“في وسط هذه الفوضى العارمة والكم من التناقضات، نكتشف بأننا لسنا ملائكة ولا آلهة”.
افتُتِحت احتفالية “الكون في شطر قصيدة” السنوية الثانية، والتي تحتفي بالعلوم عبر الشعر وإعلاء صوت المقاومة ضد الاعتداءات على الطبيعة، بقصيدة “الحقيقة الجريئة الصامتة” لمايا أنجلو (1928-2014) التي نُقلت إلى الفضاء على متن المركبة الفضائية أوريون؛ وكرستها “لأمنية السلام القابعة في قلب كلٍ منا”.
وقع اختياري على هذه القصيدة لإضفاء طابع مميز على حديثي اليوم، كما أنها ترتبط بلحظتنا الثقافية هذه، ولأنه حينما قرأت هذه القصيدة لأول مرة لفت انتباهي الطرق الخفية التي يُلهم فيها الشعر والعلوم أحدهما الآخر، وطرق تداخل الخيوط الذهبية بين العاطفة والفكر وتقاطعها بعضها البعض لتنسج ما نُسميه “الثقافة”.
كتبت مايا أنجلو هذه القصيدة في الذكرى السنوية الخمسين للأمم المتحدة في عام 1995. وفي عام 1994، ألقى الفلكي كارل ساغان خطابًا جميلًا في جامعة كورنيل، مستوحى من الصورة التاريخية التي التقطها المسبار الفضائي ڤوياجر1 لكوكب الأرضي. وهي المرة الأولى التي شوهد فيها الكوكب من خارج النظام الشمسي، والتي أصبحت صورة أيقونية التقطها ڤوياجر1 بإلحاحٍ من الفلكي والمؤلف كارل ساجان قبل إغلاق الكاميرات فور إكمال مهمة تصوير الكواكب الخارجية.
وفي وصفه لما التقطه ڤويجر في تلك الصورة غير الواضحة للفضاء الخالي، وصف ساغان الأرض وكأنها “نقطة زرقاء باهتة” وأصبح هذا الوصف عنوانًا للصورة نفسها ولكتابه الأكثر مبيعًا والذي نشر لاحقًأ في نفس العام وكتب فيه: ” كلُّ من تحبْ، كل من تعرف، كل شخصٍ سمعت عنه، كلُّ كائنٍ بشريٍ وُجد طوال التاريخ. كلُّهم عاشوا حياتهم على ذرةٍ من غبار، عالقةٍ في شعاعٍ شمسي.
وقد حظت هذه القصيدة بصدى واسع بين الناس وتغلغلت في ثقافتهم وخيالهم لأشهر تلت نشر الكتاب؛ الأشهر التي كانت تكتب فيها أنجلو قصيدتها هذه.
ومثل جميع الشعراء العظماء كانت أنجلو دقيقة في اختيارها لكلمات القصيدة، حيث أن اختيارها لكلمة “mote” (مثقال ذرة) اختيارًا غريبًا خاصة أنه في سياق كوني، وأعتقد أن استخدامها لـ ” ذرة غبار” في المقاطع النهائية ما هو إلا إشادة لما قاله ساجان ورسالة ڤوياجر، حول موقعنا في النظام الكوني وبأنه لا ينفصل عن الطبيعة أو يفوقها وإنما هو جزء صغير منها بحجم الپكسل وبأجزاء متساوية من التواضع والإحساس بالمسؤولية.
تقرأ القصيدة في احتفالية “الكون في شطر قصيدة” العالمة الفيزيائية والفلكية جانا ليڤين وهي عضو أيضًأ في مجموعة من العلماء، منهم ساجان، الذين يكتبون عن العلم بقدرة شعرية استثنائية، استمع للمقطع واستمتع:
الحقيقة الجريئة الصامتة
نحن، سكان هذا الكوكب الصغير المنعزل
نسافر في فضاء لا متناه
أبعدَ من النجوم
في طريق محاطة بالشموس
إلى وجهة تشير إليها كل العلامات
وتخبرنا بأن الوصول إلى الحقيقة الجريئة الصادمة
أمر محتوم
…………….
عندما نصل إليها….
إلى يوم إرساء السلام
عندما نحرر أصابعنا من قبضاتِ الحقد ونتيح للنسيم العليل تقبيل راحاتنا
عندما نصُل إليها
عندما نسدل الستارة على مسرح الكراهية
ونمسح الوجوه الملطخة بالغضب
عندما لا يجتمع أبناؤنا الطيبون
في ساحات القتال
فوق العشب المسحوق المدمى
ليموتوا في قبرينِ متجاورين
في أرضٍ بعيدة
عندما نوقفُ
جشع المؤسسة الدينية الغاضب وابتزاز رجال الدين الصارخ
عندما تلوح الرايات بسرورٍ
وترفرف الأعلام بشجاعة
في النسيم العليل النقي
عندما نصل إليها….
عندنا تتساقط الأسلحة عن اكتافنا
وتحوك الطفلة ثوباً لدميتها
عندما ننزع الألغام من الأرضِ
ليتنزه العجائز في مساءات السلام
عندما لا نُعطر صلواتِنا
ببخور اللحم المحترق
ولا نطرد أحلام الأطفالِ
بكوابيس الظلام
عندما نصل إليها…
عندما نعترفُ بأن:
لا الأهرامات بكمالها المُعجِز
ولا حدائق بابل
المعلقةُ كالجمال الخالد في ذاكرتنا الجمعية
لا قناة “غراند كانيون”
المضاءة بأنوار الغروب الساحر،
ولا الدانوبُ الذي يسكب روحه الزرقاء في أوروبا
ولا القمة المقدسة لجبل “فوجي”
بيدها الممتدة نحو الشمس،
لا الأمازون الأبُ، ولا نهر المسيسيبي الأمُ
اللذان يحتضان أبناءهما – بلا مِنَّة –
في الأعماقِ وحول الضفاف.
عندما نعترف أنّ:
ليست هذه – وحدها عجائب الدنيا.
عندما نصلُ إليها…
نحنُ؛ سكان هذا الكوكب الصغير المنعزل
نحن الذين – كل يوم –
نمدُ أيادينا إلى السيوفِ والقنابل،
وعند الليل
نصلي لأيقونات السلام
نحن البشر…ُ
سكان هذه الذرة من الكون
أفواهنا تلوك عبارات الحقد والحرب
لكنها أيضاً
تصدح بأجمل الأغنياتِ
فيرتبك القلبٌ المتعبُ
ويترنح الجسد في السكينة.
عندما نصلُ إليها
نحن؛ سكان هذا الجسد المتمرد الحرون
الذي خُلق على الأرض
ومن هذه الأرض
عندما نملك القوة
لنجعل من الأرض فضاء
يعيش فيه العاشقان بحرية
بعيداً عن مظاهر التقوى المنافقة
وبعيداً عن الرعب الذي يشلِّنا.
عندما نصل إليها…
نحن العاديون
نحن الاستثنائيون
يجب أن نعترف:
“نحن عجائب الدنيا الحقيقية”
سيكون ذلك فقط…
ما نصل إليها.
…….
نُشرت قصيدة “الحقيقة الجريئة الصادمة” في كتيّب تذكاري في عام 1995 وبعد ذلك نُشرت في ديوان لمايا أنجلو: المجموعة الشعرية الكاملة (المكتبة العامة).
بقلم: ماريا پوپوڤا | ترجمة: مريم الغافرية | تدقيق: مريم الريامية | المصدر