يوصف البروفيسور والناقد الأدبي الراحل هارولد بلوم بأنه القارئ الأكثر غزارة بلا منازع. ومن هذا المنطلق، فإن بلوم قد يكون أفضل من يحدثنا عن دوافع القراءة والكيفية التي نبدأ بها مشروعنا القرائي.
يثار عن بلوم أنه كان يستطيع أن يقرأ كتابا من 400 صفحة ويحيط بما فيه في ساعة واحدة، كما يروى عنه بأنه كان قادراً على تلاوة أشعار شكسبير عن ظهر قلب. وليس ذلك بغريب على بلوم، فهو كاتب استثنائي خط ما يزيد عن خمسين كتابا على مدار حياته وعلق على المئات من الأعمال الأدبية.
يسدي بلوم في كتابه “كيف تقرأ كتاباً ولماذا” نصائح لا تخلو من حكمة للقارئ المتعطش، وفي هذا المقال سنشارككم بعضا من أكثر تلك النصائح تألقا وحكمة.
مقدمة
أعظم اللذات شفاءً
من خبرتي أستطيع القول إن القراءة الواعية هي واحدة من تلك الملذات العظيمة التي تخلقها العزلة، لنقل إنها واحدة من أعظم اللذات شفاء. إنها تأخذك في عزلتك إلى صور غير مألوفة، صور عن نفسك، ربما عن أصدقائك أو حتى هؤلاء الذي سيصبحون أصدقاء. إنه أدب الخيال الذي يصنع كل تلك الصور والحكايات المختلفة، خيال قادر على إطفاء نار الوحدة. نحن نقرأ ليس لأننا لسنا قادرين على التواصل مع عدد كاف من الناس، بل لأن الصداقة بطبيعتها هشة، تنطفئ بعوامل المكان والزمان، وتنتفي بفعل كل آلامنا الاجتماعية، وعواطفنا تلك التي تشتعل في غير موضعها.
القيمة الكامنة في السخرية
السخرية تتطلب مساحة معينة من الاهتمام والقدرة على تقبل الأفكار حتى لو كانت تتصادم مع بعضها البعض. فقط جرب أن تجرد النصوص من السخرية وستجد أن تجربة القراءة تفقد روح الدهشة، وبالتالي يقل دافعك نحو القراءة. انظر من حولك ستجد أن كل شئ تضع له اعتبارا وأهمية يكون فيه جانب ساخر وحتى ولو كان أساتذتك لا يعملون أين تكمن السخرية في الأشياء.
لماذا نقرأ؟
نحن نقرأ بنهم لأسباب مختلفة، بعضها قد يبدو مألوفا بالنسبة لك، حيث أننا لا نملك أساسا جيدا يمكننا من التعرف إلى الجانب العميق من شخصيات الناس، كما أننا بحاجة للتعرف إلى أنفسنا بشكل أفضل، فضلا عن تطلعنا لمعرفة الكيفية التي تسير بها الأمور. ومع ذلك فإن الدافع الآني الأكثر صدقا للقراءة العميقة هو ما يتعلق بالبحث عن أصعب السعادات منالا، تلك الفكرة التي نالت ما نالته من جدل واختلاف. إنني أحثك على البحث عما هو قريب حقا منك من خلال القراءة، شيء يجعلك توازن بين الأمور وتضع اعتبارا لها، لذا اقرأ بعمق، لا لكي تؤمن ولا لكي تتقبل ولا حتى لكي تختلف، ولكن لتتعلم كيف تكون شريكاً في بيئة تقرأ وتكتب.
الجزء الأول: قصص قصيرة
كيف تقرأ القصص القصيرة؟
القصص القصيرة مليئة بالمضامين، وبالتالي تجعل القارئ منتبها طوال القراءة، حتى يستطيع أن يتبين ما يفطن إليه الكاتب والذي لم يشر إليه صراحة. وكما قلت مسبقاً، على القارئ أن يتروى في القراءة وأن يبدأ في الاستماع بأذنه الداخلية. إذ يجعلك هذا النوع من التدبر تستمع إلى شخصيات القصة بقصد وبدون قصد، فقط تأمل في مضامين تلك الشخصيات وكأنك تعرفهم تماماً بدلاً عن الاكتفاء بما تم ذكره عنهم في القصة. وعلى النقيض من غالبية الشخصيات في الروايات، فإن حقيقة ما حصل لهم قبل بدء القصة وبعد نهايتها أمر متروك لك إلى حد كبير وذلك بالاستفادة من التلميحات غير المباشرة في لغة الكاتب.
الجزء الثاني: الأشعار
كيف تقرأ الأشعار؟
حيثما أمكن احفظها في سرك، قصيدة قصيرة، أعد قراءتها مرات عديدة بهدوء، أتبعها بترتيلات إلى أن تتملكك القصيدة. بعدها ستصبح عالقة في الذاكرة وستأسرك وستبدو قادرا على قراءتها بأحكام، وهو الأمر الذي يتطلبه أعظم الأشعار ويجازي عليه.
لماذا نقرأ الشعر؟
نادرا ما يساعدنا الشعر في التواصل مع الآخرين، وهذه المثالية الجميلة تنطبق على الشعر عدا في لحظات غريبة كالوقوع في الغرام. إن الوحدة هي أكثر العلامات التي تصف أحوالنا، كيف لنا أن نجعل تلك الوحدة عامرة بالناس؟ بالشعر، لأنه يساعدنا في التحدث إلى أنفسنا بشكل أكثر وضوحا وكمالا لدرجة أن تسمع ذلك الحديث والحوار بشكل تلقائي غير مقصود وغير مفتعل. نحن نتحدث إلى الشيء الآخر في ذواتنا، أو لنقل أننا نتحدث إلى ما هو كامل وعتيق في ذواتنا. نحن نقرأ لنجد أنفسنا أكثر كمالا وأكثر غرابة مما كنا نأمل.
الجزء الثالث: الروايات
الاختلافات بين الروايات والشعر
في بعض الحالات يجب أن لا تختلف تجربة قراءة رواية كثيرا عن قراءة أعمال شكسبير أو القصائد المغناة. الذي يهم حقا هو ما هويتك ومن تكون، ذلك لأننا نتوقع حدوث أشياء بعينها فندخل في خلاف مع الرواية على أمل أن نصادف شيئا من توقعاتنا، أشياء تشبهنا أو تشبه أصدقاءنا، وإن لم يكن ذلك فلن يتعدى ما نقرأه واقعا اجتماعيا ملموسا سواءً كان معاصراً أم كان من الماضي. الروايات تتطلب قراءً أكثر من الشعر، والعبارة تبدو غريبة بعض الشيء لدرجة الحيرة رغم أنني اتفق معها. تنيسون، برواننج وربرت فروست كلهم لديهم جمهور كبير ربما لم يكونوا أصلا في حاجة لهم. بينما دكنز وتولستوي يمتلكون شريحة أكبر وأوسع من القراء وهم فعلا بحاجة إليهم. لقد بنيت آدابهم لتختلس السمع إليها مجاميع عديدة. لن تستطيع قراءة الرواية على نحو مختلف إذا كنت تعتقد أنك من النخب القليلة التي تقرأها، بينما أنت في الحقيقة جزء من مجاميع عظيمة من القراء.
لماذا نقرأ رواية “دون كيخوته” ؟
قراءة دون كيخوته هي لذة لا نهائية وكنت أتمنى لو أشرت إلى بعض من النواحي المتعلقة بكيفية قراءتها. نحن بل كثير منا شخصيات ثيربانتسية – نسبة إلى الكاتب ميغيل دي ثيربانتس – خليط من الكيخوتية والبانفسكية – نسبة إلى شخصيتين مترافقتين في رواية دون كيخوته – ستبقى دون كيخوته الأولى في عالم الروايات كما كان شكسبير الأول من بين المسرحيين. هنالك جزئان من ذاتك لن تعرفهما كليا إلا بمقدار ما تستطيع، وهما دون كيخوته و سانتشو بانثا.
تساؤل يتعلق بأعظم الروايات
هل تتغير الشخصيات المحورية؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فما الذي يجعلهم يتغيرون؟
مرة أخرى، لماذا نقرأ؟
الاجابة النهائية للسؤال هي أن القراءة المستمرة والعميقة تؤسس وتعزز استقلاليتنا حتى تصل إلى مرحلة تكون فيها أنت نفسك، ولك أن تتخيل كم ستكون مفيدا في نظر الآخرين.
الجزء الرابع: المسرحيات
لماذا نقرأ “هاملت” ؟
لأنه وبمعايير الوقت الحاضر تقدم لنا هذه المسرحية عرضا مغريا لا يمكن رفضه. لقد أصبحت جزءا من تقاليدنا، وعندما نتحدث بلسان “نحن” في ذلك السياق فإننا نعنيه بالفعل. الأمير هاملت هو مفكر المفكرين: يجمع ما بين النبالة والنكبة في الضمير الغربي. أصبحت هاملت في الوقت الحاضر أيضا مثالا للذكاء والفهم بدون أن ننسب تلك الخصلة إلى الشرق أو الغرب أو إلى الذكورة والأنوثة أو السواد والبياض، ولكن ننسبها إلى الطابع الإنساني في أبهى صوره، حيث أن شكسبير يعد من أوائل الكتاب الحقيقيين التي تظهر على كتاباتهم سمة التعدد الثقافي.
كيف تقرأ لشكسبير؟
نتعلم من قراءة مسرحيات شكسبير أن نتأمل في ما تبقى، وهي ميزة من عديدٍ من المزايا التي يتمتع بها من يقرأها خلافا لمن يشاهدها في المسرح. من الناحية المثالية، يجب على الشخص أن يقرأ مسرحيات شكسبير وأن يشاهدها وهو تؤدى بطريقة صحيحة ثم يعود ليقرأها مجدداً. لا بد أن شكسبير نفسه الذي قام بإخراج مسرحياته في مسرح جلوب قد شعر بعدم الرضا عن القصور الذي طال الأداء، رغم أنه لا يوجد دليل فعلي على ذلك. وعلى العموم أيا كانت تعليمات شكسبير فإنه من الصعوبة بمكان تخيل رتشارد بربيج وهو يجسد كل السخرية الكامنة في مسرحية هاملت، وبنفس الدرجة من الصعوبة لا يمكن للمهرج ول كمب أن يحيط بمجاميع الذكاء الغالبة على شخصية فالستاف في مسرحية هنري الرابع.
الخاتمة
في “FS” نتحدث كثيرا عن فوائد القراءة كطريقة للتعلم من خبرات الآخرين وتفادي الأخطاء. ولكن كما أوضح بلوم مسبقا بأن الفائدة ليست محصورة في الذكاء والإنتاجية فحسب.
فالقراءة تساعد في تخفيف حدة الشعور بالوحدة و تساعدنا على التعرف عن قرب إلى كثير من الأفراد أكثر مما لو كنا نفعل ذلك بطريقة أخرى. ومن ناحية أخرى، تمنحنا فهماً عميقاً لذواتنا كما لو أن كلمات الآخرين تعمل كعدسات لتساعدنا على فهم ذواتنا. و على اعتبار أن “السعادة صعبة المنال”، فإن الكتب تتحدى سعادتنا لتجعلنا ننمو. العراك مع النص يعلمنا مقدارا كبيرا عن قدراتنا وقيمنا. فضلا عن القدر الهائل من الرضا والإيمان عندما نبدأ معركتنا. بشكل قطعي تمد القراءة يدها لتساعدك على أن تكون تجسيدا للاستقلالية في أكمل صورها.
نتعلم من بلوم أيضا كم هو ثمين أن تجر انتباهك إلى أصناف كتابية مختلفة. لا يمكن لصنف واحد أن يكون هو المطلوب دائما. فمثلا القصص القصيرة تتطلب القدرة على اكتشاف المضامين والمغازي دون أن يتم ذكرها صراحة. أما الشعر فقد يكون شارحا لنفسه في اللحظات المختلفة إذا ما تم استدعاؤه من ذاكرتنا في حينها. أما الطريقة التي نتفاعل فيها مع التجربة الروائية لها علاقة وطيدة عن ماهيتنا وفهمنا لها كظاهرة روائية رائجة وربما محبوبة عند القراء. تعلمنا المسرحيات عن الكم الكبير من العمل الذي يجري خلف الستار لكي تظهر بالشكل الذي نراه.
للمرة الأخيرة، أتساءل، لماذا نقرأ؟
لأنك ستكون مسكونا بخيالات عظيمة عن إسماعيل الذي فر وحيدا – كما في رواية Invisible Man، وعن أوديبا ماس وهي تحتضن العجوز المعدم – في رواية The Crying Lot 49- وعن الرجل الخفي الذي كان يعد العدة للظهور والسطوع مجددا وكأنه يونس النبي – على حد تعبير الكاتب – خارجا من بطن الحوت، كل الخيالات تعزف إيقاعات أكثر صخبا لك ومن أجلك.
بقلم: شين باريش | ترجمة: حاتم العامري | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر