عندما حازت رواية “الرجل الخفي”، الرواية الأولى لرالف إليسون، على الجائزة الوطنية للكتاب لعام 1953، نوَّه المؤلف في خطاب قبوله باندهاش وابتهاج بأنه مُنِح الجائزة لما يعتبره “محاولة لكتابة رواية عظيمة”. كان ابتهاجه مفهومًا، وكذلك اندهاشه عندما يقاس ذلك بمقدار الموضوعية التي يُمكن أن يرى بها السيد إليسون أعماله. لقد شعر بأن التعاسة ستخيّم على الأدب في الولايات المتحدة إذ كانت الرواية التي حصدت هذه الجائزة المهمة مجرد “محاولة” بدلاً من كونها إنجازًا.
سيختلف الكثير منا مع تقييم السيد إليسون لعمله. حيث إنها رواية محتدمة وعبقرية وأحياناً جامحة، هذا هو حال النثر الخاضع للرقابة، فكلمات الرواية صِيغَتْ بحَذَرٍ وحرصٍ جليان، بل وشمل ذلك موضوعها: شاب زنجي (أفريقي-أمريكي) يخرج من الجنوب – كما في تقاليد “هياسينث روبنسون في رواية هنري جيمس” و “جوليان سوريل في رواية ستندهل” – ويذهب في مغامرة ليرى الحياة من أوسع أبوابها.
في صيف 1954، سافر السيد إيلسون للخارج لأجل السفر نفسه وإلقاء المحاضرات. كانت باريس المحطة الأخيرة في رحلته حيث اختلط لأسابيع قليلة مع مجموعة من المغتربين الأمريكيين، إذ كانت أعماله معروفة وتحظى باهتمام كبير منهم. وفي اليوم الذي يسبق مغادرته، تحدث معنا عن الفن والرواية في مقهى Café de la Mairie du Vie.
دائمًا ما يأخذ رالف إليسون الفن والرواية معًا على محمل الجَد. وكان لمقهى Café de la Mairie تقليدٌ يُظهر طابع الجدية، حيث كُتبت هنا الرواية المثيرة لجونا بارنز Nightwood نايتوود. هناك أيضًا تقليدٌ آخر نابع من كلام بطل الآنسة بارنز وبلاغته، الدكتور أوكونور الذي غالبًا ما يلفت انتباه حشدٍ من المستمعين بفصاحته الرائعة. لذا يفوح هواء هذا المكان بالجاذبية والبلاغة. وعندما يتحدث السيد إليسون، نادرًا ما يتوقف، وعلى الرغم من أن الجهد الذي يبذله في تنظيم أفكاره واضح أحيانًا، إلا أن تسلسل عباراته وتدفق أفكاره الهادئ، وطريقة تطورها طاغٍ. الاستماع إليه أشبه بالجلوس في الجزء الخلفي من قاعة ضخمة والشعور بأن عيون المحاضر البعيدة تحدق مباشرة في عينيك. له ما للمحاضر من نبرات صوت عالية ولافتة للنظر، تروّعك على الرغم من المسافة بينكما، وثقة بالنفس، وحس فكاهة ودي.
رالف إليسون
دعوني أخبركم حالا، إن روايتي هذه ليست سيرة ذاتية.
أحد المحاورين
ألم تُطرد من المدرسة مثل الصبي الذي في روايتك؟
إليسون
لا، إلا أنني مثلهُ، انتقلتُ من عمل إلى آخر.
أحد المحاورين
لماذا تخليت عن الموسيقى وبدأت في الكتابة؟
إليسون
لم أتخل عن الموسيقى، لكنني أصبحت مهتمًا بالكتابة من خلال القراءة المستمرة. في عام 1935 ، اكتشفت قصيدة “الأرض اليباب” لإليوت، التي حركتني بدورها وأثارت اهتمامي لكنها تحدّت قواي التحليلية – كما هي – وتساءلتُ لماذا لم أقرأ أي شيء يوازيها على الإطلاق من حيث القوة والإحساس لكاتب أمريكي زنجي.
في وقتٍ لاحقٍ، وفي نيويورك تحديدًا قرأت قصيدة لريتشارد رايت، الذي جاء إلى المدينة عقب أسبوع لحسن الحظ، وكان يعمل على تحرير مجلة تسمى “التحدي الجديد” وطلب مني أن أجرب كتابة مراجعة لكتاب “هذه الأراضي المنخفضة” لـ ووترز إدوارد توربين. على إثر هذه المراجعة، اقترح رايت أن أجرب كتابة قصة قصيرة، وقد فعلت ذلك. حاولت فيها استخدام معرفتي عن ارتياد قطارات الشحن، و قد أحبّ القصة كثيرًا بما يكفي لقبولها. ثم استُبعِدتْ نتيجة وجود العديد من المواد لنشرها في العدد، إلا أن المجلة أفلست عقب ذلك بفترة وجيزة.
أحد المحاورين
لكنك مضيت قُدمًا في الكتابة.
إليسون
نعم بصعوبة، فقد كان ذلك إبان أزمة عام 1937. وقتها ذهبت إلى دايتون في أوهايو، حيث قمنا أنا وأخي باصطياد الطرائد وبيعها لكسب لقمة العيش. أمضيتُ لياليَّ في التدرب على الكتابة ودرستُ جويس ودوستويفسكي وستاين وهيمنغواي. خاصةً همنغواي، قرأت له لأنني أردت تعلم تركيبة جمله وكيفية كتابة القصة. أعتقد بأن العديد من الكتاب الشباب فعلوا ذلك، ولكنني أيضًا استخدمت وصفهُ للصيد عندما ذهبت إلى الحقل في اليوم التالي. فأنا أصطاد منذ أن كنت في الحادية عشر من عمري، لكن أحدًا لم يجعلني أتخلى عن طريقتي في اصطياد الطيور، لكن همنجواي فعلها، ومن القراءة له تعلمت كيف استدرج الطيور. عندما يصف همنجواي شيئًا على الورق صدّقهُ… صدّقهُ فحسب حتى عندما يصف عملية الفن من خلال البيسبول أو الملاكمة، فإن وصفهُ في محله.
أحد المحاورين
هل تأثرت بالواقعية الاجتماعية لتلك الفترة؟
إليسون
كنتُ أسعى للتعلم والواقعية الاجتماعية كانت نظرية تحظى بتقدير كبير، على الرغم من أنني لم أفكر كثيرًا في ما يسمى بالأدب البروليتاري حتى عندما كنت أكثر إعجابا بالماركسية. لقد أثار مالرو اهتمامي ( فيلسوف وروائي و مفكر وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي) الذي كان الشيوعيون يطالبون به في ذلك الوقت. غير أنني لاحظت أنه عندما ينظر أبطال رواية “قدر الإنسان” إلى أوضاعهم أو أحوالهم خلال لحظات اشتداد الوعي الذاتي، فإن تفكيرهم كان شيئًا مختلفًا عن التفكير الماركسي . في الواقع كانوا عميقي التفكير أكثر من نظرائهم في الحياة الواقعية. كان مالرو أكثر إنسانيةً من معظم الكتّاب الماركسيين في تلك الفترة بالطبع – كما كان أكثر بكثير من مجرد كونه فنانًا. لقد كان فنانًا ثوريًا وليس سياسيًا عندما كتب “قدر الإنسان” ، ونجح الكتاب ليس بسبب موقف سياسي احتضنه آنذاك وإنما بسبب اهتمامه الأكبر بالمعاناة التراجيدية للبشرية. معظم الواقعيين الاجتماعيين في تلك الفترة كانوا أقل اهتمامًا بالمأساة من اهتمامهم بالظلم. لستُ ولم أكن مهتمًا بالظلم بقدر اهتمامي بالفن.
أحد المحاورين
إذن، أنت تعد روايتك عملاً أدبيًّا محضًا عوضًا عن كونه عملاً لإبداء الاحتجاج الاجتماعي.
إليسون
بحسب طريقة التفكير الحالية، أنا لا أعترف بوجود فرق بين الفن والاحتجاج. إن رواية “مذكرات من العالم السفلي” لـدوستويفسكي من بين أمور عديدة هي عبارة عن احتجاج على قيود العقلانية في القرن التاسع عشر، إلى جانبها هناك رواية “دون كيخوته” و رواية “قدر الإنسان” و مسرحية “أوديب ملكًا” و رواية “المحاكمة” ، كل هذه الأعمال تجسّد الاحتجاج حتى ضد تقييد الحياة البشرية نفسها. إذا كان الاحتجاج الاجتماعي مناقضًا للفن، فماذا نفعل إذن بكل من غويا وديكنز وتوين؟ يسمع المرء الكثير من الشكاوى حول ما يُعرف بروايات الاحتجاج خاصة عندما يكتبها السود، لكن يبدو لي أن النقاد يمكن أن يشتكوا بشكل أكثر دقة من الافتقار إلى الحرفية أو المهنية و النزعة الإقليمية، فهي شكاوى نموذجية لمثل هذه الأعمال.
أحد المحاورين
لكن ألن يكون من الصعب على الكاتب الزنجي الهروب من النزعة الإقليمية عندما يكون أدبهُ معنيًّا بالأقليّة؟
إليسون
جميع الروايات عن أقليات معينة: الفرد أقلية. العالمية في الرواية – أليس هذا ما نطالب به جميعًا في هذه الأيام؟ – يتم الوصول إليها فقط من خلال تصوير الرجل المعني في ظروف معينة.
أحد المحاورين
ولكن مع ذلك، كيف سيهرب الكاتب الزنجي من حاجته الخاصة للاحتجاج الاجتماعي ويصل إلى “العالمية” التي تتحدث عنها، في ظل وجود ما يتوقعهُ منه النقّاد والقرّاء؟
إليسون
إذا كان الكاتب الزنجي أو أيّ كاتب آخر سيفعل ما هو متوقعٌ منه، فقد خسر المعركة قبل أن يدخل الساحة. أظن أن الصراع الذي يحدث أثناء الكتابة جله يُحتمل، لأن الكاتب يتوق بلا شك للقبول، ولكن يجب أن يكون القبول متوافقًا مع معاييره الشخصية. قد يحتمل الأمر الوجهين: ربما يحيط الروائي الزنجي نفسه بسواده بشدة عندما يجلس ليكتب – هذا ما يعتقده النقاد المناهضون للأحداث – ولكن ربما يكون القارئ الأبيض هو من يحيط نفسه ببياضه عندما يجلس للقراءة؛ إذ لا يريد أن يبصر هويته عبر شخصيات زنجية في ظل وضعنا العنصري والاجتماعي الحالي، على الرغم من أن هوية المستوى البشري الأعمق يمكن أن تُصبح مقنعةً عندما يتم الكشف عن الوضع من ناحية فنية. لا يريد القارئ الأبيض الاقتراب أكثر من اللازم، حتى في أنشطة المجتمع المُتخيلة . لقد شعر الكتّاب الزنوج بذلك، وأدى ذلك إلى كثيرٍ من فشلنا.
الكثير من الكتب التي ألفها كتّاب زنوج موجهةً إلى جمهور البيض. من خلال القيام بذلك، يواجه المؤلفون خطر حصر أنفسهم على افتراضات الجمهور حول ما هو عليه الزنجي وما يجب أن يكون عليه، ما تتجه إليه هذه الافتراضات هو الدخول في جدلٍ للدفاع عن إنسانية الزنوج. و كما تعلمون، كثير من الناس البيض يشككون في هذه الإنسانية، لكنني لا أعتقد أن بإمكان الزنوج تحمل الانغماس في مثل هذه القضية الزائفة. بالنسبة لنا ، يجب أن يكون السؤال، ما هي الأشكال المُحدِدة لتلك الإنسانية، وما الذي يستحقُ الأخذ به أو التنازل عنه من خلفيتنا في هذا الموضوع. يمكن العثور على دليل على ذلك في الفولكلور، الذي يقدم الرسومات الأولى لشخصية أي جماعة فهو يحافظ بشكل أساسي على تلك الحالات التي كررت نفسها مرارًا وتكرارًا في تاريخ أي جماعة ويصف الشعائر والأخلاق والعادات وما إلى ذلك، التي تؤمّن الحياة الطيبة أو تدمرها، ويصف حدود الشعور والفكر والعمل التي أوجدتها تلك الجماعة على أنها قيود على حالة الإنسان. إنها تظهر هذه الحكمة في الرموز التي تعبر عن إرادة الجماعة للبقاء؛ إنها تجسد تلك القيم التي تعيش بها هذه الجماعة وتموت. قد تكون هذه الرسومات بدائية، لكنها مع ذلك عميقة من حيث أنها تمثل محاولة الجماعة لإضفاء الطابع الإنساني إلى العالم. ليس من قبيل المصادفة أن يكون أدبًا عظيمًا ناتجًا عن أفراد فنانين، مبنيًا على هذا المبدأ المتواضع. يظهر بطليّ “مذكرات من العالم السفلي” لدوستويفسكي و “المعطف” لنيقولاي غوغول، بأشكالهم البدائية التي تعود إلى الفلكلور الروسي. كما لم يتوقف الأدب الفرنسي أبدًا عن استكشاف طبيعة الشعب الفرنسي أو خذ بيكاسو مثلا…
أحد المحاورين
ما علاقة بيكاسو في كل هذا؟
إليسون
لما لا وهو أعظم مناضل بالنسبة إلى تكوينات وتقنيات من ذكرناهم، كما أنه لم يتخلّ أبدًا عن الأشكال الرمزية القديمة للفن الإسباني: الغيتار و الثور و الخناجر و النساء والشالات و الخمار و المرايا. تخدم مثل هذه الرموز وظيفة مزدوجة: إنها تسمح للفنان بالتحدث عن التجارب المعقدة وإبادة الوقت بخطوط ومنحنيات بسيطة، و تمنح المشاهد اتجاهًا عميقًا، عاطفيًا ومترابطًا في آن ، مما قد يجعل الثقافة الكاملة تتجلى في إيقاعٍ بسيط، على سبيل المثال، في صورة. لقد قيل أنه يمكن لإسكوديرو أن يلخص تاريخ الرقص الإسباني وروحه عن طريق رقصة “أرابيسك” بسيطة بواسطة أصابعه.
أحد المحاورين
لكن هذه أمثلة على ثقافات متجانسة. إلى أي مدى يمثل الفولكلور الزنجي الشعب الأمريكي؟
إليسون
إن تاريخ الزنوج الأمريكيين هو الجزء الأكثر حميمية في التاريخ الأمريكي، ومن خلال عملية العبودية ذاتها قامت الولايات المتحدة. كان الفولكلور الزنجي، الذي تطور في ثقافةٍ أكبر دائمًا ما اعتبرَتهُ في منزلةٍ أدنى، تعبيرًا جريئًا بشكلٍ خاصٍ، وأعلن عن رغبة الزنجي ليثق بتجربته الخاصة، و حساسيته بما يتعلق بتعريف الواقع بدلاً من السماح لأربابه أو أسياده بتعريف هذه الأمور المصيرية له. إن تجربتهُ هي تجربة أمريكا والغرب، وهي تجربةٌ غنيةٌ بقدر ما يمكن للمرء أن يجدها في أي مكان. يُمكننا أن ننظر إلى الفلكلور الزنجي نظرةً ضيقةً كما لو أنه شيئٌ شاذٌّ أو شعبيًٌ أو “وضيعٌ” ، أو قد نعرّف بأنفسنا من خلاله ونعترفُ به على أنه جزء مهم من التجربة الأمريكية الأكبر – ليس كعَلقة في ذيلها و إنما جزءًا لا يتجزأ من نسيجها. لا أستطيع أخذ هذا الموضوع باستخفاف ولا يمكنني أن أتأثر بمن لا يرى أهميته، هذا مهم بالنسبة لي. ثمّة شاهد ساخر على جمال هذا الفن وعالميته، هو حقيقة أن بإمكان الرجال من سلالة مَن استعبدونا أن يغنوا تلك الأغاني الروحانية ويجدوا في غنائها تمجيدًا لإنسانيتهم. ما عليك سوى أن تلقي نظرةً على بعض أغاني العبيد أو المستعبدين و أغاني البلوز – أغاني وأشجان زنجية الأصل – والأغاني أو القصائد القصصية الشعبية، ستجد أن إمكانياتها إيحائية للكاتب بشكل كبير. وبعضها قد تطرقت لحالات إنسانية على نحوٍ جيد، كما أن مجموعة كاملة من الكتّاب لم تستطع التقليل من عالميتها. على سبيل المثال، إليك سطورًا من مقطع شعري لكاتب من الطبقة الكادحة (مستعبد):
العمة دينا المسنة، إنها مثلي تماما
كم عملت بجد لتصبح حرة
لكنها كانت لطيفة
إنها تخاف الذهاب إلى كندا خشية البرد.
العم جاك المسن، الآن هو “زنجي صالح” عظيم
تخبره أنك تريد أن تكون حرًّا
الشيء التالي الذي تعرفه هو أنهم جردوا ظهرك من الجلد.
الآن، العم نيد المسن يريد أن يكون حرًّا
وجد طريقه شمالا بجانب الطحلب على الشجرة
يعبر ذاك النهر عائمًا في أصيص
تمنحهُ الدورية تمسيدًا قويًا قريبًا
إنها بدائية، ولكنها تنمُّ عن ثلاثة مواقف عالمية تجاه مسألة الحرية، يمكنك تنقيحها وتجسيدها في الخفايا النفسية والتاريخية والتلميحات الفلسفية والسلوكية وغيرها، لكنني لا أعتقد أن معناها الأساسي يمكن أن يُستنفد. ربما يمكن لبعض العباقرة فعل ذلك بقدر ما فعل الروائي توماس مان في قصة جوزيف “رواية يوسف وأخوته”.
أحد المحاورين
هل يمكنك أن تعطينا مثالًا على استخدام الفولكلور في روايتك؟
إليسون
حسنًا ، هناك موضوعات ورموز وصور معينة تعتمد على المواد الشعبية. على سبيل المثال، هناك قول مأثور متعارف عليه بين الزنوج: “إذا كنت أسود ابق في الخلف، إذا كنت بنيًا ابق في الجوار، إذا كنت أبيض فأنت على حق”. وهناك مزحة يقولها الزنوج لأنفسهم هي أن كونهم سودًا لا يمكن رؤيتهم في الظلام. في كتابي ، تم دمج هذه الأنواع من الأشياء مع المعاني التي استعرضت الظلام والنور منذ حقبة طويلة في الأساطير الغربية: الشر والخير، الجهل والمعرفة، وهلم جرّا. في روايتي، كان تطور الراوي من خلال انتقاله من الظلام إلى النور، من الجهل إلى التنوير، من الخفاء إلى العلن. لقد غادر الجنوب متجهًا نحو الغرب، هذا هو ، كما ستلاحظ عند قراءة الحكايات الشعبية الزنجية، دائمًا الطريق إلى الحرية – الانتقال إلى مستوى أعلى. ستجد نفس الشيء مرة أخرى عندما يغادر كهفه تحت الأرض إلى العراء.
لقد استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً لتعلم كيفية تسخير مثل هذه الأمثلة من الأساطير في عملي، بالإضافة إلى الطقوس. إن استخدام الطقوس هو أيضًا جزء حيوي من العملية الإبداعية. لقد تعلمت بعض الأشياء من إليوت و جويس و همنغواي ولكن ليس كيفية تكييفها في أعمالي. عندما بدأت الكتابة، كنت أعلم أن الأسطورة والطقوس القديمة في كل من قصيدة “الأرض اليباب” و رواية “يوليسيس” ، قد أُستخدِمت لإعطاء شكل وأهمية للعمل، لكنني قضيت بضع سنوات لأدرك أنه يمكننا استخدام الأساطير والطقوس التي تلعب دورًا في حياتنا اليومية بنفس الطريقة. في محاولتي الأولى لكتابة رواية، والتي لم أتمكن من إكمالها، بدأت بمحاولة التلاعب بالوحدات البنائية البسيطة لمقدمة الرواية ومتنها وخاتمتها، ولكن عندما حاولت التعامل مع الطبقات النفسية -الصور والرموز والتكوينات العاطفية- للتجربة القائمة، اكتشفتُ أن الوحدات كانت ببساطة نقاط استقرار هادئة والتي يمكن عندها أن يتوقف الخط السردي. وعلى ما يبدو أنه تحت سطح العلاقات الإنسانية العقلانية هناك فوضى عارمة كنت عاجزًا قبلها عن إظهارها. يقوم الناس بتبرير كل ما يتجنبون أو ما هم غير قادرين على التعامل معه، فتصبح الخرافات والتبريرات أو التسويغات طقوسًا لأنها تحكم السلوك. وتصبح الطقوس مظاهر اجتماعية، وإحدى وظائف الفنان هي التعرف على هذه المظاهر والرقي بها إلى مستوى الفن.
لا أعلم إن كنت قد قدمت الإجابة الوافية أم لا، لكن دعونا نضعها على هذا النحو: في فقرة “باتل رويال – معركة ملكية ” في روايتي، كان هناك الصبية معصوبي الأعين الذين اضطروا لقتال بعضهم البعض في سبيل تسلية المشاهدين البيض. هذا جزء حيوي من نمط السلوك في الجنوب، والذي يقبله الزنوج والبيض بلا تفكير. إنها طقوس تُمارس في سبيل الحفاظ على حدود الطبقات الاجتماعية، والحفاظ على المحرمات لإرضاء الآلهة و درء سوء الحظ. إنها أيضا طقوس الاستهلال التي يخضع لها الوافدين الجدد. توضح هذه الفقرة من الرواية ما سيرى الزنوج أنني لم أكن لألفقه، فقد كانت هذه الأنماط موجودة بالفعل في المجتمع، لذا كل ما كان علي فعله هو تقديمها في سياق أوسع للمعنى. هناك العديد من الطقوس لكل ظرفٍ أو وضعٍ في أي مجتمع، وقد تكون بسيطة أو مفصلة، لكنها بمثابة النسيج الرابط بين العمل الفني والجمهور.
أحد المحاورين
هل تعتقد أن قارئًا غير مطلعٍ على هذا الفولكلور يمكنهُ فهم عملك بشكل صحيح؟
إليسون
نعم أعتقد ذلك. إنه مثل موسيقى الجاز، حيث لا توجد مشكلة متأصلة فيها تمنع الفهم وإنما الافتراضات التي جُلبت لها هي التي حالت دون فهمها. نحن لا نتعمق في أعمال شكسبير بالطريقة نفسها ولا حتى في حكاية “ذات الرداء الأحمر” . في نهاية المطاف يعتمد فهم الفن على استعداد المرء لتوسيع إنسانيته ومعرفته بالحياة البشرية. وبالمناسبة، لاحظتُ أن الألمان الذين ليس لديهم افتراضات طبقية خاصة بشأن الزنوج الأمريكيين، قد تعاملوا مع عملي كرواية ببساطة. أعتقدُ أن الأمريكيين سينظرون لها بهذه الطريقة خلال عشرين عامًا قادمًا – إذا بقيت لذلك الوقت.
أحد المحاورين
ألا تعتقد بأنها ستبقى؟
إليسون
أشك في ذلك. إنها ليست رواية مهمة، لقد أخفقتُ في استخدام البلاغة وكان بها العديد من القضايا المستعجلة التي تلاشت تدريجيًا. إلا أنها إذا بقيتْ ، فسيكون ذلك ببساطة لأن هناك أشياء تجري في عمقها ذات أهمية مستديمة أكثر مما يدور في سطحها. آملُ أن تبقى على أيّة حال.
أحد المحاورين
هل قدّم لك النقّاد أي مساعدة بنّاءة في كتاباتك؟ أو هل تغيرت أهدافك في الرواية بأية طريقة؟
إليسون
لا، باستثناء أن لدي فكرة أفضل حول ردة فعل النقاد، وعن ما يرونه وما يخفقون في رؤيته، وكيف يختلف إحساسهم بالحياة عن إحساسي، والعكس. في بعض الحالات كانوا لطيفين لأسباب خاطئة. بعض النقاد الأدبيين في الولايات المتحدة – ولا أريد أن يبدو هذا اعتذارًا عن إخفاقاتي الشخصية – لم يروا ما كُتب قبلهم بسبب الكلام غير المُجدي حول الاعتراض أو الاحتجاج.
أحد المحاورين
هل غيّر النقّاد وجهة نظرك عن نفسك ككاتب؟
إليسون
لا أستطيع أن أقول إنهم فعلوا. كنتُ أتطلعُ إلى ذلك لفترة طويلة. نعم، لقد منحني النقاد إحساسًا واضحًا بوجود جمهور أكبر، واقنعني البعض إنهم كانوا على استعدادٍ للحكم عليّ من حيث كتابتي وليس من منظور هويتي العرقية. ولكن هناك ناقدٌ انتشرت أقواله على نطاق واسع وهو الذي أحدث فوضى ليبرالية خلال الثلاثينيات و منذ ذلك الحين وهو مذعور. لقد هاجم كتابي باعتباره “أعمال شغب عرقية أدبية”. على العموم، لقد منحني كلٌ من النقاد والقراء شعورًا أكيدًا بهويتي ككاتب، قد تعرف هذا الشيء في نفسك، ولكن أن يُؤكِد عليه الآخرين له أهمية قصوى. في نهاية المطاف، الكتابة هي شكلٌ من أشكال التواصل.
أحد المحاورين
متى بدأت كتابة “الرجل الخفي”؟
إليسون
في صيف عام 1945، كنت قد عدتُ من عطلة على البحر وكنتُ مريضًا، وتم توصيتي بالحصول على قسطٍ من الراحة. يعود سبب من أسباب مرضي بلا شك إلى حقيقة أنني لم أتمكن من كتابة رواية تلقيتُ لها زمالة روزنوالد في الشتاء الماضي. وبينما كنتُ في مزرعة في فيرمونت، حيث كنتُ أقرأ كتاب “البطل” لراغلان وأتفكر في طبيعة القيادة الزنجية في الولايات المتحدة، كتبتُ الفقرة الأولى من “الرجل الخفي” وسرعان ما وجدتُ نفسي في نضالٍ لإنشاء الرواية.
أحد المحاورين
كم استغرقت منك الرواية لكتابتها؟
إليسون
خمس سنوات مع سنة واحدة كتبتُ فيها رواية قصيرة، والتي لم تكن مرضية، وغير مفهومة كذلك ولم تقدم للنشر مطلقًا.
أحد المحاورين
هل فكرت في كل شيء قبل أن تبدأ في كتابة “الرجل الخفي”؟
إليسون
كنت أعرف الرموز وما ترتبط به، لقد بدأتها بمخطط مكون من ثلاثة أقسام. لقد كانت إطارًا مفاهيميًا تعبر عنه معظم الأفكار وبعض الحوادث. تمثل الأجزاء الثلاثة حركة الراوي من الغاية، باستخدام مصطلحات كينيث بورك، إلى الشغف إلى الإدراك. هذه الأقسام الرئيسية الثلاثة مبنية من وحدات أصغر من أجزاء ثلاثة تُحدد مسار العمل، والتي تعتمد في تطورها على ما كنت أتمنى أن يكون دافعًا ثابتًا ومتطورًا. ومع ذلك، ستلاحظ أنه لم يتم الوصول إلى الحد الأقصى من الرؤية من جانب البطل حتى القسم الأخير. بعد كل شيء، إنها رواية عن البراءة والخطأ البشري، و صراع بين الوهم والواقع. كل قسم يبدأ بصفحة تحتوي على تعريف لهويته،أو الدور الاجتماعي الذي يلعبه على النحو المحدد له من قبل الآخرين.
لكن الجميع يقولون الشيء نفسه: “واصل في جعل هذا الفتى الزنجي يسير” . فهو قبل أن يمتلك صوتًا في مصيره، كان عليه أن يتجاهل هذه الهويات والأوهام القديمة، لأن تنويره أو تثقيفه لا يمكن أن يأتي حتى ذلك الحين. كان عليه، بمجرد أن يدرك فجوة الظلام التي وضعتها له هذه الأوراق، أن يحرقها. هذه هي الخطة والنية، تحقيقي لها من عدمه، هو شيء آخر.
أحد المحاورين
هل معنى كلامك أن البحث عن الهوية هو في الأصل موضوع أمريكي؟
إليسون
إنه الموضوع الأمريكي الأساس. حيث إن طبيعة مجتمعنا هي التي تمنعنا من معرفة من نحن. إنه لا يزال مجتمعًا حديثًا، وهذا جزء لا يتجزأ من تطوره.
أحد المحاورين
أحد الانتقادات الشائعة للروايات الأولى هو أن الحدث المحوري إما أنه مهمل أو ضعيف. يبدو أن “الرجل الخفي” تعاني من هذا فعلا. ألا يجب أن نكون حاضرين في المشاهد التي تعد الخطوط الفاصلة في الكتاب – أي عندما تُحرك منظمة “برذرهود – الأخوة ” الراوي في وسط المدينة، ثم تعود به إلى الجزء الأعلى من المدينة؟
إليسون
أعتقد أنك أخطأت الفهم هنا. العيب الرئيسي في شخصية البطل هو رغبته التي لا تقبل الشك في القيام بما هو مطلوب منه من قبل الآخرين كوسيلة للنجاح، وكان هذا هو الشكل المحدد لـ “براءته” . يذهب حيث يقال له أن يذهب، يفعل ما يقال له أن يفعله، حتى أنه لم يختر اسمه “برذرهود” – نسبةً للمنظمة – بل اُختير له وقبِل به. لقد قبِل نظام الحزب وبالتالي لا يمكن أن يكون حاضرًا في المشهد ما لم يرغب قادة منظمة “الأخوة” بذلك. ما هو مهم ليس المشهد بل فشلهِ في التشكيك في صحة قرارهم. هناك أيضًا حقيقة تقول أنه لا يمكن لشخص واحد أن يكون في كل مكان في وقت واحد، ولا يمكن لوعي واحد أن يكون مدركًا لجميع الفروق الدقيقة في عمل اجتماعي كبير. ما يحدث في الجزء العلوي من المدينة بينما هو في وسط المدينة هو جزء من ظلامه، بشقيه الرمزي والفعلي. لذا كلا، لا أشعر أنه تم تجاهل أي مشاهد حيوية.
أحد المحاورين
لماذا وجدت من الضروري تغيير أنماط العرض في الكتاب، لا سيما في المقدمة والخاتمة؟
إليسون
لقد كُتبت المقدمة لاحقًا حقًا – من سياق التحول في وجهة نظر البطل. كنتُ أرغبُ في إبعاد القارئ عن التوازن، أردت جعله يقبل بعض التأثيرات غير الطبيعية. لقد كانت مذكرات مكتوبة تحت الأرض بحق، وأردت التنبؤ بما كنت آمل من خلاله أن يرى القارئ الأحداث التي جرت في الجزء الرئيسي من الكتاب. من ناحية أخرى، أنماط الحياة المقدَمة مختلفة. في الجنوب، حيث كان يحاول التكيف مع نمطٍ تقليديٍ وحيث لم يُتَحَدَّ إحساسه بالقناعة، شعرتُ أن المعاملة الواقعيةً كانت كافية.
إن خطاب أمين الكلية للطلاب هو في الواقع صدى لنوع معين من البلاغة الجنوبية واستمتعت بمحاولة إعادة إحيائه. انتقال البطل من الجنوب إلى الشمال كان يعني الانتقال من نمط الحياة المستقر نسبيًا إلى النمط المتغير سريعًا، فقد إحساسه باليقين أو القناعة وأصبح الأسلوب عاطفيًا. في وقت لاحق خلال خروجه من النعيم في منظمة “الأخوة” أصبح الأمر سرياليًا. تحاول الأنماط التعبيرعن كلًا من حالة وعيه وحالة المجتمع. بالنسبة للخاتمة، فقد كانت ضرورية لإكمال الأحداث التي بدأت عندما شرع في كتابة مذكراته.
أحد المحاورين
بعد كتابة أربعمائة صفحة، مازلت تشعر بأن الخاتمة كانت ضرورية؟
إليسون
نعم. لننظر إلى الأمر بهذه الطريقة، الكتاب عبارة عن سلسلة من الانعكاسات تعكس صورة الفنان الذي يصرخ لإحداث تغيير وهكذا باستخدام وسائل التعبير المختلفة. في الخاتمة يكتشف البطل ما لم يكتشفه في صفحات الكتاب السابقة: عليك أن تتخذ قراراتك الخاصة و أن تفكر بنفسك. البطل يأتي من تحت الأرض لأن فعل الكتابة والتفكير توجب ذلك، لم يستطع البقاء هناك أكثر.
أحد المحاورين
تقول إن الكتاب هو “سلسلة من الانعكاسات” ، لكن يبدو لنا أن هذا كان نقطة ضعف. إذ يتضح أنها بُنيت على سلسلة من المواقف المحرّضة التي أُلغِيتْ من خلال استحضار العواطف التقليدية.
إليسون
لا أفهم ما ترمي إليه.
أحد المحاورين
حسنًا سأوضح بهذا الشكل، لسببٍ ما بدأتَ بوضع محرّض لحال الأفارقة الأمريكيين في المجتمع، وأن المواطن الأمريكي الأبيض هو المسؤول عن ذلك. وهنا تكمن المعضلة. ثم تلغي ذلك بتقديم الحزب الشيوعي أو منظمة “الأخوة” مما يجعل القارئ يقول: آه، إنهم المذنبون حقا. ولكن في الأصل هُم من كان يسيئ معاملته (أي الحزب الشيوعي ومنظمة الإخوة) ، وليس نحنُ (الأمريكان البيض).
إليسون
أعتقد أن هذا بسبب القراءة الخاطئة، إذ أنني لم أعرّف “الأخوة” على أنهم حزب الشعب، ولكن بما أنك فعلت ذلك، فسوف أذكرك بأنهم من البيض أيضًا. إن تخفّي البطل ليست مسألة أن يكون مرئيًا، والتي تنطوي على الشعور بارتكاب ذنب، وإنما هي مسألة تنم عن رفضه المجازفة بإنسانيته. هذا ليس هجوما على المجتمع الأبيض! هذا ما يرفض البطل القيام به في كل قسم مما يقود إلى المزيد من الأحداث. كان يتوجب عليه تأكيد وتحقيق إنسانيته، ما كان يمكنهُ الركض مع الجماعة والقيام بذلك، وهذا هو سبب كل الانعكاسات. لذا فإن الخاتمة كانت الانعكاس النهائي لكل الأحداث ومن ثم هي تأكيدٌ ضروري.
أحد المحاورين
ماذا عن علاقات الحُب أو أشباه العلاقات؟
إليسون
أنا سعيد لأنك صغتها بهذه الطريقة. الأمر هو أن البطل عندما يجد نفسه في وضع يعتقد أنه يريده، يجد نفسه في حيرة وضياع ولا يعرف كيف له أن يتصرف. على سبيل المثال، بعد أن ألقى خطابًا عن مكانة المرأة في مجتمعنا، اقتربت منه إحدى النساء من الحضور، ظن أنها تريد التحدث عن منظمة “الإخوة”، فوجد أنها تريد التحدث عن الأخوة والأخوات. أنظر، ألم تجد الكتاب مضحكًا على الإطلاق؟ شعرتُ أن رجلاً بهذه المواصفات الشخصية غير قادر على عيش علاقة حب، فهذا من الممكن أن يتعارض مع شخصيته.
أحد المحاورين
هل تجد صعوبة في التحكم في شخصيات روايتك؟ يقول إدوارد مورغان فورستر إنه في بعض الأحيان يجد شخصيةً ما تهربُ معه.
إليسون
لا، لأنني أجدُ أن الإحساس بهيكل البناء الخيالي يساعد في توجيه خلق الشخصيات. ما يفرُق هو الحدث، نحنُ عبارة عن ما نفعله وما لا نفعله. المشكلة بالنسبة لي هي الانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب إلى النقطة ج. فقد أطال قلقي بشأن التحولات إلى حدٍّ كبيرٍ من فترة كتابة كتابي. يلتزم علماء الطبيعة بتاريخ الحالة وعلم الاجتماع وهم على استعداد للتنافس مع الكاميرا وآلة التسجيل، بينما أنا لا أحب التقيد في الكتابة، ولكن عندما يكون الواقع مشوشًا في الأدب، يجب على المرء أن يقلق بشأن توضيح ذلك التشوش.
أحد المحاورين
هل تجد صعوبة في تحويل الشخصيات الحقيقية إلى شخصيات خيالية؟
إليسون
الشخصيات الحقيقية هي مجرد قيود. الأمر أشبه بتحويل حياتك إلى قصة خيالية: لا بدّ أن يعيقك التسلسل الزمني والحقائق. هناك عدد من الشخصيات التي غادرت الرواية سريعًا مثل ” راينهارت” و”راس”.
أحد المحاورين
أليست شخصية “راس” مبنيّة على شخصية “ماركوس غارفي”؟ (شخصية قومية برزت خلال القرن العشرين)
إليسون
لا. في عام 1950 ، كنتُ وزوجتي نقيمُ في مكانٍ ما لقضاء عطلةِ حيث التقينا حينها ببعض الليبراليين البيض الذين اعتقدوا أن أفضل طريقة ليكونوا وديين هي أن يخبرونا عن ما يعني أن تكون زنجيًا. لقد فقدت صوابي لسماع ذلك من أناس بدوا بخلاف ذلك أذكياء للغاية. كنت قد خططتُ لشخصية “راس” بالفعل، لكن شغف تصريحه ظهر بعد أن صعدتُ الطابق العلوي في تلك الليلة مليئًا بشعور أننا بحاجة إلى الحصول على هذا التصريح مرة واحدة وإلى الأبد وعليّ القيام به، ثم يمكننا العيش بعد ذلك مثل الناس والأفراد. أي لا توجد إشارة مقصودة إلى غارفي.
أحد المحاورين
ماذا عن شخصية “راينهارت”؟ هل هي مرتبطة أو متعلقة بـ “راينهارت في تقاليد البلوز” (موسيقى تقليدية أفريقية أمريكية) أم بـ “جانغو راينهارت” موسيقيّ الجاز؟
إليسون
هناك مجموعة غريبة من الظروف المرتبطة باختياري لهذا الاسم. اعتاد صديقي القديم في أوكلاهوما، جيمي راشينغ، مغني البلوز، على غناء:
راينهارت.. راينهارت
إنه مهجور جدًا
هنا في بيكون هيل.
مما دفعني من باب المصادفة، وبينما كنت أفكر في شخصية بارعة في التنكر، إلى اختيار هذا الاسم الذي خطر بذهني بتلميحاته الظاهرة والباطنة. علمت لاحقًا أنها نداء استخدمه طلاب جامعة هارفارد عندما استعدوا لأعمال الشغب، إنها دعوة للفوضى. المثير في الأمر أنه لم يمضِ وقت طويل بعد ظهور راينهارت في روايتي حتى اندلعت أعمال الشغب في هارلم. فأصبح اسم راينهارات الذي وضعتهُ، تجسيدًا للفوضى. كما أن هذه الشخصية تسعى إلى تمثيل أمريكا والتغيير، لقد عاش فترة طويلة مع الفوضى لدرجة أنه يعرف كيف يتلاعب بها، حيث كانت الموضوع القديم لكتاب “رجل الثقة”. إنهُ رمزٌ في بلدٍ ليس له ماضٍ عريق أو خطوط طبقية ثابتة، لذلك فهو قادر على الانتقال بسهولة من بلد إلى آخر.
أتعلم، ما زلتُ أفكر في سؤالك حول استخدام تجربة الزنوج كمادة للأدب. إن إحدى وظائف الأدب الجاد هي التعامل مع الجوهر الأخلاقي لمجتمع معين. حسنا، في الولايات المتحدة دائمًا ما يمتثل الرجل الزنجي بمكانته لهذا القلق الأخلاقي، فهو يرمز من بين أمور أخرى إلى إمكانية المساواة البشرية والاجتماعية. هذا هو السؤال الأخلاقي الذي أثير في أعظم روايتين في القرن التاسع عشر “موبي ديك” و”هكلبيري فين”. يدور محور كتاب مارك توين ” هكلبيري فين” حول علاقات الصبي مع نيجر جيم وسؤال عمّا يجب أن يفعله هوك لتحرير جيم بعد أن باعه المنحطّون. هناك سحر يستدعي الاستحضار هنا. وهذا يصل إلى عصب الوعي الأمريكي، فلماذا أتنازل عنه؟ واصطفّت ما تسمى مشكلة العِرق لدينا الآن مع مشاكل العالم منها الاستعمار و نضال الغرب لكسب ولاء ما تبقى من غير البيض الذين بقوا خارج المجال الشيوعي حتى الآن، مما جعل إمكانياته التي يقدمها للفن تزيد بدلاً من أن تقل.
بالنظر إلى الروائي كمعالجٍ وممثلٍ للمشكلات الأخلاقية، أسأل نفسي ما مدى تأثر تحقيق المُثل الديمقراطية في الولايات المتحدة بالضغط المستمر من قبل الزنوج وهؤلاء البيض الذين كانوا حساسين لتداعيات أوضاعنا، وأنا أعلمُ أنه بدون هذا الضغط سيكون موقف بلادنا أمام العالم أكثر خطورةً مما هو عليه الآن.
هنا جزء من الديناميات الاجتماعية (مجموعة قوانين وقوى وظواهر التغيير في المجتمع) لمجتمع عظيم. ربما يأتي الانزعاج من الاحتجاج في كتبٍ من تأليف الزنوج بسبب تجنب الأدب الأمريكي البحث الأخلاقي العميق منذ القرن التاسع عشر. كان الأمر مؤلمًا للغاية، بالإضافة إلى وجود مشاكل محددة في اللغة والشكل يمكن للكّتاب أن يخاطبوا أنفسهم بها. لقد قاموا بأشياء رائعة، ولكن ربما تركوا المشاكل الحقيقية على حالها دون تغيير. يوجد استثناءات بالطبع، مثل فوكنر الذي عمل في الموضوع الأخلاقي العظيم طوال الوقت، إذ بدأ من حيث توقف مارك توين.
أشعر أنه مع قراري بتكريس نفسي للرواية، تحملتُ إحدى المسؤوليات التي ورثها أولئك الذين يمارسون الحِرف في الولايات المتحدة: هذا يصف كل جزء من هذه التجربة الأمريكية المتنوعة الضخمة التي أعرفها على أفضل وجه، والتي تتيح لي إمكانية المساهمة ليس فقط في ازدهار الأدب ولكن أيضًا في تشكيل الثقافة كما أريد لها أن تكون. وهذا بدوره يقودنا إلى معنى الرواية الأمريكية في هذا السياق، إنها غزو الحدود، فهي كما تصف تجاربنا، تخلقها كذلك.
بقلم: ألفرد تشستر وڤيلما هاورد | ترجمة: موزة الريامية | تدقيق: آلاء الراشدية | المصدر