موت أمي صنع مني كاتبة

مترجم من اللغة الإنجليزية

كثيرًا ما أتساءل كيف عساها أن تكون حياتي لو لم تمُت أمي وأنا طفلة صغيرة. لقد صارعتْ مرضًا عضالا لفترة طويلة حسب ما أتذكر، ولكنها في النهاية استسلمت وفارقت الحياة حينما كنت في الثامنة من عمري.

أتذكر ذلك اليوم بوضوح تام، فربما تظن، بما أنني كنت صغيرة جدًا قد محوت تلك الذكرى الفضيعة من ذاكرتي، إذ أن الأطفال جُبلوا على ذلك، ولكن في ذلك اليوم تحديدًا، كانت مشاعري أبعد من أن تكون طبيعية. لقد انتابني شعور بالارتياح ، ليس لها فحسب، بل لي أنا أيضًا.

ومما أتذكر، كانت أمي تدخل وتخرج من المستشفى باستمرار، تظل هناك معظم الأوقات، وأثناء وجودها في المنزل، كانت تبقى طريحة الفراش تتنفس عبر جهاز الأكسجين طوال الوقت، وأما أنا، كنت استلقي بجانبها على السرير أشاهد برامج ألعاب السبعينيات، في حين كانت هي تروح بين غفوة ويقظة. كان ذلك مدى علاقتنا فعلًا. أعلم أنها كانت تحبني، لا تخطئوا فهمي، لكنني أردت المزيد، كنت أستحق أكثر من ذلك.

وفي أيامها العصيبة جدًا، كانت تستلقي على سرير المرض في زاوية غرفتهما لا ترجو من الله سوى أن يأخذها إليه. أتذكر أنني في إحدى الأيام سألتُ معلمتي في مدرسة الأحد إذا ما كان الله سيأتي ويأخذها لأنها لا تريد أن تظل مريضة هكذا، فما كان منها إلا أن حضنتني وقالت إنها ستصلي من أجل أمي.

أعتقد أن مشاهد الذاكرة تصف ردة فعلي يوم وفاة أمي، فلم أسكب ولا دمعة واحدة. وكإنسانة بالغة أصبحت اليوم أما وجدة، فإنني أشعر بالذنب حيال ذلك. أتذكر أنه في الساعة التي أبلغني فيها والدي بوفاة أمي سألته ما إذا كان بإمكاني الذهاب للعب مع صديقتي ميتزي. يبدو ذلك غريبًا بالنسبة لي الآن، أنا حقًا خجلة من ذلك التصرف.

كنت قريبة جدًا من أبي، حيث كان هو سندي ، فعلى الرغم من كل ما كنت أفتقده في علاقة الأم بالبنت في صغري، فإن والدي كان يحاول تعويضه بعشرات الأضعاف. كان ذلك صحيحا حتى تزوج مرة أخرى، فقد تغير الأمر قليلًا بعدها. لم يتغير حبه لي أو ينقص، ولكن قطعا اهتماماته وانتباهه قد تحول إلى شيء آخر.

لم يكن ذلك متعمدًا من جهته، فقد كان ما يزال يتألم لفراق أمي، وفي نفس الوقت يقاسي مرارة الوحدة. للأسف، كلما قل شعوره بالوحدة، زاد شعوري بها.

لا أريد أن أدخل في تفاصيل العلاقة بيني وبين زوجة أبي، فبصراحة، المشاعر التي صاحبت ذلك الجزء من حياتي سيئة أكثر من كونها جيدة. لم أسمح لتلك الذكريات بأن تتحكم بي. فمنذ كان عمري تسع سنوات حتى منتصف الثلاثينات، ركزت على التأقلم، وليس على عيش يومي وحسب، ولهذا السبب، أتمنى منك عزيزي القارئ أن تسامحني على قلة التفاصيل.

يتطلب الأمر أكثر من مجرد التحمل لتجاوز العقبات التي واجهتنا في طفولتنا، وأن نكون سعداء حقًا بما نبدو عليه. ولا بد أن نتوصل إلى الإدراك بأن الآخرين لا يحددون من نحن، ولا يتحكمون بنا، هم ليسوا نحن.

كان لدي معلمة في الصف الثاني اسمها أور، علمت بمرض أمي، وعلى الرغم من أنني في ذلك الوقت لم أعتقد أن مرضها كان يؤثر عليّ حقًا، إلا أن تلك المعلمة استطاعت أن تراه بوضوح.

قالت لي: “عندما تشعرين بالحزن، اكتبي على قصاصة من الورق لماذا أنت حزينة وأعطها لي” وكانت هي بدورها تأخذ جميع تلك القصاصات بما فيها من خربشات وأخطاء نحوية وتلفها ثم ترميها في سلة المهملات، ثم تقول “حسنًا، كل شيء على ما يرام”. قد يبدو ذلك سخيفًا، لكنه نجح في مواساتي.

أتساءل ما إذا كان لدى السيدة أور أي فكرة عن مدى التأثير الذي أحدثته فيََّ، لم تعلمني التأقلم فحسب، وإنما كانت أول شخص شجعني على الكتابة. سأظل مدينة لها بذلك إلى الأبد.

غيرتْ السيدة أور الصفوف التي تدرسها في منطقتنا، وكنت محظوظة بأن درستني اللغة الإنجليزية مرة أخرى في الصف السابع. كانت لطيفة جدًا في أول يوم دراسي، إذ أخذتني جانبًا بعد انتهاء الدرس وقالت لي إنها سعيدة بأنني صرت تلميذتها مرة أخرى. وفي ذلك الوقت، تطورت كتابتي إلى شعر، واعتدت إطلاعها عليه. كانت دائما مشجعة وداعمة لي، أؤمن كثيرًا أن القدَر أتى بها إلى حياتي لحكمة.

كانت الكتابة جزءًا كبيرًا مني، وحتى وقت قريب، اعتدت مشاركة ما أكتب مع قلة من الناس، لا يعني ذلك أنني كنت أشك في موهبتي، ولكنه الشيء الذي كنت دائمًا ما أجد فيه السلوى ولم أرد له أن يُفسَد.

تعرفت صدفةً على كاتبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وصرت أتابعها من فترة لأخرى. قاسينا كلانا نفس الظروف، وكانت هي أيضًا تكتب عن تجربتها الشخصية. دُهِشْتُ من الصراحة والشفافية في كتاباتها وكنتُ أغبطها على شجاعتها وقدرتها على مشاركة كتاباتها مع العالم، فأردت أن أفعل الشيء نفسه.

وبسبب حماسي الشديد، قررتُ مراسلتها وطلب النصيحة. في الحقيقة، لم أتوقع أن يصلني منها أي رد. يا إلهي، إنها كاتبة ناجحة، وشاعرة، وكاتبة عمود، وممثلة تعيش في دولة أخرى، بالطبع إنها كثيرة الانشغال، ولكن لدهشتي الكبيرة، وإجابةً لآمالي، تلقيت ردًا منها. إنها فانيسا دي لارغي تلك الجوهرة النادرة التي يَأسِرُكَ بريقها الساطع.

أصبحنا صديقات عن بعد، وكانت بالنسبة لي بمثابة مرشدة مبدعة ورائعة، إذ ساعدتني على نشر أشعاري ومقالاتي في غضون أسابيع فقط، الشيء الذي حلمت به كثيرًا، ولم يخطر ببالي أنه سيصبح حقيقة.

منذ حوالي شهر، كتبت فانيسا مقالا عن والديها، أحببتُهُ كثيرًا، واقتنعتُ أكثر من أي وقت مضى بأن أرواحنا متآلفة، وأخبرتُها كم أحببتُه، واستطعتُ أن أجد تقاطعًا كبيرًا بين تجربتها وتجربتي. وفي نهاية محادثتنا، أخبرتْني أنها تعتقد بأن أمي ستكون فخورة لو أنها رأت كتاباتي.

وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة شعرت أخيرًا بأن هناك شيئا حقيقيا يربطني بأمي. أعتقد فعلًا أنها ستكون فخورة وسعيدة لأجلي.

لم تكن حياتي سهلة، ولكن كتاباتي كانت متنفسًا رائعًا. وربما قد بدأت رحلتي الإبداعية لمساعدتي على التأقلم في طفولتي، ولكنني كنت محظوظة للغاية لأنني وجدت نساء مثل هؤلاء لتشجيعي على جعل الكتابة أكثر من مجرد وسيلة للتأقلم.

لو لم أفقد أمي، فهل كنت سأصبح كاتبة اليوم؟ لا أعرف الإجابة على هذا السؤال ولا أريد أن أعرف. كل شيء يحدث لسبب، أنا مؤمنة بهذا المفهوم، لا يظهر الناس في حياتنا صدفةً وإنما يضعهم القدر في حياتك قصدًا.

جميعنا نمتلك مواهب مَنَّ اللهُ بها علينا، يجب علينا أن نتبنى تلك المواهب، ونُشارِكَها مع الآخرين. نحتاج إلى تسخير تلك المواهب لمساعدتنا على التأقلم والتعافي، ليس لأنفسنا فحسب، إنما ليستفيد منها الآخرون أيضًا. أرغب بأن أهدي هذا المقال لأمي، وأريدها أن تعلم بأنني آسفة لأنني لم أتمكن من البكاء عند وفاتها ولكنني ذرفت ملايين الدمعات بعدها، وبفضلها أصبحت كاتبة.


بقلم: جولي كايسي | ترجمة: شيخة الجساسية | تدقيق: حاتم العامري | المصدر

Exit mobile version