رسالة من طوكيو: مارلون براندو وذا رولنج ستونز وبانانا يوشيموتو.

مع صعود نجم جيل جديد من الكُتَّاب اليابانيين وتحقيقهم مبيعات مُبهرة تصل إلى ملايين النسخ للطبعات الخاصة فقط – ناهيك عن الورقية – يسعى الناشرون في مدينتي نيويورك وطوكيو للوصول بالأدب الياباني إلى العالمية ببذل جهود متواصلة ومكثَّفة في هذا الصدد. وقد وظَّفت بعض دور النشر اليابانية مُحررين ثنائيي اللغة من نيويورك ولندن لضمان تقديم العمل بجودة ترجمة ممتازة تُنصف الكاتب الياباني حقه.

ومما لا شك فيه بأن الأدب الياباني قد شق طريقه نحو القارئ الأميركي منذ فترة، ولكن لم يسبق للأميركيين أن رأوا أنفسهم أمام هذا الكَم الهائل من أصناف الأدب الياباني؛ الكتب الرومانسية والملاحم وكتب الغموض والأدب النسوي والروايات التجارية، إلى جانب أدب الجرائم والمحققين الشبيه بالأسلوب الأمريكي.

مع ذلك، ما يزال الوقت مبكرًا نوعًا ما لنستشِف ما إذا كان نجم هؤلاء الكُتَّاب اليابانيين الجُدد سيطغى على المكانة التي احتلها أسلافهم من أمثال كوبو آبي – مؤلف رواية “امرأة في الرمال”، ويوكيو ميشيما صاحب رواية “البحَّار الذي لفظه البحر”، وجونتشيرو تانيزاكي صاحب رواية “الذين يحبون الشوك”، وياسوناري كاواباتا، الروائي الياباني الوحيد الحاصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٦٨) وصاحب روائع شهيرة مثل “بلد الثلوج” و”سرب طيور بيضاء”. وقد لاقت هذه الروايات رواجًا كبيرًا بين القُرَّاء نظرًا للجهود التي بُذلت في ترجمتها، كما تحوَّلت بعضٌ منها إلى أفلام.

وبخلاف المصير الذي ينتظر الجيل الجديد من الروائيين اليابانيين، فإن أعمالهم أضحت محور الحديث، وهي بؤرة للقراءة والترجمة تستقطب الكثير من القُراء حول العالم.

رأت أعمال هاروكي موراكامي (٤٠ عامًا) صاحب الرواية التي حققت نجاحًا كبيرًا، هي “مطاردة خروف بري”، طريقها للترجمة والنشر داخل الولايات المتحدة الأميركية وذلك بروايتيه القصيرتين: “بلاد العجائب القاسية” و”نهاية العالم” في عام ١٩٩١.  وكذلك الحال مع ريو موراكامي (٣٧ عامًا، وبالمصادفة لا يملك صلة قرابة بالروائي السابق) صاحب رواية “زُرقة شبه شفافة”، بترجمة ونشر روايته “عملة خزانة الأطفال” داخل الولايات المتحدة الأميركية في عام ١٩٩١ أيضًا. وتدور نقاشات طويلة وعريضة بين الناشرين في أوروبا وأمريكا للحصول على حقوق ترجمة أعمال كاتبة يابانية ذات ٢٥ عامًا تُدعى بانانا يوشيموتو وروايتها الأولى “مطبخ”، والتي بيعت منها مليون نسخة في اليابان فقط، وفقًا للناشر.

وقد لاقى هذا الجيل الجديد من الكُتَّاب اليابانيين رواجًا منقطع النظير، فالمُحررون يستخدمون مصطلحات من قبيل “حُمّى البانانا” أو “جنون الموراكامي” لوصف النجاح الذي تُلاقيه الروايات الجديدة. والسؤال هُنا: ما المُميَّز في هذه الروايات؟ فحينما أقرأ روايات هؤلاء الكُتَّاب مترجمة إلى الإنجليزية أو أمرُّ بملخصات تروِّج لترجمة قادمة لأعمالهم الجديدة، لا أنفك أشعر بالدهشة والاستغراب من الاختلاف الشاسع بين شخصياتهم وشخصيات الأدب الياباني الكلاسيكي من الماضي القريب. ويتراءى لي بأن هؤلاء الكُتَّاب واقعون تحت تأثير الأحداث السريعة واللغة اللاهثة والمشاهد الحميمية العابرة والتصرفات الباردة التي تتصف بها الروايات الأميركية المعاصرة.

وعلى الرغم من استخدام هؤلاء الكُتّاب للكثير من ملامح الثقافة الأميركية في أعمالهم، إلا أنهم قلقون من سمعتهم في اليابان. حينما زرت هاروكي موراكامي بعد عودته إلى طوكيو من مهمة عمل في روما امتدت إلى ثلاثِ سنوات، أكَّد لي بأنه روائي جاد بالرغم من شعبيته. كان يبدو كأحد شخصيات رواياته، مرتديًا جينزًا وسترةً وحذاءً رياضيًّا وساعةَ معصمٍ تحمل صورة فليكس القط (أشهر شخصية كوميكس في اليابان)، متحدثًا بصوت خفيض تتخلله لكنة طفيفة بين الفينة والأخرى، رافعًا إحدى حاجبيه أحيانًا.

يقول موراكامي: “لم يأخذ الناس في اليابان رواية مطاردة خروف بري بجديَّة. كانت الفكرة المترسخة لديهم بأنني لستُ ماجيمي- أي صادق أو رصين. كُتَّاب من أمثال كوبي وميشيما يعدُّهم الناس صادقين ورصينين بسبب الأشياء التي يكتبون عنها. كما كان بعض الكُتَّاب الأكبر سنًا شخصيات مرموقة في المجتمع الياباني. أُبقي نفسي بمنأى عن عيون العامة لأنني أريد أن أكون حرًّا وأتجوَّل كما أُريد وأركب القطار بدون أن يلاحظني أحد. لا أحب الظهور في التلفاز ولا أذهب إلى حفلات الكُتب ولا أحب الاختلاط بالناس كثيرًا. ما أُحبه هو أن أُسافر برفقة زوجتي وأن أستمع إلى الموسيقى وأن أقرأ الكتب.” يتوقف عن الكلام قليلًا ثم يقول: “ولكنني أعتقد بأنني ماجيمي أيضًا”

رواية “مطاردة خروف بري” هي الثالثة من بين ستِّ روايات ألَّفها موراكامي، وهي روايته الأولى التي تُترجم إلى الإنجليزية (ترجمها الأميركي المترعرع في طوكيو ألفرد برينباوم). تدور أحداث الرواية حول خروف غامض ومتحوِّل يلاحقه بطل الرواية وهو فتى من الطبقة المتوسِّطة والذي بدوره يلاحقه رجال أعمال ذوي نفوذ سياسي. ويستطيع القُراء الذين يبحثون عن الرمزية في الرواية تخيُّل الصراع بين القُوى اليابانية الحديثة ضد القُوى التقليدية القديمة. ولكن السيد موراكامي يقدِّم وصفًا بتشبيه مجازي أميركي بحت: “ملفل وفيتزجرالاد كلاهما واقعان تحت نفس الفكرة: البحث عبثًا عن أمر بعيد المنال”

ترعرع السيد موراكامي في مدينة كوبي الشهيرة بمينائها الدولي، وقد تعلَّم الإنجليزية بقراءة الكتب التي كان يتركها البحَّارة وراءهم. وحينما كان في منتصف مراهقته، بدأ بتقصِّي متاجر كتب مستعملة لشراء نسخ رخيصة من الأدب الأميركي. وأخيرًا، أصبح رجل أعمال يكتب الأدب ويترجمه من الإنجليزية إلى اليابانية. يقول موراكامي: ترجمتُ أعمال تيم أوبرين وجون أيرفنج ورايموند كارفر وتوبياس وولف وبعض القصص القصيرة ل ف.  سكوت فيتزجرالد. أحب الترجمة كثيرًا. حينما أكتبُ رواية في جهاز فوجي ٢ للكتابة من السادسة صباحًا وحتى العاشرة ليلًا، أشعر بأنني أستخدم جزءًا واحدًا من دماغي.” ثم نقر على رأسه بإصبعه وأكمل” وحينما أترجم، أشعر بأنني أستخدم الجزء الآخر من دماغي. تمنحني الترجمة مهربًا من العمل الروتيني. إنها تنقلني إلى مكانٍ آخر وتُهدِّئ  أعصابي”

وبالرغم من أن موراكامي قد درس صناعة الأفلام وكتابة المسرحيات على أمل أن يصبح مخرجًا، إلا أنه يرفض تحويل أي من أعماله إلى فيلم. يقول: “لا أسمح لأيٍ من رواياتي بأن تتحوَّل إلى فيلم. قد طُلب مني مرارًا كتابة سيناريوهات من كتبي ولكنني دائمًا ما أُقابل هذه الطلبات بالرفض. يكفي للكتاب بأن يكون كتابًا، ولا شيء آخر”

في المقابل، يبدو ريو موراكامي كأحد المشاهير ذوي الشعبية الكبيرة في اليابان. ترعرع ريو موراكامي في المدينة الساحلية ساسيبو غرب اليابان، ودرس في كلية الفنون بطوكيو، وسلَّمَ يومًا ما روايته “زُرقة شبه شفافة” لمسابقة تستهدف الكُتَّاب الجُدد أطلقتها مجلة جونزو الأدبية الشهرية. حققت هذه الرواية المليئة بمشاهد العنف والتي تأتي على ذكر أفلام مارلون براندو مرارًا وتسجيلات ذا رولنج ستونز نجاحًا باهرًا وفازت بجائزة أكوتاجاوا الأدبية المرموقة ووصلت بريو للنجومية. وبينما استمر السيد موراكامي في الكتابة، عمل أيضًا مذيعًا في الإذاعة. واستلهم كتابة روايته الأخيرة “فندق رافلز” من سيناريو كتبه عن الفندق البريطاني العتيق والشهير في سنغافورة.

ويُقبل القُراء اليابانيون على القراءة لكاتبات نسويات يتناولن مواضيع نسوية وشخصيات غريبة، ويلاقين رواجًا كبيرًا، إحدى هؤلاء هي بانانا يوشيموتو- والتي تكون ابنة ناقد أدبي شهير. وبالرغم من أن أعمالها بصدد الترجمة ولم تُترجم بعد، إلا أنها تملك ثلاثة ناشرين مختلفين في اليابان. تتحدَّث روايتها “مطبخ” عن فتاة جامعية يتيمة وصداقتها بشخص متحوِّل جنسيًا، وقد حُوِّلَـت  الرواية إلى فيلم ويناقش الناشرون في أميركا وأوروبا إمكانية ترجمتها.

هارومي سيتوشي هي كاتبة يابانية أخرى، تتقصَّى في كتاباتها مواضيع منزلية غير تقليدية، وقد أصدرت رواية “نهاية الصيف” التي تروي سيرتها الذاتية والتي ترجمتها جانين بيشمان وحصلت على جائزة الإجادة الأدبية للنساء في اليابان. تروي القصة حكاية امرأة مُتزوجة تُدعى توموكو ذات ٣٠ عامًا، حينما يعاود الظهور في حياتها حبيبها السابق، ما يدفعها لإعادة التفكير في مسار حياتها العاطفية.

وبالرغم من وجود العديد من الروائيات النسويات اليابانيات، إلا أن ساواكو أريوشي هي الأكثر شعبية من بني جيلها. أقدمت أريوشي على الانتحار قبل بضع سنوات بينما كانت في الخمسينيات من عمرها، ولكنها تركت إرثًا أدبيًا مثيرًا للاهتمام وتُرجِمَت بعض أعمالها. تناولت أعمالها الأدبية التلوّثَ ومشاكل رعاية الكبار في السن في المجتمع المُعاصر والفصل العرقي.

“زوجة الطبيب” هي إحدى روايات أريوشي وترجمتها واكاكو هيروناكا وآن سيلبر كوستانت، وتروي قصة أول طبيب يستئصل سرطان الثدي والتضحيات التي تُقدم عليها زوجته وأمه في منافسة شرسة بينهما للترويج لمهنته. أما روايتها الأخرى “النهر كي” والتي ترجمتها ميلدرد طهارا، تحكي قصة زواج تقليدي يربط بين أسرتين، إحداهما ذات نفوذ وثراء والأخرى متواضعة وبسيطة، على مدى ثلاثة أجيال متعاقبة. وتصف الكاتبة نهر كي قبل الحرب: أخضرَ سارًّا للناظرين، بينما تحول بعد الفترة الصناعية التي تلت الحرب إلى نهر قاتم تحوم حول ضفتيه المداخن وتطفح مياهه بالكيماويات.

وبالرغم من أن ثمة الكثير من الروايات اليابانية الجَادة، إلا أن القُراء اليابانيين يميلون أيضًا إلى الروايات ذات الطابع أو الصنف المُعيَّن، من الرومانسيات المبتذلة إلى الخيال العلمي إلى الروايات التجارية إلى روايات الجرائم والغموض.

وهنالك كتاب ألَّفَهُ تاماي كي بريندل يُدعى “صُنع في اليابان” يضم مجموعة قصصية من سبع قصص قصيرة تغوص في أوجه الثقافة اليابانية وممارسات عالم الأعمال الياباني. تتناول القصة التي يحمل الكتاب اسمها “صُنع في اليابان” والتي ألَّفها سابورو شيروياما الجهود التي يبذلها المُصدِّرون لعولمة المنتجات اليابانية، وتروي قصة “العملاقة والألعاب” من تأليف تاكيشي كايكو قصة امرأة شابة تعمل عارضةً للإعلانات التجارية. يضم الكتاب قصص أخرى مثل “من باريس” لـ ريو تاكاسوجي والتي تكشف التلاعب وسياسات مواعيد العملاء في الشركات اليابانية، بينما تتناول قصة “جيل طفرة المواليد” لـتاييشي ساكايا قضية محاولات الجيل القديم في التأقلم مع الحياة العملية الجديدة.

إن المواضيع التي تتناولها هذه القصص مألوفة جدًا في كلا الضفتين من المحيط الهادئ، إضافةً إلى عنصر الغموض الذي يحبه الجميع، وأحد أهم الروائيين اليابانيين في هذه الفئة هو شيزوكو ناتسوكي صاحب رواية “الرحلة البريئة” والتي ترجمها روبرت بي رونر. تدور حبكة الرواية حول وعد انتحار ثنائي، حيث تدخل امرأة تعاني من الضجر من دراستها في الكلية وعملها نادلة في الحانة في وعد على الموت مع حبيبها صاحب شركة تعاني من الإفلاس. ولكن هذه الخطة تفشل، وبدلًا من الإقدام على الانتحار الثنائي، تقع جريمة قتل ويتعيَّن على أحدهم حل اللغز.

وبالنسبة لليابانيين، فإن أجل كاتب ياباني في فئة الغموض هو سيتشو ماتسوموتو بلا مُنازع، الذي كتب حوالي ٤٥٠ رواية، وألّف بعض كتب التاريخ والأعمال غير الأدبية، والذي فاز بالعديد من الجوائز، من بينها جائزة كُتَّاب الغموض اليابانيين. أحد أشهر أعماله هي قصص “تحريات المُحقق إيمانيشي” (قامت بترجمتها بيث كاري) والتي تحكي مغامرات محقق بوليسي حكيم وضَجِر إلى حدٍ ما، ويمكن للذي لا يعرفه بأن يربط بينه و شخصية المُحقق مايجريت التي ابتدعها الكاتب البلجيكي جورج سيمنون، إذا لم يعلم المرء بأن إيمانيشي شخصية يابانية في الأصل. ولكن المُحقق إيمانيشي لا ينفث حلقات الغليون وهو يتفكَّر في جسد الضحية التي انخلعت بعض أجزائها في سكة قطارات طوكيو. لا. بل يكتب المُحقق إيمانيشي قصائد الهايكو بدلًا من ذلك .


بقلم: هربرت ميتجانج | ترجمة: منال الندابية | تدقيق: عهود المخيني | المصدر

Exit mobile version