلق العنان لفضوله في الجانب الشرقي من المدينة، والذي لم يُرفَع آنذاك بعد ليتوج قبة الكابيتول كما هو حاله اليوم. وأشار إليه: “لم يعدُ التمثال أشلاءً ممزقة ومبعثرة على الأرض، على عتبة الدور السفلي”. وإذا ما أمعنّا التركيز في وصف ويتمان آنذاك، فهي مجاز لتجسيد الحرية في الدولة “عالقين في الوحل”. بينما كانت الولايات المتحدة غارقة حتى أخمص قدميها في حرب أهلية طاحنة؛ إلا إنها ما تزال مرئية لشاعرنا العظيم ونبي الديمقراطية، مهمةً غير مكتملة لصناعة المشروع الأمريكي.
عندما بدأت الحرب، ورغم الأعوام الصعبة التي عاشها ويتمان واليأس الذي جثم على روحه، إلا أنها لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل منظوره وإيمانه بالديمقراطية، وهو الفضاء الذي سيُتَّخذ بُعدًا ساميًا بعد تلك الأزمة. بالنسبة للشاعر، لم تكن الديمقراطية أقل أشكال الحكومة سوءًا، ولم يكن من السهل اختزالها في سياسة كئيبة ونقاش يطول، لكنها كانت روحًا حية وتحمل مضامين التحول والتجديد. وحتى مع بقاء ما أسماه رئيس الولايات المتحدة الأميركية، إبراهام لينكولن “دائمًا ما يكون الأمل الأخير هو الأفضل للأرض”، تنامى إيمان ويتمان بالأساس الفلسفي والسياسي للأمة.
إذا كانت الحرب تشن صراعًا ضد الليبرالية على جبهات عدة بما في ذلك الاقتصادية والثقافية منها، فإن مجالًا لواحدًا يحظى فيه الاستبداديون بالقوة والسلطة بوضوح وهو مجال التعالي. وقد استطاعت أيديولوجية “الدم والتربة” أن تجذب الكثير من الأفراد نحو معنى أكثر عمقًا؛ إذ بفضلها استطاع الاستبداديون أن يدَّعوا أنهم يقدمون لأممهم (أو على الأقل شريحة من السكان) الوحدة المجتمعية والهدف المشترك. وقد حذر الفيلسوف الألماني والتر بنيامين – أبرز العلامات الفكرية في القرن العشرين وأحد ضحايا الحركة النازية – من أن الفاشية تنطوي على “تجميل السياسة” حيث تمنح السخرية والاستعلاء نوعًا من النشوة لأتباعها. وخير تجسيدٍ على ذلك، مشاهد الحشود الثائرة عبر مر التاريخ، وهم يهتفون ضد “أعداء الشعب”. ورغم كونها مشاهد تفيض بالحقد المسموم، إلا أنها تحاكي ظاهرة الإحياء الديني.
وغالبًا ما يدّعي منتقدو الديموقراطية أنها لا تقدم أي إحساس مماثل بالتسامح. وقد وصف الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه المؤسسات الديمقراطية بأنها أشبه بـ”إجراءات الحجر الصحي” على وباء الرغبات الإنسانية، “وبعدها كذلك فهي مُضجرة”. وإذا كانت الوحدة الفردية للديمقراطية تتجسد عبر الفرد، فإن المجتمعات الاستبدادية تتشوق إلى الإنسان الأعلى ووعد الرجل الخارق بأنه “الوحيد القادر على إنقاذ العالم”. ومع ذلك، أود أن أزعم أن جميع السمات المميزة للديكتاتورية – المظاهرات وحشود الجماهير والاستعراضات العسكرية، وإثارة عواطف الجماهير، والذي يعتد أتباع الديكتاتورية بأنهم بارعون فيه- ما هي إلا صبٌّ للزيت على النار . ما تقدمه الفاشية للجميع ليس السمو ولكن التجاوز الرخيص، تزييف المعنى لا الوصول للحقيقة.
لم تكن الديمقراطية في نظر ويتمان “مملة للغاية” بل نظامًا سياسيًّا يمكنه الوفاء بالوعود التي يدّعي الاستبداديون أنهم قادرون على تحقيقها. بالنسبة للشاعر، لم تكن الديمقراطية مجرد وسيلة لتمرير القوانين أو لتنظيم الحكومة، بل طريقة للسمو في حد ذاتها.
البشر مخلوقات ذات معنى. إن السياسة التي لا تستطيع ترجمة مواقفها إلى نوع من اللغة الفوقية، ومعانٍ أكبر من الفردانية، هي سياسة ستفشل في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن المنظرين السياسيين للديمقراطية يتحدثون بشكل روتيني عن إعلان جيفرسون للاستقلال أو أوراق هاملتون وماديسون الفدرالية، فإن شعر ويتمان بعد نصف قرن استطاع أن يشرح أسس ما وراء الطبيعة للديمقراطية المتعالية. وفي حين نيتشه كان يصب جل تركيزه على أوهام الإنسان الأعلى، كان ويتمان يصدح بأغنية “المتوسط الإلهي”.
في فهم ويتمان للديمقراطية، نحن ملزمون ببعضنا البعض في تجربة كوننا مخلوقات محدودة بأجسام ستموت يومًا ما. يشرح الباحث كيفين جيه هايز أنه في تقدير ويتمان، يجب على الناس أن لا يتوقوا عن “الاحتفاء بشعور الإنسانية داخل ذواتهم”، وأن الفرد لا يمكن له أن يصل للفهم الشخصي العميق إلا من خلال توسيع منظوره الشخصي للأمور من حوله، وخلق شعور الإنسانية بما يكفي ليشمل الجميع باختلافاتهم. إذا يرى الشاعر أن “الزعيم السياسي قد يجلد اتباعه في جنون قبيح ليرسخ لديهم وهم الوحدة والترابط، بينما في الجانب الأخر سيسعى القائد المحب للديمقراطية لتطبيع الوحدة والترابط بين الأفراد الذين قد يكونون مختلفين تمامًا عن بعضهم البعض. يصف هايز ويتمان في “أغنية نفسي” أنها استطاعت أن تأخذ الديموقراطية منحنى آخر “من الفردانية إلى الوطنية” وأخيرًا “إلى العالمية”.
ما تتطلبه الديمقراطية هو المحبة المتبادلة على هذا المأزق المشترك. ما نحتاجه ليس تطبيق السياسة بحذافيرها فحسب؛ بل السمو والرفعة والتآخي والحب. يجب ألا نكون ضد السمو بل ضد الجانب السيئ منه. إذ لا يمكن العثور على المعنى في أيديولوجية “الدم والتربة”؛ ولكن في النسيج القوي الذي يربط كل امرأة ورجل ببعضهما البعض.
واليوم، تُعد الديمقراطية معرضة للخطر؛ ليس بسبب الحرب الأهلية فحسب؛ ولكن بسبب المواطنين الذين مزقتهم الأيديولوجيات المتحاربة. ويرجع ذلك إلى القصة الإجبارية التي أخبرها المستبدون عن الجنسيات والاختلافات بين الأفراد. حيث ينادي السلطوي بأننا نستطيع أن نتحد مع الآخرين ممن يشبهوننا فقط؛ بينما يضمن الديمقراطي الحقيقي أن مثل هذا الاتحاد ممكن مع الجميع بغض النظر عن مواطن نشأتهم واختلاف بشرتهم. في الديمقراطية هناك مصالحة بين الأضداد، وتطوير العامة، والقضاء على تعالي الأفراد لإحلال المساواة بينهم!
في الكتابة عن تمثال الحرية، أشار ويتمان إلى أن القِطع “مفصولة في الوقت الحاضر، تحتاج من يضعها في مكانها. في مبنى الكابيتول، ما يزال الكثير من العمل الذي يجب القيام به “. للأسف في نهاية هذا العام والعقد المضطرب، ما تزال هذه حقيقة لا يجب إغفالها. وفي وسط كل هذه الضغينة الوطنية، حان الوقت لإعادة النظر في احتضان فكر ويتمان المفتوح باعتباره المثل الأعلى للديمقراطية وأن نمتثل بقوله “كل ذرة تنتمي لي هي خير لك” ، بغض النظر عن موطنك الأصلي.
بقلم: إد سايمون | ترجمة: مريم الغافرية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر